بقلم:أحمد معاذ الخطيب
إهداء إلى إخوة أكراد كثر .. بدأت رفقتي معهم منذ عام 1978 وبعضهم مضى إلى ديار الحق ، وبعضهم ما يزال في الطريق .. وما بدلوا تبديلاً ..
تعرفتُ على سلمى منذ ستة وث…لاثين عاماً ، وهي قرية رائعة في جبال الساحل ، وكان أجمل ما فيها بالنسبة لي ، رغم طبيعتها الفاتنة صوت الشيخ سالم في صلاة الفجر يعبق مع نسائم كأنها من الفردوس ، وهو يصلي بنا في المسجد الملاصق لمكان إقامتنا ، وقد اكتشفت أنا وهو لاحقاً أنه كان زبوناً قديماً لي في دمشق عندما كنت أخطب في المساجد.
تجددت ذكرياتي بطريقة موجعة عن سلمى ، عندما حشرتُ في زنزانة ضيقة مع أكثر من سبعين معتقلاً في فرع فلسطين ، وكان أبو مصطفى أحدهم وهو من أبناء سلمى الأشداء ، ولا يستطيع أحد أن يصف الألم الذي كان يعانيه ، فقد كان يمشي بصعوبة على عكازين ، رُبط على أحدهما كيسٌ يتدلى منه سائل أصفر ، بينما تبدو آثار جراح لا استطيع وصفها وينز الدم من جرح كبير ضُمت وخيطت أجزاء اللحم فيه بشكل غير متقن ، وفهمت أنه اعتقل بعد اشتباك مسلح في جبل الزاوية ، وقد وضع أحد الأنذال فوهة الكلاشينكوف على ساق الرجل مباشرة ، وأطلق النار ، بحيث تفتت عظم الفخذ بشكل مرعب.
رغم ذلك كان معنويات الرجل كافية لتوزع على مدينة بكاملها ، وكان يقول بعزيمة ترافقها ابتسامة آسرة : مهما فعلوا بنا فأقسم بالله أنا لن ندعهم حتى نحرر سورية من ظلمهم ..
أذكر هذه القصة التي في ذاكرتي عشرات منها ، لأقول أن هذا الرجل كان من الإخوة الأكراد (وكثير من القرى هناك يرجع سكانها إلى أصول كوردية) ، وهو لم يتكلم بذلك ، ولكنه ضم سورية كلها في روحه ، ووضع دمه على كفه ، وهو النموذج الرائع التي التحم مع سائر إخوته في جهاده ثم في سجنه ، بل حتى في صوته الأجش عندما كنا نقرأ القرآن الكريم أوننشد بعض الأناشيد في غفلة من السجان.
لايهمني عدد الأحزاب السياسية في أي مكون ، ولا أسماء القيادات السياسية في هذا الزمن المر ، فقد تعلمت أن العديد منها أقرب إلى فقاقيع الصابون ، وأن الجلخ الإعلامي يبرزها أو يخفيها ، وأن الشعوب تبقى والواجهات تفنى ، وتعلمت أيضاً أن قصة أبي مصطفى هي نموذج مصغر عن كثير من أبناء شعبنا من كل مكوناته الدينية والعرقية والطائفية ، وأن الصور التي تعطي لهذه الجهة أو تلك هي عين التزوير ، فما زال شعبُ سورية رغم كل ماحدث شعباً واحداً ، ينقصه الكثير ، ولكنه في أعماقه يمشي شامخاً بساق أبي مصطفى ، ويدوس بها ظلم نظام فاجر ، وانتهازية قادة سياسيين ، ومكر دول كثيرة تحاول بكل طريق أن تدمر شعبنا وبلدنا.
تعلمت أن صورتنا كلنا قد يتبادل رسمها كمال حمامي أوأبو فرات أوغياث مطر ، و قد تكون من أدق اللوحات الكردية المؤثرة صورة أبي مصطفى ، وربما تكون من أبدع اللوحات المسيحية تلك المنمنة الرائعة التي أبدعها باسل شحادة ، وربما يصوغ لوحة العلويين البسطاء الذين يفتك النظام بهم رجل يرفع صوته كالعقيد مصطفى شدود أو يصر بعناد على موقفه كالعقيد وجيه هواش ، والذي كان في نفس الجبل الأشم الذي اعتقل فيه ابو مصطفى ، ووضعت رصاصة في رأسه مثل أبي مصطفى تماماً ، لأنه رفض قصف قرى آمنة كان فيها مدنيون ربما كانوا أقرباء لأبي مصطفى الثائر..
كان أولئك المخلصون لبلادهم يحملون أرواحاً قلقة ، ترفرف في وطن حزين ، وتظلل كل من في سورية ، وتلم أشلاءهم ، وتقول لنا جميعاً: مالسورية نجاة إلا أن تكونوا قلباً واحداً ويداً واحدة.
لم يُبق النظام بيتاً ضده أو معه إلا وأدخل إليه التوابيت والأحزان ، ولكن ماهو مطلوب حقاً أن تستيقظ كل نوازع الخير فينا دينية أو أخلاقية أو وطنية، وأن نحس رغم كل جراحنا بكل أجزائنا التي يطلق عليها النار من مكان قريب لتفتيتها ، تماماً مثل ساق أبي مصطفى ، والتي بقي يمشي عليها وعزيمته الماضية وعيناه تلمعان بإصرار وصدق ، قائلاً هذا الوطن لن يكون إلا لأبنائه ايها الظالمون.
