ممدوح بيطار :
تختلف السلطة السياسية الحديثة عن القديمة , مفاهيم مثل الامامة والخلافة … وما الى ذلك مرتبط بمفهوم محدد للسلطة , مفهوم يختلف بين القديم والحديث بشدة , عدم مراعاة ذلك في التحليل والدراسة يقود الى خلل كبير في ادراك أحداث الزمن ..ماضي وحاضر , , قديما ارتكز مفهوم “السياسة الحيوية” على ارسطو وتعريفه للمخلوق البشري بأنه حيوان سياسي , يختلف عن حيوان الغابة بخاصة السياسة , وفي تعريف آخر أعتبر الانسان حيوان ناطق يتميز عن حيوان الغابة بخاصة النطق أو الكلام , على أي حال هناك تكامل بين السياسة والنطق أو الكلام فكل منهما ضروري للآخر, لاعلاقة لهذا الثنائي مع الحاجات الجسدية العضوية الأخرى مثلا الماء والغذاء وغيرهم .
تتميز السلطة السياسية القديمة بكونها قامت على السلب والنهب والاستغلال والاستبداد بشكل عام , مع وجود بعض التباين بين قديم وقديم آخر , الا أن الأمر تغير في القرن السابع عشر , تغيرت السلطة بشكل جوهري , تمثل بنزعة جديدة مضمونها تقوية الجانب الحيوي من السلطة اي الجانب الشعبي , لم يعد السلطوي مسيطرا على حياة الفرد بالشكل القديم و لكل ذلك كان العديد من الأسباب , التي تصدرها نشوء الرأسمالية , التي تحتاج الى انتاجية الانسان ,وباالتالي الى كفاءته العقلية والعضلية , الذي مثله “الجهد الحيوي” أي العمل الذي تحتاجه الرأسمالية في الانتاج , لذلك اقتحم العامل الحيوي أي الجهد الحيوي عالم السياسة والسلطة , فحسب أرسطو كان الانسان حيوانا سياسيا ناطقا , أما حديثا فقد أصبحت السياسة حالة حيوية تفاعلية بين الحاكم والمحكوم بل بالأحرى لم يعد هناك حاكم ومحكوم بل مشاركة في ادارة شؤون الحياة , جوهر السياسة أصبح الانسان الحيوي ومصالحه واهتماماته . بحيث يمكن القول مبالغة بأن العبد تحول الى السيد , العمل من خلال الانسان الحيوي أصبح ضرورة لرأس المال أكثر من ضرورة رأس المال له .
أسس اليونانيون للفرق بين الحياة الحيوية المجردة وبين الوجود السياسي أي بين الطبيعي للحياة كما كانت في عصر الحجر وبين الحديث السياسي المعبر عن وجود قانوني شرعي للانسان , يختلف الوجود الطبيعي للانسان عن الوجود القانوني السياسي , بكون الأول اقصائي للغير من البشر ومن ثم اخضاعي لهم , كما هو الحال بين القبائل البدوية المتميزة بنزوة اخضاع الآخر بعد اقصائه , مما يتطور عادة الى حالة من التحارب المستمر بينهم , الوجود القانوني السياسي اندماجي ويعتمد على التضافر بدلا من التنافر , وعلى المساواة بدلا من الطبقات , اضمحلال الوجود السياسي القانوي يقود الى الانسان حياة الحجر الطبيعية والى البدوية .
اين نحن الآن من الانسان القانوني الشرعي ؟ ,حتى نظريات أرسطو تعجز عن توصيف حالتنا , فحسب أرسطو يجب أن تكون مخلوقاتنا البشرية حيوانات ناطقة , الا أننا لاننطق وليس من المسموح لنا ممارسة غريزة الكلام وليس من المسموح لغريزة الكلام أن تعبر عن أفكارنا , وحسب أرسطو يجب أن تكون مخلوقاتنا البشرية حيوانات سياسية , الا أنه لاعلم لمخلوقاتنا بالسياسة , السلاطين حذفوا السياسة من حياة مخلوقاتنا , وحذفوا النطق وغريزة الكلام من حياة مخلوقاتنا , بذلك تحولنا حسب أرسطو وتبعا لارادة السلاطين الى حيوانات تعيش في حديقة حيوانات مساحتها هي مساحة الأوطان( حسب تعريف الشاعر المرحوم أحمد النعيمي ).
تحولنا حاضرا الى حيوانات صامتة لاسياسية , أما ماضينا فهو أب وأم هذا الحاضر , اين كنا عندما فكر وكتب أرسطو وسقراط وأفلاطون في اليونان , وغيرهم من آلاف الفلاسفة اليونانيين عن الانسان السياسي وعن الحيوان السياسي الناطق وعن الانسان الفطري الطبيعي بلغة وكأنها لغة هذه الأيام , ورثت البشرية عن اليونانيين مفهوم الديموقراطية والفلسفة اللتين كانا أساس مفاهيم الحرية الفردية, ومن يصدق على أن أرسطو بلغ من العمر الآن ٢٥٠٠ تقريبا؟ , كتب الكتب والمجلدات الى جانب عدد كبير من فلاسفة اليونان , انتجوا حضارة وفلسفة مثلت البنية التحتية للحضارة الأوروبية الحالية وللحضارة الانسانية بشكل عام . كان القانون أخص خصائص الروح الرومانية وأكثر مظاهر هذه الحضارة استمرارا وديمومة , وروما كانت مضرب المثل في النظام والقانون , واليونان مضرب المثل في الحرية والديموقراطية خاصة الحرية الفردية ,
أين كنا عندما وضع الرومان القوانين وكتبوا الكتب حول الدولة التي عليها ان ارادت البقاء الاعتراف بالحقوق التي تربط مواطنيها مع بعضهم البعض وبين الدولة , التي وصفت حتى في ذلك العصر بكونها معنوية اعتبارية(شيشرون ) , تعريف يوازي في معناه دلالة الكومنولث الانكليزي . القانون قال ,أ- الدولة وقانونها ملك للناس محتمعين وسلطتها تنبثق من قوة الأفرد مجتمعين ب- استخدام القوة سياسيا أي الاستخدام السليم القانوني هو في الحقيقة استخدام لقوة الناس مجتمعيى ( نظرية ماكس فيبر عن احتكار الدولة للعنف , القرن العشرين )سـ- الدولة تخضع للقانون الأعلى الذي يسمو على التصرفات البشرية والمنظمات الدنيوية.
لو قارنا حالة البدوية قبل ١٤٠٠ سنة مع الحالة الرومانية -الهيلينية قبل ٢٠٠٠ الى ٢٥٠٠ سنة لوجدنا فروقا رهيبة , ورث الغرب الحضارة الرومانية -الهيلينية , وورثنا الحضارة البدوية , وعند المقارنة بيننا وبينهم في الوقت الحاضر نكتشف فروقا شبيهة بفروق الماضي , لو القينا نظرة على مسألة نشوء الحضارات ثم دوام هذه الحضارات وااستمرارها واستعنا بابن خلدون وبتوينبي لوجدنا بأن وضع الحضارة نشوءا واستمرارا متعلق بثنائية الحركة والجمود , لم تقتدر البدوية على تحرير نفسها من الجمود , ولا نقتدر لحد الآن تحرير أنفسنا من الجمود , لذلك كان التأخر القديم الذي ورثناه حديثا , لم يعرف الرومان واليونان أكثر من الحركية والانفتاح لذلك كانت لهم حضارة تؤثر لحد الآن على البشرية , اين هم ورثة البدوية من ورثة اليونانية والرومانية الآن ؟؟؟