في موضوع الطائفية في سوريا

يشير استثمار ما يوفره الجامع الديني من طاقة في الحقل السياسي، بهشاشة التكوين السياسي للمجتمع المعين. فكلما اكتمل البنيان السياسي للبلد على شكل دولة مدنية ذات مؤسسات تعكس إرادة المجتمع وتنتج وحدته الوطنية السياسية، تراجع دور الطاقة الدينية والمذهبية في الصراع السياسي وتسيير آلة الدولة.

في نظام المحاصصة الطائفية نكون أمام نظام سياسي طائفي بالتعريف. في هذه الحال، التي يمثل لبنان مثالاً عليها، يتم إنتاج الطوائف كبنى سياسية في الدولة. وهي، على خلاف البنى السياسية الحديثة، بنى مقطوعة عن كلية المجتمع من حيث أنها تقف على تخوم الوزن الديموغرافي للطائفة، أي على تخوم حصتها السياسية المتفق عليها.

 تصبح الدولة المركزية مقر توافق أو اختلاف الدويلات الطائفية الفرعية لا أكثر. الدولة والحال هذه، تكون بمثابة كونفيديرالية دويلات طائفية تسحق الروابط المدنية الحديثة وتهمّشها، وتعوق إنتاج الرابط السياسي الوطني. في هذا النموذج السقيم من أشكال الحكم السياسية، تصبح الحرب الأهلية تهديداً مقيماً، وتبقى الدولة الطائفية، التي لا يمكنها أن تكون ديكتاتورية، مأزومة دائماً، وفي استقرار قلق.

سوى الدولة الطائفية القائمة على المحاصصة، يمكن أن نتصور نظاماً طائفياً يكتسب هذه الصفة من سيطرة طائفة على باقي الطوائف في ما يشبه التمييز العنصري. هذه الحال، يمكن أن تكون إسرائيل نموذجاً لها، حيث لليهودي ما ليس لغيره من امتيازات.

ماذا عن النظام السوري؟

نتكلم هنا عن نظام ديكتاتوري شمولي، نواته الصلبة هي أجهزة أمن مطلقة الصلاحيات، منيعة على المحاسبة، شديدة الولاء ليس للدولة إلا بقدر ما تشكل الدولة مستعمرة خاصة بالرئيس ودائرته القريبة، مدعومة بجيش عقائدي (أي محتكر سياسياً للحزب الحاكم) يدين كبار ضباطه بولاء شخصي للرئيس أيضاً. ما عدا ذلك من أجهزة الدولة، فإنها تقوم بتسيير شؤون الدولة والناس تحت إمرة الأولى، بحيث تفقد المؤسسات الصفة الأساسية للمؤسسة وهي استقلاليتها. الاطمئنان إلى الولاء هو الأصل في تكوين النظام الديكتاتوري الشمولي. ولاء الفرد وليس المنبت الطائفي له هو ما يؤثر، وإن كان للمنبت الطائفي دور في تحقيق الاطمئنان له من عدمه.

لكننا نبتعد عن الدقة حين نصف نظاماً ديكتاتورياً شمولياً بأنه نظام طائفي، على ما جاء في مقالة الصديق ياسين الحاج صالح، “في الطائفية والنظام الطائفي في سوريا” . يضع ياسين الحاج صالح ثلاثة محددات للنظام الطائفي هي: 1- يعتمد في عملية إعادة إنتاج ذاته على إعادة إنتاج موسعة للتمايزات الطائفية. 2- تتفاوت عتبات تماهي السكان فيه تفاوتاً يحيل على التمايزات الدينية والمذهبية فيه، ويتصل بتكوين نخبة السلطة ونمط ممارستها. 3- تتوافق بنيته، أو الممارسات الصريحة لنخبة السلطة، مع تنامي الوعي الذاتي الطائفي لدى الجميع، وتراجع الوعي الوطني والرابطة الوطنية.

وهي محددات ضعيفة التحديد: 1- إن “إعادة الإنتاج الموسعة للتمايزات الطائفية” ليست سوى مبدأ “فرّق تسد” الشهير، الذي تعتمده كل أشكال الحكم القسرية لاستمرار حكمها، إذا وسّعنا مفهوم الطائفة لتشمل كل الانتماءات الموروثة (دينية، مذهبية، عرقية، مناطقية الخ). 2- إن “عتبات تماهي السكان في النظام” تحيل من جهة على شعور ذاتي للجماعات لا يعتدّ به في التحديد المفهومي. 3- أما أن “تتوافق بنية النظام، أو الممارسات الصريحة لنخبة السلطة، مع تنامي الوعي الذاتي الطائفي وتراجع الوعي الوطني”، فهذا يحتاج إلى توضيح. ما هي البنية المستقلة بالطبع عن “الهوى وتقلباته” المقصودة هنا؟ وقد كانت “الممارسات الصريحة” للنظام السوري على الدوام السعي للتماهي مع مذهب الأكثرية من حيث مراعاة الطقوس وافتتاح المدارس والمعاهد الشرعية وبناء الجوامع …الخ وصولاً إلى المصاهرة. فإلى جانب هاجس الشرعية الذي لم ينفك ينهش طمأنينة النظام، كان لدى النظام هاجس آخر يقض مضجعه، هو الانتماء الأقلي للرئيس، الذي ما كان ليشكل هاجساً لو توافرت له الشرعية، وهذا ما دأب النظام على ستره عن العيون التي تتقفى ذلك تحت ستار من الكلام الكثيف عن الوحدة الوطنية.

لا نجد في مقالة ياسين الحاج صالح الحد المفهومي بين النظام الديكتاتوري الشمولي السوري وأشباهه، وبين النظام الطائفي في لبنان مثلاً. وهل تغذية التمايزات بين الناس هي معيار طائفية النظام السياسي، أم أنه سلوك راتب تتوسل به النظم الديكتاتورية في طبيعتها؟

حاول النظام السوري في فترة اشتباكه مع حركة “الإخوان المسلمين” في مطلع ثمانينات القرن الماضي تأطير العلويين في مؤسسة طائفية (جمعية المرتضى) يستند إليها وفق مقتضى الحال في صراعه للمحافظة على حكمه، غير أنه سرعان ما تخلّى عن هذا المسعى، ليس انتصاراً للوطني على الطائفي، بل ببساطة لأنه مسعى خاسر سياسياً. ما كان يهمّ النظام السوري على طول الخط هو الاستمرار لا بل التأبيد، ويتوسل لهذه الغاية بكل سبب. صحيح أنه “سحق أي منظمات سياسية مستقلة عابرة للطوائف”، كما يقول الكاتب، لكنه لم يفعل ذلك لأنها عابرة للطوائف بل لأنها مستقلة. أي لم يسحقها كممارسة طائفية بل كممارسة ديكتاتورية. معروف أن البطش الأكبر للنظام وقع على تنظيم غير عابر للطوائف هو “الإخوان المسلمون”. كما أن حزب البعث وباقي الأحزاب المشمولة بعطف النظام السوري هي أحزاب عابرة للطوائف.

إن من حكم ويحكم سوريا في حقبة الأسد الأب والابن، هي “طائفة” عابرة للطوائف تبلورت أكثر مع الزمن وتجمعها روابط مصلحية أقوى من الانتماءات الدينية الموروثة وأكثر وعياً لذاتها، وتعمل على انتهاك كل الروابط الاجتماعية الأخرى، الطارف منها والتليد، وتسخيرها لمصلحة استمرار نظامها.

اعتماد النظام السوري (أو “الطائفة” النافذة والمسيطرة على العصب الاقتصادي والسياسي في البلاد، ولعل نسبة العلويين فيها أقل من نسبتهم في المجتمع السوري) على ضبّاط علويي المولد لتسلّم المواقع الحساسة في أجهزة الأمن والجيش هو إجراء تقتضيه الطبيعة الديكتاتورية للنظام. فمن طبيعة هذه الأنظمة الديكتاتورية أن تسند المهام العسكرية والأمنية الحساسة لأشخاص موثوق بهم، هم غالباً من الأقليات، حتى لو كان رأس النظام من مولد أكثري، ذلك لأن الانتماء الأقلي يحول دون ازدهار طموح المسؤول الأمني أو العسكري، مهما علا شأنه، خارج إطار النظام. وهذا أدنى إلى أن يبقى مخلصاً وموالياً لنظامه.

ليس من فراغ أن ينعكس واقع النظام الديكتاتوري السوري في وعي عموم السوريين مشوّهاً على أنه نظام علوي. لا بد من أساس حقيقي ما لكل صورة وعي مشوّهة. فعلى خلفية ما تحمله ذاكرة العلويين من ظلم تاريخي يتداولونه في ما بينهم (وقد تكون هذه قصة نمطية في بيئة كل أقلية)، يبدو وصول أحد أبنائهم إلى سدة الرئاسة نوعاً من رد اعتبار وضماداً لجرح معنوي قديم وفق آلية نفسية جمعية غير خافية. هذا بذاته يكفي لكي يستسيغ العلويون وصف النظام بأنه علوي حتى لو كان يأكل من لحومهم. في هذا الوصف نوع من الاعتراف الذي طالما تاقوا إليه. فكيف إذا أضيفت إلى الصورة مكاسب مادية. والحق إن هذه المكاسب فردية في عمومها، فالمناطق العلوية لم تحظ برعاية تمييزية. وهذا ما يعرفه كل من يزور قرى هؤلاء وأحياءهم. لا غرابة طالما أن النظام مطمئن إلى ولائهم بعدمااشترى وعيهم العام بوهم سلطة.

أما في الوعي السوري العام فقد أُدرك النظام السوري على أنه نظام علوي من واقع أن الرئيس علوي المولد وأن أجهزة الأمن هي غالباً بيد أفراد علويي المولد، وهي الأجهزة التي لا يمكن لسوري أن يقوم بأي نشاط من دون أن يمر عبر أبوابها. أي إن واقع كون العلويين ضحية النظام، بتحويلهم متراساً وأدوات قمع، هو ما انعكس في الوعي السوري العام على أنه امتياز للعلويين، ولكن “ليس النظام بيد العلويين، العلويون بيد النظام”، على ما يقول ياسين الحاج صالح بحق في مقاله المشار إليه.

في ظل النظام السوري الديكتاتوري الشمولي ليست اليد العليا للقانون بل للفساد بطيفه الواسع. الساحة مفتوحة للمعاملات التفضيلية والتواطؤات والمحسوبيات والخيانات الوظيفية وحتى الخيانات الوطنية. الطائفية (بمعنى الانحياز لصالح أبناء طائفة ما ومحاباتهم في حقل السلطات العامة وغمط حقوق آخرين بسبب انتماءاتهم الطائفية)، سمة وعنصر فاعل بسبب فشل القانون في ظل هذا النظام الذي لا يشد أعضاءه بعضهم الى البعض سوى الفساد، ولكنها ليست أداة الحكم بالتعريف.

كلمة أخيرة

لا يجد المرء تفسيراً اجتماعياً سياسياً لظاهرة واسعة الانتشار في الريف والأحياء العلوية الفقيرة، أقصد ظاهرة إبراز صورة الرئيس في بيوت تفتقر الى الحدود الدنيا من أسباب العيش الكريم. التفسير يكمن في السيكولوجيا، سيكولوجيا الجماعات. انتماء الرئيس بالولادة لهذه الجماعة يشبع لديها الحاجة إلى الاعتراف، كما ذكرنا من قبل. ربما يدخل ذلك في تفسير سلبية العلويين العامة تجاه الثورة السورية.

الحاسم هنا ليس تصور الجماعة عن ذاتها بل الصورة التي ترتسم في وعيها عن تصور الآخرين لها. وهنا يدخل الحديث عن طائفية النظام كعامل صد من الناحية السياسية، عدا كونه لا يعكس الواقع بأمانة.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *