طويل القامة. عريض المنكبين. مفتول العضلات. يمشي رافعاً كتفيه قليلاً، وساعداه بعيدان من جسمه، يلوّح بهما بعنجهية. شعره قصير، بالكاد ينبت فوق رأس كبير. كبير بالوراثة أو التوريث. ملتح. في عينيه، نظرة إعجاب بالنفس. كأنه يتفرج على نفسه بعيون المارّة.
يستقل سيارة فارهة، من نوع “مرسيدس” على الأرجح. يقودها بسرعة رافعاً المكابح بين حين وآخر لتصدر عن السيارة حشرجة تسمّى “التشفيط”. يركن السيارة أينما يشاء، في منتصف الشارع، على باب كراج ما، أمام مدخل عمارة، يعيق تحرّك السيارات الأخرى من دون أن يعترض طريقه أحد. سلطته فوق سلطة الجميع، بمن فيهم شرطي المرور.
يدخل إلى المطعم أو البار من دون حجز مسبق. لا داعي لأن يلقي التحية. فقط يدخل، وأول ما يظهر من جسمه هو كتفه الأيمن أو الأيسر لا فرق. يختار أي طاولة يريدها، حتى وإن كانت مشغولة، يستأذن مدير المكان من الجالسين ويعتذر بإحراج وربما يتصبب عرقاً. لا يبالي إن كان سيخسر الزبائن، كل الزبائن، المهم أن يلملموا أغراضهم ويتركوا الطاولة هذه تحديداً، وكأنهم لم يكونوا جالسين هنا، وكأنهم لم يكونوا أصلاً.
رفاقه يشبهونه إلى حدّ بعيد. ملابسهم تميّز واحدهم عن الآخر. عدا عن الملابس، يبدون نسخاً متشابهة، بأجسام بنيت ملامحها في الوقت ذاته، وعضلاتها استغرقت الزمن ذاته لتنبت. بعضهم لا يكتفي بالعضلات المفتولة، بل يفضّل تلك المنفوخة التي تبدو منفصلة عن الجسد، متفوّقة عليه، متفرّدة بذاتها، حتى تكاد تنطق.
عادة، لا يحتاج الشبيح للتسلّح بالعقل أو بالذكاء، حتى ولا بالسلاح. أمامه، تستسلم كل القدرات البشرية ومقاومته ليست سوى مغامرة تنتهي عادة بكارثة. وفي مواجهته، تفقد الحياة معناها. تصبح خبرات الإنسان التي اكتسبها في العلم والسفر والقراءة، مخزوناً لا فائدة منه. يتحوّل الإنسان نفسه إلى لا شيء. يفقد دفاعاته كلها ويصاب بحيرة إذ لا تسعفه الكلمات ولا المنطق ولا الخبرة ولا القوة.
الشبيح فكرة مجرّدة. يصعب تخيّله إنساناً طبيعياً مثلنا، يشرب القهوة صباحاً ويأكل ويختار ملابسه ويتسوّق ويشاهد نشرة الأخبار ولديه صداقات وحياة أخرى موازية يعيشها إلى جانب عمله التشبيحي. الشبيح هو كائن مستقلّ بحدّ ذاته. فصيل من الأحياء. ثمة إنسان وحيوان ونبات وجماد… وشبيح.
الشبيح سلاح أيضاً يستخدمه النظام في محاربة أعدائه. سلاح دقيق وفتاك يصلح للمهمّات الصعبة. هناك السكود والهاون والميغ والكيماوي والبرميل والشبيح. ما يميّز الشبيح عن سواه من الأسلحة، هو دقّته في تصفية الأعداء. في حين أن باقي الأسلحة، تقتل مجموعة من الناس وتدمّر مجموعة من الأبنية وتثير بلبلة إعلامية وسحباً من الدخان تتصاعد وتطفو في سماء المدينة. أما الشبيح، فباستطاعته إرهاب شخص بعينه وجرجرته إلى الاعتقال وتعذيبه وقتله ربما من دون خسائر أخرى.
الشبيح ليس مجرّد عميل للنظام. هو لا يمثّل النظام بل النظام يمثّله. سلطته فوق سلطة الجميع. وبمجرّد منحه تلك الصفة وتلك الصلاحيات، يصبح الأمر خارجاً عن إرادته. يصبح شبيحاً بالفطرة. والسيطرة عليه، تصبح مستحيلة، حتى من النظام نفسه. الشبيح لا يكتفي بمنافسة غيره من الشبيحة، بل هو ينافس النظام أيضاً في شدة البطش وفي القدرة على الإخضاع والسيطرة. والمنافسة هنا لا تثير امتعاض الطرف الآخر أو غيرته. بالعكس تماماً. تفوّق الطرف الآخر، يبعث على الفخر والسعادة. ربما كعلاقة الآباء بأبنائهم.
التشبيح ليس وظيفة أيضاً. إنه عمل تطوّعي باستطاعة أي شخص احترافه. وهو عمل مرن ومطواع، لا يجبرك على التواجد في مكان محدّد ولا على ارتداء ملابس محدّدة ولا على الاستيقاظ باكراً. كما في إمكانك ممارسته إلى جانب مهنتك الأصلية. هناك ممثل شبيح ورسام شبيح ونحّات وأستاذ جامعة وكاتب ولحّام وحدّاد. كما أنه فعل تستطيع المرأة ممارسته إلى جانب الرجل، حتى وإن كانت تفتقر إلى العضلات. وهو لا يحتاج إلى وقت مستقّل. باستطاعتك أن تمارسه في الوقت ذاته الذي تمارس فيه مهنتك الأساسية. تشبّح وأنت تمثل وأنت تطبخ وأنت تعطي درساً وأنت ترسم أو تنحت أو تتحاور مع أصدقائك ومعارفك وجيرانك. ليس ثمة أسهل من التشبيح. هو نمط حياة وليس مجرّد فعل. هو علاقة خاصة جداً بين الشبيح ونفسه. مثله مثل التصوّف، رياضة ذهنية، وتمرين يومي على السيطرة وابتلاع الآخرين وحشرهم في الزاوية وإخراسهم والصراخ عليهم.
الشبيح أخيراً، كائن شفاف، كالنسمة. تعيش معه سنوات طويلة، من دون أن تعرف أنه قد يشبّح إن لزم الأمر. تجلسان سوية على نفس المائدة وتأكلان وتشربان في صحة بعضكما البعض وتتبادلان الهموم والقصص والنكات، وتمرّ الأيام، وأنت تجهل تماماً أنك كنت تعيش مع شبيح. تجهل أصلاً أن التشبيح، منطقة رحبة تتسع للأصدقاء، بعضهم كان معارضاً قبل الثورة. تتسع للفنان والمبدع والمثقف. تتسع للجميع متى وكيفما شاؤوا.