القصير , الحدود والوجود !

بقلم:مهنا الحبيل

تطور الهجوم الذي يشنه التحالف الطائفي الإيراني وميلشيا النظام السوري على مدينة القصير بعد المذبحة الشنيعة في بانياس. وهي المعركة التي يعتبرها النظام قاعدة الرحى لتحقيق عودة المبادرة بيده للسيطرة على الأرض ميدانياً، وليس فقط لإقامة دولة العلويين, وهي مركزية للتحالف الطائفي من إيران إلى حزبها في لبنان وحكومتها في العراق.

ويندفع حزب الله كلياً للداخل السوري عبر محور القصير، فيما حاصرت إيران دموياً الحراك العراقي خشية تأثيره على جبهة سوريا، وقصفت قوات المالكي منطقة العربية التي يسيطر عليها الجيش السوري الحر لمحاولة توزيع واضطراب الجبهة العسكرية رغم ابتعاد النقطتين، لكن أي جهد يعتقد التحالف الطائفي أنه يمكن أن يصب في معركة بقاء الأسد يبادر به فوراً.

ويسعى النظام إلى تحقيق اختراق له في موازاة الصفقة الأميركية الروسية التي رحبت طهران بها وأعلنت مشاركتها فيها، وكذلك فعل نظام الأسد كدلالة على أن اتفاق لافروف/كيري لم يكن إلا مشروعا لتصفية الثورة السورية سياسياً, وبقاء هيكل النظام الرئيسي في مفاصل الدولة.

ويبدو ذلك واضحا تماما في تفاصيل كل تسريبات المشروع الذي يُعتبر خلاصة التقاطع الإسرائيلي الإيراني في الموقف من الثورة السورية التي يعتبرونها خطرا إستراتيجيا عليهم، وهو ما يتبناه الغرب قديماً. وبالرغم من أنه صدرت منه تصريحات مختلفة عن موقف كيري الأخير, إلا أنّ الموقف النهائي هو منع الثورة السورية من الانتصار، وتغطية التكلفة الدموية للمذابح بالإدانات الإنسانية التي لا تُقدم ولا تُؤخر في مضمار حماية المدنيين ورعايتهم.

وفي الوقت الذي يعود فيه الغرب إلى إدارة تنافس موجه بينه وبين الروس والإيرانيين بعد تصفية العدو المشترك -وهو الثورة السورية وبُعدها التحرري العربي بما يمثله من حياة سياسية جديدة وإرادة مستقلة للشعب، وبما تعنيه كقوة صاعدة في مثلث التأثير الحيوي للمشرق العربي- ومع اختراق إيران للموقف المصري، ودعوة الرئيس مرسي الخطيرة وخطيئته الكبرى لضم الأسد للرباعية بعد تفاهمات مع الروس، في ظل كل ذلك تكتمل الحبكة السياسية ضد الثورة السورية، ويكتمل تمرير المشروع الدولي على أجساد الضحايا ودماء الشعب السوري.

ولم يكن تأكيد صحيفة التايمز البريطانية في تغطيتها للموقف الإسرائيلي الواضح الذي يؤيد بقاء الأسد خشية من أي حكم بديل، إلا دليلا من عشرات الأدلة على الموقف الإستراتيجي لتل أبيب، المتفق مع طهران في استهداف الثورة السورية، والذي لا تغيره أي توازنات فرعية بينه أخرى، بما في ذلك قصف إسرائيل بعض مخازن أسلحة النظام السوري.

وحتى تتضح الصورة بجلاء، نقول إن أي نزاع موسمي أو صراع إقليمي بين قواعد لعبة تنخفض فيها الحرب وتستعر في لبنان، كانت تخضع لبرنامج احتواء شامل يقف بها عند محطات توافق إيرانية غربية إسرائيلية.

فيما المعركة المركزية، أو المقاومة المطلقة عبر المبادئ الإستراتيجية العربية الإسلامية التي تخشى تل أبيب منها هي نشوء سوريا جديدة، ببعدها المستقل، وثمرة ثورتها العسكرية، حيث أن ذلك يعني لإسرائيل تهديداً وجودياً لا حدودياً.

وعليه، فإن بقاء إدارة اللعبة مع الإيرانيين عبر صراع منظم أو توافق سياسي في رفض تحرير سوريا من النظام سيبقى خيار تل أبيب، مالم تعتقد أن قواعد اللعبة مع طهران قد انتقضت, أو أنّ هذه التوافقات والتقاطعات تحتاج تدخلا منها يضمن استثمار مساحة الاحتياج الإيراني للغطاء الإسرائيلي لتصفية الثورة أو إقامة الجيب العلوي .

