سقطت كل العناوين، وصار الدواعش والحوالش هما العنوانان الأساسيان في المنطقة. قد لا يكون في الأمر غرابة، وربما الشيء الوحيد غير المألوف والخارج عن السياق هو تلكؤنا في التكيف مع هذه الوضعية، أو أننا حتى اللحظة لم نهيء أدوات عبور المرحلة، من لحية وجلابية وعمامة وسيف، ولكن لحظة، ألا تحتاج المرحلة لخوارجها؟ إذا فلنبق حيث نحن لنكمل عناصر المشهد.
عبثاً تحاول بعض النخب الصراخ الناعم في لحظة الهياج الأصولي، وهي تجلس في أبراجها العاجية، تدافع عما تعتقده نمط حياة وأسلوب تفكير يليق بأهل المنطقة، في هذا المستوعب الذي تطوّقه نيران الأصولية والطائفية والقبلية والاستبداد، وعبثا تمانع الالتحاق بأمير جهاد أو سيد مقاومة، فيما هي تفقد، يوما بعد آخر، هوامش قدرتها على المناورة، نتيجة الزحف الأصولي العسكري على منابرها وملاعبها وخطوط سيرها، ربما لم تنتبه تلك النخب أنها تعيش لحظات حصارها الأخيرة، بعد أن جرى تطويقها بإحكام، لينطبق عليها الشعار القائل» الخضوع أو الخشوع».
المرحلة مرحلة دعش وحلش وعفش. وفي هذا المناخ، صار التدريب على القتال وأسلوب إدارة المعارك، هي الصنعة الأكثر رواجا هذه المرحلة في المنطقة، ما دامت اللحظة لحظة قتال، والقتال هو مفتاح المستقبل وعنوانه. مفاتيح المستقبلات البديلة لم يعد لها وجود، فقد جرى حرزها بعد ضبطها متلبسّة وخائفة. الغالب، أننا نعيش اللحظات الأخيرة من حياة المدنية أو من الحياة خارج ميادين القتال.
في الأصل لم تثمّر منطقتنا حالة مدنية صلبة، ولم تعمل على صناعتها وتهيئتها. ظلّت المدنية حالة ترفية وطوباوية تمارسها نخب معزولة وهامشية في الغالب. لم تستطع الانخراط بما فيه الكفاية في المشهد الاجتماعي الذي ظلّت تشكله قوى ذات طبيعة عصبوية، ولكنها أكثر تجذرا وفهما للواقع، أما الحالة المدنية( الهامشية) فقد تم السماح بها لمرونتها وديكوريتها في آن، فهي تسمح للداخلين فيها التزين بمنتجاتها من دون أن يمنع ذلك الخروج من بابها الخلفي، وإعادة التموضع ضمن الأطر اللامدنية، سواء كانت مذهبية أو قبلية أو عسكريتارية.
في هذا المناخ، لم يكن صعبا ولا محرجا الكشف عن الانتماءات الحقيقية والتخندق خلف متاريسها الإيديولوجية. لا شيء يمنع، الواجهات الدستورية والسياسية، وشعارات الوطنية والمدنية، وإفرازاتها الحداثية من أحلام بصناعة أوطان تبلغ السما، لم تكن سوى تماثيل من تمر، سرعان ما ابتلعها صناعها حينما دقت ساعة الجوع للاقتتال ونهم الغلبة والثأر.
طوفان من الشباب الراقص وهو يسير على سكة الذهاب لميادين القتال، وأجيال يجري تدريبها وتجهيزها بعد أن يتقاعد الجيل الحالي، وكل ذلك تضمنه دينامية زاخمة يجري ترشيقها بالتلطي وراء المظلوميات، وليس مهما من ظلم من، الظلم هنا هو بقاء الآخر محتفظاً بحياته ووجوده وكرامته، مظلومية شيعية تقابلها مظلومية سنية، وحرب إبادة على السنة وحرب إبادة على الشيعة، وهذا النمط من الحروب لا يحتمل وجهات النظر المخالفة، المهمة المقدسة الحالية هي القضاء على الطرف الآخر، وبمنطق المظلومية، الدفاع عن النفس في مواجهة تلك الحملة.
هل ثمة خيارات لاصطفافات خارج تلك السياقات؟ الدواعش والحوالش ليست أحزاب سياسية أو تنظيمات حديثة يملك الشخص حرية اختيار تأييدها او رفضها. بالأصل، هي لا تتعاطى مع الأمر وفق هذه الصيغة، هي تنظر للناس بوصفهم بيئتها، ولذا يفترض تكيف تلك البيئة مع منطق هذه التكوينات، بعد توبتها وبراءتها من كل علق بها من لوثات خارج الطوطم المذهبي المقدس.
هل ثمة بدائل لهذه الحالة؟ إذا كان الجامع الوطني المشترك، الممثل بالدولة، لم يكن سوى حالة عابرة قبلتها المكونات إلى حين اشتداد عصبها، وإذا كان التعايش المجتمعي لم يكن سوى لحظة تمرين على التكاذب والخداع بهدف تقطيع المرحلة، وإذا كانت النخب ليست سوى «أراكوزات« للتسلية وللمساعدة على تجاوز مراحل الضجر التي فرضتها عطالة المجتمعات عن القتال، فأية بدائل أخرى يمكنها اختراق دائرة الحرب الجهنمية؟
يحتاج ذلك في الغالب إلى تفكيك البنى الصانعة للأزمة، وتلك بدورها تحتاج إلى آليات لا توفرها اللحظة، الأسلم والأصح، هو أن تكمل الحرب دورتها. وإلى ذلك الحين، سيبدو كل شيء خارج هذا السياق نشاز وضرب من العبث، المنطقي أن يلتحق كل منا بأميره وسيده ويعتمر عمامة ولفة ويتدرب على أساليب القتال وفنونه، لقد تجاوزنا فرص السماح للبقاء خارج هذا النسق.