من بين كل سأقوله في هذا النص، اخترت هذه الفكرة تحديدا للعنوان، لأنها باتت “قضية” تستحق أن يشار لها، وليس من باب التنديد أو التمجيد. فحين ينتظر ملايين من الناس ما ستقوله، وكل حركة ستأتي بها، وكل ابتسامة أو تقطيبة.. نظرا لكونك رئيس جمهورية تعيش أزمة جدية وعميقة، حين يكون الأمر كذلك، يصير من المهم فعلا أن لا يضطر هؤلاء للبقاء ساعة ونصف متسمرين أمام الشاشات حتى ينال منهم التعب وتتشتت أذهانهم ويجبرون على قطع متابعتهم لأسباب عدة (بعضها محض بيولوجي)،
يصير من المهم فعلا أن تقال الأمور بتكثيف دقيق ومختصر،
وإن كنت لا ألومك كثيرا في هذا،
لا ألومك لأنك تقوم بالدور الذي يجب على الإعلام الحكومي أن يقوم به. وبات حتى الحمقى يعرفون أن هذا الإعلام، في سورية، أغبى من الغباء ذاته، وأنه شريك كامل الشراكة بغبائه أو “حنكته” بما يحدث في سورية اليوم، بحيث أتفهم جيدا شعورك بضرورة شرح كل شيء، رغم أنك لو بقيت لعشرة ساعات تتكلم، وليس ساعة ونصف، فسوف لن تنجو من مجزرة الإعلام الحكومي السوري بحال، مثلما لن تنجو من مجزرة الإعلام غير الحكومي في الداخل والخارج. إذ يبدو أن مشكلتنا مستعصية فعلا مع “الإعلام”.
وأعرف أن عددا من الناس سوف يشنون حربا شعواء ضد هذه الملاحظة، ويسألوني: من أنت لتقول مثل هذا الكلام للسيد الرئيس؟ لكنني سأبتسم فقط، لأن الأمر يستحق فعلا.
المهم، ما أريد قوله اليوم بضعة أمور متعلقة بخطابك الهام جدا اليوم (الثلاثاء 10/1/2012)، والذي يصعب عدم تسميته بمحطة فاصلة، سواء لمن يتفق معه أو يخالفه (لأي سبب كان). فهذه المرة الأولى التي توضع بعض “النقاط” على كلمات أساسية في واقعنا الأحمر القاني اليوم. وطبعا، وكالعادة: ما أقوله يمثلني وحدي، كمواطن لم يرغب يوما، ولا يرغب اليوم بكل تأكيد، بالتخلي عن حقه بقول ما يفكر به بصوت عال. ولا يمثل أي شخص أو جهة أخرى.
ولا يتعلق كلامي أبدا بكل تلك الهستيريا الفرويدية التي أظهرت اليوم وجها جديدا للشعب السوري، من أقىصى الموالاة إلى أقصى المعارضة! هستيريا ستكون مفيدة جدا في المستقبل لكل دارس لعلم النفس الاجتماعي (والقطيعي أيضا). وهي، بكل حال، لا تستحق حتى القراءة والاستماع، عدا عن الرد والنقاش.
– أعجبني جدا أن تشيد بالجيش السوري. فهو كان بحاجة فعلا لهذه التحية. لا أقصد كبار الضباط الذين تعرفهم خيرا مما نعرفهم! بل الجنود الذين عانوا الأمرين خلال الأشهر الماضية، عدا عن الضحايا الذين سقطوا منهم وما زالوا يسقطون. والذين (بعيدا عن أخطاء فردية فعلا، وعن محاولة البعض التلاعب بهم وزجهم في مآزق أخلاقية عميقة وخطيرة) أثبتوا أنهم مواطنون لا يترددون في حماية بلدهم تحت أي ظرف كان.
لكن، وبلا رتوش، لم يعجبني أبدا أن تشيد بالأجهزة الأمنية السورية، لأسباب أكثر من أن تعد، أهمها أن هذه الأجهزة هي نفسها التي استولت على حياتنا عبر عقود من الزمن حطمت فيه كل معارضة مدنية، وكل تفكير عقلاني، وكل نفس علماني، وكل مواطنة، حتى صار ما نراه اليوم ممكنا بكل هذا المستوى المدهش من السهولة في سفك الدم، وطلب الاحتلال، وما إلى ذلك.. دون أن يعرف أحد أين رأس ذلك وأين قدميه!