ننزف من كل مكان ، دمنا يسل من جراح لا عد لها ، أحزاننا لا يمكن أن تحتويها السطور ، ولا بعض الفضائيات ، جراحنا أكبر من الألم ، تمتد من حوران إلى الغوطة الشرقية والغربية إلى القلمون فحمص فحماة فإدلب وحلب فالجزيرة … ولكن من أمضّها وأوجعها اليوم ما يجري لأهلنا في منطقة ديشتا سروج (أي سهول مدينة سروج ، ويقال أنه أحد آباء ابراهيم عليه السلام ، وسميت قديما كوباني ، ثم عين العرب ، وكلاهما اسمان عمرهما أقل من مائة عام). والممتدة بين تل أبيض وإعزاز ..
ليس المهم الاسم بل مايحصل من تهجير جماعي ، وانتشار للجراد هناك ، وتدميرٍ لأواصر محكمة ، ووشائج قربى ، وتاريخ وحضارة.
هل تلزمنا مئات السنين من المحن حتى ندرك اننا جسد واحد ، كنا وسنبقى ، وأن كل سياسات العالم ستتناثر وتتلاشى في حال بقينا معاً ، ومددنا أيادينا وفتحنا قلوبنا وبيوتنا لبعضنا ، كما كنا وسنبقى.
هل نحتاج لنذكر أن إخوتنا وأهلنا الأكراد تحيط بهم ذئاب كاسرة من كل صوب ، وأنهم كانوا من السباقين لنصرة شعبنا الجريح ، ووقعت كل آلامه جراحاً غائرة أدمت قلوبهم فكانوا من أوائل من انتفض في ثورة الحرية والكرامة ، استجابة للشام وحوران وحمص.
هل تلزم إعادة التاريخ لنقول أننا ُظُلمنا جميعاً ، ووقع بأهلنا من الظلم ماوقع بنا وربما أكثر ، وان سياسات الدول تلاعبت بنا وبهم ، لا نصرة لنا ولا لهم ، بل لتمر فوق أجسادنا وجثثنا من أجل مصالحها.
هل ننسى ولا ينسى إلا اللئيم أن خُلُقنا وديننا وفطرتنا تدعونا إلى معرفة النعمة وذكر الجميل ، وأننا كعرب ندين بالفضل إلى إخوة كورد جمعتنا بهم وشائج أقوى من أن تنصهر ، وأن بعضهم كان له سبق حتى في المحافظة على وجودنا الديني والقومي ، ابتداءً بصلاح الدين الأيوبي (القائد الكوردي العظيم) ، فالإمام بديع الزمان النورسي (الأب الحقيقي للحركة الإسلامية في تركية) ، ثم محمد كرد علي (رئيس مجمع اللغة العربية ، والمنافح عن العروبة والإسلام ، فأحمد شوقي (أمير شعرائنا وأبدعُ من ملك القوافي) ، وغيرهم كثير ..
يا أيها الناس .. كلنا نباد ونضطهد ونُهجّر ونسجن ونعذب ونقتل ،عرباً وكورداً ، مسلمين ومسيحيين ، مؤمنين ومعرضين .. إنهم يقتلون كل شيء فينا ومنا ، ومامن دواء لهذا البلاء إلا أن يستيقظ الإنسان فينا ، ويكون معه إيمان بالحق وإصرار عنيد عليه ، ويمتد ألمُ كل واحد منا فيتداعى له كل واحد منا وكل جزء فينا بالسهر والحمى ..
يا أيها الكورد الأحبة ، دمنا من دمكم ، وهمكم من همنا ، ودموعكم من مآقينا وشيوخكم كبار فينا ، ورجالكم إخوتنا ، ونساؤكم أخواتنا وحرائرنا ، وأطفالكم أبناء لنا ، وكل صرخة ألم منكم فمن قلوبنا ، وكل أذى يصيبكم فعار علينا جميعاً.
أدعو كل أبناء شعبنا السوري وكل من يناصر قضيتنا في الحرية ، أن يبذل جهده إعلامياً وسياسياً في فضح ما يجري لأهلنا في كوباني (عين العرب) وما حولها ، وأن يتبرع كل قادر بما يطيق من مال أو كساء أو غذاء ، إلى الجمعيات الإنسانية الموثوقة في المنطقة ، لإنقاذ أهلنا وشعبنا الذي يباد ، وتتفرج دول كثيرة عليه ، لتستثمر دمه وآلامه فيما تبيته من الفخاخ والمكائد لنا جميعاً.
لقد أطلقوا عليك النار يا أبا مصطفى بالكلاشينكوف يوماً ، والآن يطلقون النار على شعبنا الأعزل بالدبابات والمدفعية الثقيلة ، وتطلق الدول يد صنائعها ذبحاً وتقتيلاً وتهجيراً ، ولكن من كان فيهم مثلك يا أبا مصطفى فلن يلينوا ، وستبقى راية الحرية تشدهم وتحدوهم نحو فجر قريب.
وللأوطان في دم كل حر ….. يدٌ سَلَفت ودينٌ مُستَحَقُّ.
وسلام الله عليكم يا أهلنا في كل مكان وحين.