إن تدخل تل أبيب لصالح إيران كمنافس ثانوي أمام المشروع المعادي -وهو تحرير سوريا- أو لأجل تقدير خاص بالإسرائيليين ومخاوفهم من نجاح المشروع الإيراني في سوريا بجيب علوي، أو إطباق كامل على الثورة، غير مضمون نهائيا في ظل قوة الثورة السورية.

إن بعض مخازن الأسلحة السورية من المرجح أن تسقط في أي لحظة في حركة انشقاق داخل قوات النظام، فتتحوّل بالتالي إلى قوات الثورة، ويمكن أن تصبح هذه الأسلحة في مقابل حدود الجولان الفاعلة أو المتوترة -وليس الساكنة- لأربعين عاما, كما كانت لدى الأسد. وهنا يتبين لنا مغزى القصف الإسرائيلي لمخازن الأسلحة المذكورة دون التدخل، أو تحريك أي اضطراب في ساحة الحرب الرئيسية التي يشنّها النظام على الثورة.

ولو دققنا في موقف الصديق الكبير للأسد وإيران -وهو موسكو- وتحذيره العنيف المتجدد من أي دعم للثوّار، لفهمنا لماذا لم يصدر منه ضد هذا القصف أكثر من القلق وإدانة سياسية عابرة، وهو ما يعني أنّ هذا القصف ضمن حدود توافقات أو مساحة تدخل نسبي لحسابات المستقبل, لا تؤثر أبداً على مباركة تل أبيب لمذابح الأسد والحرب الإيرانية لصد الثورة.

وستبرز لنا ملاحظات مهمة في هذا السياق:
1- حركة الحرب الإيرانية الأخيرة على الثورة عبر الفصيل اللبناني (حزب الله) ترتب عليها نقل معدات ضخمة وأسلحة ثقيلة إلى جبهة القصير، وهي لم تتعرض على الإطلاق لأي قصف من تل أبيب، رغم رصد الطيران الإسرائيلي لمجموعات الحزب التي شاركت ولا تزال في مذابح القصير.

2- لم يتحرك الحزب على الإطلاق في الجنوب اللبناني، ولم يحرك أي قطعة للرد على إسرائيل وإن كان هذا واردا للمناورة الإعلامية، لكن مع ذلك ركّز على حربه على الشعب السوري في القصير وصمتت مدافعه عن الرد.

3- القصف الذي تعرضت له تل أبيب لأول مرة من الجولان كان من مواقع وصل إليها الجيش الحر, ورغم أن ذلك لم يكن في سياق معركة بل مبادرة من بعض الجنود إلا أن قلق تل أبيب وتعليق نتنياهو عليه كان مؤشرا للترقب الابتدائي للمصير الحدودي في الجولان.

4- كل هذه التحركات العسكرية، بما فيها قصف النظام الدوري المتصل، وعبور الآلاف من قوات نخبة حزب إيران في لبنان للداخل السوري, لا يُمكن أن تتم دون رسائل وتطمينات وتأكيدات تنقلها موسكو أو أطراف مخابراتية بين تل أبيب والنظام, وهو ما يُفسر عدم تعرض كل هذه الطلعات أو التحركات لقصف واحد. وفي المقابل، فإن وجبة قصف إسرائيلي واحدة عند ريف دمشق الجنوبي في خطوط التماس أو في حلب أو في حمص، كانت تعني تأثيراً لمصلحة الثوار, ولكن لم تُطلق تل أبيب طلقة واحدة، واستمرت في تلقي رسائل القصف وضمان تمريرها بما فيها قصف المدن السورية من طيران النظام عبر حدود لبنان.

وهذا يعني بالضرورة أن حرب القصير الأخيرة لكسر الثورة السورية باتت جبهة عالمية موحدة، غير أنّ ذلك كله لا يكفي بحسب التجارب السابقة لصراع الثورة مع حلقات التآمر الدولي والإقليمي العديدة. وتشير خلاصة النتائج إلى أنّ هذه القوى لم تكن تستطيع أن تحقق أي اختراق نوعي لسبب واحد وهو قوة الميدان الثوري وحصانته الذاتية، وبرنامجه الداخلي المتماسك، حتى لو حقق التحالف الإيراني بعض الاختراقات، ونجح في دخول بعض المدن.

ورغم أن الروس والأميركيين استغلوا بأبشع الوسائط حماقة القاعدة في اقتحام الميدان وبلبلة الرأي العام، إلا أنّ الواقع الميداني عاد ليُثبت قوته المستقلة عن القاعدة بقيادة الجيش السوري الحر وفصائل إسلامية عديدة متحالفة أو منسقة معه، وصولاً الى حركة تنسيق ميدانية مع بعض الكتائب التابعة لجبهة النصرة لتكوين ميدان عسكري متحد، يواجه التحالف الإرهابي الطائفي وغطاءه الغربي الروسي.

ورغم حملة التشويه -التي تورطت فيها جهات دينية وسياسية، فضلاً عن الإعلام الغربي والإيراني- لقدرة وتماسك وتنسيق فصائل الجيش السوري الحر, إلا أنّ شهادات محايدة ومباشرة والواقع الميداني يثبت مركزية قيادة الجيش الحر التي تعتبر كافية -حسب سجل الثورات المسلحة عالمياُ- لتحقيق النصر النوعي, حيث أنه لا توجد أي ثورة على الإطلاق خلت من فصائل جانبية أو خلافات، وحتى مواجهات فرعية.

لكن المفصل في سياق انتصار الثورات النهائي هو القوة المركزية للثورة ميدانيا، والتي يمثلها في الحالة السورية الجيش السوري الحر بفصائله الموزعة على جغرافيا القطر السوري، وظروفه الاجتماعية واللوجستية. وقد أثبتت مشاريع المجالس المحلية -التي تُدير اليوم الشؤون الإنسانية والحياتية والأمن الجنائي والشرطي بالتنسيق مع الجيش السوري الحر- قدرة الثورة على تحقيق قاعدة إدارة حكومة محلية مهيأة لأي تحول نوعي.

إن هذا الموجز الذي قدمناه عن وضعية الثورة السورية غرضه التأكيد على أنّ مقولات صعوبة الدعم للمركزية الثورية لتشتتها واضطرابها غير صحيح، رغم وجود حالات فوضى محدودة هنا وهناك. وهذا أمر طبيعي يدركه كل من عرف التاريخ الاجتماعي والسياسي للثورات، فما بالك بثورة اجتمع العالم ضدها، وهي تحقق إلى الآن قوة صعود وتماسك.

وكذلك، فإن حدوث هذه الفجوات كان مرده إلى انزواء وانسحاب عنصر الدعم العربي المادي كماً وكيفاً للثورة، والذي كان بإمكانه أن يحقق بعون الله حسماً سريعاً لمصلحة الثورة ومستقبل الشعب، في إطار وحدوي وحر للشعب السوري، يحاسب الجناة الإرهابيين ويبسط العدالة لبقية الشعب بكل طوائفه. لكن تقطّع هذا الدعم وضآلته والخضوع العربي للتهديد الأميركي هو ما وسّع هذه الفجوات وساعد الإيرانيين وحلفاءهم على ارتكاب المجازر، وكذلك تدخل الآخرين.

إن هذا التخاذل العربي لن تصاب به سوريا فحسب، بل إن المشروع الإيراني لو خسرت الثورة -لا سمح الله- سيتحول إلى مارد عسكري يُطارد دول الخليج العربية، ويتقدم إلى داخلها السيادي.

ولنا أن نتصور تهديد إيران الأخير للكويت من خلال مشهد القصير السورية, حيث حدود إيران من خلال العراق -الذي تحتله- ووجود شبكات لها داخل الكويت، بحسب تصريحات رسمية سابقة، وبالتالي الاندفاع للكويت كما جرى في القصير أمر وارد في القراءة السياسية ومعطيات التقدم الإيراني في سوريا، وقس على ذلك قدرات التدخل في باقي المنطقة.

لقد أوهم الغرب بعض العرب أن ترك سوريا في وضع الاستنزاف القاتم والدائم سيشكل لهم أمنا إستراتيجيا -فلا تسلحوا الثورة- وهذا وهم يتبدد اليوم، فتقدم قوات النخبة الإيرانية، أو انفجار المشهد الإقليمي العام لدى الغرب خُطط للتعامل معه من خارج دوله، لكن ماذا عن دول الخليج العربية ..أين خططها وعلى ماذا ستراهن؟

إن المسار الإستراتيجي لأمن الخليج العربي يتقاطع كرؤية سياسية مصلحية محضة مع طموح الشعب السوري بتأمين انتصاره، وانتقاله للدولة الجديدة التي ستتحقق بعون الله بتسليح نوعي ودعم مادي ضخم. ومعارضة تركيا للاتفاق الأميركي الروسي الإيراني الأخير تنطلق من وعي أنقرة لخطورة هذا المشروع على أمن المنطقة العربية الإسلامية، فضلاً عن ذبح الشعب السوري.

ولذلك، فإن صمود الثورة وقوتها الميدانية القائمة حالياً يمثل فرصة أخيرة لتحالف خليجي عربي تركي لتسليح الثورة، يمكنه أن يجذب حتى مصر رغم تورطها الأخير، وسيخلق أرضية دعم نهائي وهي، وحسب، مآل الحسم والأمن الإستراتيجي, “فإن لم تتحرك ضمائركم لإنقاذ شعب سوريا، فلتتحرك بنوككم لإنقاذ مصالحكم من حرب تدق أبواب حدودكم وربما وجودكم”

21-5-2013

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *