بتصرف في تغير العنوان فقط نقلا عن جريدة الوطن السورية.
كي يسرب المعلومة لاحقاً “وثائق السفارة الفرنسية أخفاها مسيو بيكو لدى السفارة الأميركية “
يؤسفني أن أقول إننا مازلنا نستخدم عبارة «الكيل بمكيالين» كما لو أنها تهمةُ التهم القاصمة، وحجة الحجج المفحمة، بل نحن نستخدمها في بعض الأحيان كما لو أنها الدليل القانوني الوحيد القاطع على حقوقنا المسلوبة وثرواتنا المنهوبة.
والحق أنني لم أكن دائماً بريئاً من هذا الوهم، فعندما رشحتني وزارة الإعلام عام 1996 لزيارة أميركا ضمن برنامج الزائر الدولي، قلت لمدير مركز الدراسات الإستراتيجية في مدينة فيلادلفيا الأميركية: سمعت الناطقين باسم دولتكم يتحدثون عن «مصالح الولايات المتحدة وأصدقائها» في وزارة الخارجية وفي وزارة الدفاع وانتهاء بالبيت الأبيض، ماذا عن مسؤولية القوة العظمى إزاء الدول التي لا تتوافر لها العظمة؟ ماذا عن المسؤولية الأخلاقية للقوي تجاه الضعيف؟» يومها رمقني الرجل بنظرة اسْتِهْبَال ودودة كما لو أنني قد سألته لتوي عن مسؤولية النيازك والبراكين في انقراض الديناصورات، قبل 230 مليون سنة، خلال العصر الترياسي!
أحسب أنه ليس من سفرة قمت بها، إلا وغيَّرت شيئاً من رؤيتي للعالم، ففوائد السفر كثيرة وقد حثَّ عليه الإمام الشافعي بقوله:
«تَغَرَّب عَنِ الأَوطانِ في طَلَبِ العُلا / وَسافِر فَفي الأَسفارِ خَمسُ فَوائِدِ/ تَفَرُّجُ هَمٍّ وَاِكتِسابُ مَعيشَةٍ / وَعِلمٌ وَآدابٌ وَصُحبَةُ ماجِدِ / وَإِن قيلَ في الأَسفارِ ذُلٌّ وَمِحنَةٌ/ وَقَطعُ الفَيافي وَاِكتِسابُ الشَدائِدِ / فَمَوتُ الفَتى خَيرٌ لَهُ مِن حَياتِهِ / بِدارِ هَوانٍ بَينَ واشٍ وَحاسِدِ».
والحق أن سفرتي لأميركا انطوت على فوائد أكثر من تلك التي ذكرها الإمام الشافعي، صحيح أنني اكتشفت منذ أن كنت شاباً صغيراً أن العلاقة بين السياسة والأخلاق كالعلاقة بين الغنى والفقر، لا يزيد هذا إلا عندما ينقص ذاك، إلا أنني لم أتخلص نهائياً من وهم الأخلاق في السياسة الدولية إلا عندما زرت أميركا. وقد ساهمت المجريات التي سبقت السفر، في تخليصي من بقية أوهامي حول نوع معين من المثقفين. فعندما رشحت للسفر إلى أميركا من وزارة الإعلام لأول مرة، طلبوا مني أن أراجع في السفارة شخصاً أميركياً من أصل كوبي، كان بعض المثقفين السوريين يستقوون به وبنفوذه. يومها كان المخرج نجدة أنزور يقوم بتصوير الجزء الأول من مسلسلي «إخوة التراب» وقد أبلغني ذلك الأميركي الكوبي في بداية اللقاء أنه قد سمع عن المسلسل وسألني عن حقيقة المشهد الذي يقوم فيه رجال جمال باشا الذي عُرف لاحقاً بالسفاح باقتحام السفارة الأميركية في بيروت بحثاً عن وثائق السفارة الفرنسية التي أخفاها مسيو بيكو لدى السفارة الأميركية كي يسرب المعلومة لاحقاً، عن طريق مترجم السفارة زلزل، لاستدراج جمال باشا، كي يقوم باقتحام السفارة الأميركية واستخدام الوثائق الفرنسية المخبأة فيها كحجة لإعدام المناضلين السوريين بعد أن تأكد لفرنسا رفضهم التعاون معها، وبذا تكون فرنسا قد استغفلت الأتراك واستدرجتهم لتنفيذ العمل القذر نيابة عنها كي يهون عليها احتلال سورية لاحقاً.
والحق أنني ذهلت تماماً لمعرفة ذلك الرجل بهذا التفصيل لأن ذلك المشهد لم يكن قد تم تصويره بعد. ما أظهر لي مدى اختراق الدبلوماسيين الغربيين الذين يعملون كجواسيس مقنعين، لأوساط الفنانين والمثقفين.
يومها استفزني الأمر لدرجة أنني قررت عدم إعطاء ذلك (الدبلوماسي) أي معلومة مفيدة، فكانت النتيجة عدم قبول إيفادي لأميركا ما أغضب وزارة الإعلام ولولا تلويحها بإمكانية وقف التعاون في ذلك البرنامج، لما قبلتني السفارة في البعثة التالية.
لاشك في أنني قد تأخرت في اكتشاف حقيقة أن تاريخ السياسة في العالم هو تاريخ الكيل بمكيالين، غير أني مقتنع الآن أن الكيل بمكيال واحد هو ضرب من المثالية الساذجة أو الهبل في أحسن الأحوال، فمن يعامل أعداءه بالطريقة نفسها التي يعامل بها أصدقاءه ليس برأيي سوى أحمق سيئ النظر فاسد الرأي.
لست ألوم الغرب على تآمره علينا فهو يمارس عداءه لنا كما يجب، لكنني ألوم نفسي وإخوتي لأننا نسمح لمؤامرات الغرب أن تنطلي علينا لأننا لسنا عرباً كما يجب.
حسن م. يوسف
http://www.alwatan.sy/dindex.php?idn=110366