ممدوح بيطار ,عثمان لي :
لاشك بأن التطورات في القرن العشرين قادت الى تغيير عددا لابأس به من الأنظمة , الا أن هذه التطورات لم تتمكن من التأثير على الوعي الجمعي , والوعي الجمعي لم يتأثر بها , من هنا يمكن القول بأن هذه الحركات التي كانت احدى بداياتها في مصر عام ١٩٥٣ , لم تكن حقيقة ثورات , انما انقلابات عسكرية مخصصة لتغيير نظام ما ,لربما نظلم الانقلابيين عندما نطلب منهم أكثر من ذلك .
بدون شك تغير وتطور الوعي الجمعي في العقود الأخيرة بعض الشيئ , ليس على يد الانقلابيين من العسكر , انما على يد التقنيات الجديدة في الاعلام , تقنيات ساهمت الى حد بعيد في التحرر النفسي من الاستبداد , لم يكن لهذا التحرر أن يولد تحت سوط المستبد القديم , ولا تحت سوط المستبد الجديد , الذي أطلق على نفسه اسم ثائر وعلى حركته اسم ثورة .
لم يغير الثائر الديكتاتوري وثورته الشكلية سوى اسم المستبد , بقي شعراء البلاط كما كانوا , وحتى المفردات القديمة وجدت استعمالا لها في الأنظمة الجديدة , مثل الأب انور السادات , والأخ العقيد معمر ثم التأليه , ثم انجازات الحزب القائد في التصدي الى مؤامرات الاستعمار … الخ , بقي التملق للمستبد الجديد على حاله , وبقي فريق الامتيازات بأسماء جديدة على حاله , وبقيت سلطة الآيات , لابل ازداد تواتر استخدامها , لأن السيد الثوري لم يكن سوى أصولي مقنع بقناع ثوري , لذلك كانت هناك تحالفات بين هذه الأنظمة” الثورية!” وبين الأصوليات الدينية , تأرجحت العلاقة بين الأصولية الدينية وبين الأنظمة الأصولية الجديدة بين الوئام تارة والخصام تارة أخرى , هاهو عبد الناصر يدخل في القانون المصري كل ما اراده الاخوان في نفس العام الذي اعدم به سيد قطب ,نماذج من هذا النوع مألوفة في العديد من الأنظمة العربية !.
تغير الوعي الجمعي بشدة نسبية تحت تأثير تقنيات الاعلام الحديثة , هاهي العلمانية بعمر لايتجاوز ال ٣٠ عاما في هذه المنطقة تهدد الأصولية بعمر تجاوز عشرات القرون , هاهي طبقة شعراء البلاط تتحول الى نمرة تهريجية , هاهي سلطة الآيات تتهاوى وتتحول الى وصلات فولوكلورية , من يريد انجاز كل هذه التطورات والكثير غيرها خلال ٢٤ ساعة سيفشل , لأن انجاز تلك المهمات العظام في وقت قصير مستحيل .
النظرة المتأنية المتعمقة للوضع بشكل عام تكشف ولادة فكر جديد , فكر لايزال في مرحلة الطفولة ,يتعثر احيانا , مما يوحي للمراقب المتشائم بانعدام وجود فكر جديد , لايلم الفكر السطحي بآليات التاريخ وسرعة تطوراته , التي يدركها الفرد المستعجل على انها سكون مطلق , يتوهم من ينتظر من التطورات الاجتماعية الخاصة بالشعوب آلية العصا السحرية , الثورات لاتتم بالفرمانات والتمنيات , من ينتظر من ثورة تغيير الوعي عليه ان يكون صبورا , عندما سؤل رئيس الوزراء الصيني شو ان لاي عن الثورة الفرنسية قال ” مازال الوقت مبكرا للحكم على هذه الثورة ” كانت ذلك بعد مئات السنين من اندلاع الثورة الفرنسية.
يدعي البعض بأن سبب فشل بعض ” الثورات ” العربية عاد الى عدم وجود قادة محددين لهذه الثورات , بينما نعتقد العكس من ذلك , فنبذ شخصية القائد الملهم والذي تحول في العديد من الحالات الى مزمن هو بحد ذاته ثورة ضرورية كما أكد غيفارا ذلك , انه انجاز ثوري عميق , انه تحرر من النموذج الفردي الملهم والقائد الأوحد , انه تمنيع ضد التنكص الى القصور والديكتاتورية ,التي تنكص اليها العديد من الثوار الحقيقيين مثل كاسترو الذي حكم حوالي ٦٠ سنة , قد يكون هناك من ناحية التطور المتعلق بالعمر بعض التشابه بين العنانة الجنسية وبين العنانة السياسية.
في السياق الثقافي الجديد الذي قام على المعلوماتية والتواصل الاجتماعي , يمكن تقسيم مواقف المثقفين تجاه موضوع الثورة الى ثلاثة أقسام :
اولا: المثقف السلطوي , الذي ترتبط مصالحه الشخصية بالسلطة , يدافع عن النظام حتى النفس الأخير ,هنا يقيد هذا المثقف نفسه بمشهد كاركاتوري ببغائي , يردد الرواية الرسمية للنظم , التي لم تر في حراكات الشعوب ثورة انما مؤامرة, هنا يتنازل مثقف السلطة عن نظام المعرفة في استقصاء الحقيقة والانتصار لمبادئ الحرية ,وينخرط في لعبة الزبائنية للسلطة, أي يتحول الى “مأجور ” للسلطة يمارس مديحها ويتجاهل أخطائها , وبالتالي يفقد شرعيته ومصداقيته.
ثانيا : المثقف النقدي, الذي وجد نفسه بحكم وظيفته المعرفية النقدية ملتزما بمهماته كمواطن يدافع عن الحرية والعدالة الاجتماعية , يدافع هذا المثقف عن الفكر الثوري التغييري التنويري وعن شرعية ثورة التغيير والتطوير ويساهم في مواجهة الرجعية والتراثية ويحارب احتلال الماضي للحاضر اي يواجه ثقافة الموت ويدافع عن ثقافة الحياة .
ثالثا : هناك المثقف الجمعي الميداني , الذي لايحدد نشاطه بايديولوجية النظرية ولا يفصل بين النظري والعملي او بين النخب والشعب , وبين المواطن والمفكر , المثقف الجمعي ديناميكي وعقلاني , ثم أنه عملي ولا يحدد نشاطه ببرنامج حزبي معين , انه عموما منفتح وصوت من لاصوت له!.
Post Views: 160