وإذا كنت أعرف، مثلما يعرف غيري، أن عناصر هذه الأجهزة ليسوا إلا أخوتي وأهلي، فإنني أعرف أيضا أن هؤلاء العناصر هم، فعلا لا قولا، “عبد مأمور” يمكنه دائما أن يتحول إلى وحش متوحش بأمر، مثلما يمكنه أن يتحول إلى إنساني عظيم بأمر! وأن هذه الأجهزة ما تزال تشكل خطرا جديا وداهما في الانقلاب بسورية إلى الوراء! وبعضها لا يمانع من تدمير سورية بأمها وأبيها ليعود إلى الزمن الذهبي المتمثل بفرض حالة الطوارئ. فهم يعرفون أن مجرد توقيعك برفع حالة الطوارئ هو توقيع بالنعي النهائي لسلطاتهم المطلقة، حتى وإن تأخر استكمال ذلك بعض الوقت.
وإذا كان من المستحيل اليوم، في قلب المعركة، إنجاز كل شيء (خاصة دمج وإعادة هيكلة أجهزة الأمن، وتحديد صلاحياتها بكل وضوح)، وإذا كانت هناك تغيرات حقيقية على الأرض متعلقة بممارسة هذه الأجهزة لا ينكرها كل متابع جدي، فإن هذا لا يغير من واقع أن هذه الأجهزة ما زالت تمارس الاختطاف والاعتقال والتعذيب الوحشي بحق آلاف من الشباب الديمقراطي المدني الذي رفض كل أساس للتدخل الخارجي، مثلما رفض عنف المجرمين تحت أي مبرر.
– أعجبتني جوانب كثيرة من تحليلك لأسباب ما وصلنا إليه اليوم. لكن، وبإطلاق، لم يعجبني تجاهلك التام لحقيقة بسيطة إلى حد “مرعب”: غياب المواطنة خلال القرون الماضية (وليس فقط العقود الماضية) هو الجذر الأول والأساس لكل ما وصلنا إليه.
وغياب المواطنة، كما تعرف، مكرس في الدستور السوري بكل وقاحة، كما هو مكرس بكل فظاظة في الكثير من القوانين السورية. ولكن الطامة الأكبر أنه مكرس في الحياة المؤسساتية اليومية على مدى العقود الماضية برعاية وحماية وتنفيذ “حالة الطوارئ” السياسية المقبورة والقائمين عليها.. وحالة الطوارئ الدينية المستمرة والقائمين عليها.. وحالة الطوارئ “الجنسية” المستمرة أيضا..
ومهما فعلت سورية (وأنت وقيادة النظام والدولة والمعارضة والشعب و…) من أجل المضي قدما، وأيا كان المكان الذي سوف نصله غدا، فسوف نبقى نائمين على بركان متفجر ما لم يبدأ حل جذري لمشكلة غياب المواطنة هذه. بركان سيجد سريعا ألف قناة وقناة لينفجر بوجوهنا.
ولا يخفى عليك أن المواطنة ليست شيئا آخر سوى كل الترجمات لعنوان واحد بسيط هو: الحقوق المتساوية والواجبات المتساوية لكل سوري وسورية بغض النظر عن الجنس والدين والعرق والقومية والاعتقاد..
والخطر الذي نعيشه اليوم، ويستشعره الكثيرونأت غدا، يتعلق فعلا بأن التمييز سوف يستمر على ما يبدو. خاصة التمييز الديني المشرع في الدستور السوري الذي يجري تعديله الآن (ويبدو أنه سيحافظ على عنصريته الدينية هذه)، والتمييز الجنسي بين النساء والرجال، والتمييز القومي بين الأصول القومية المتنوعة للسورين والسوريات. واستمراره في الدستور المعدل (أو المرقع حسب تسميتي) سوف يعني استمرار، أو حتى المزيد من التمييز في القوانين وتعليماتها التنفيذية! أي: الحلقة كاملة!
– أعجبني أن تصر بكل وضوح، وبلا لبس، على ترافق الحل الأمني بمواجهة المجرمين المرتزقة والخونة، مع الحل السياسي المتمثل بتثبيت وتنفيذ الإصلاحات الجذرية التي بدأت (خاصة إلغاء حالة الطوارئ وإلغاء محكمة الموت المسماة محكمة أمن الدولة العليا، وهما العمود الفقري لكل ديكتاتورية)، وخاصة استثناءك المجرمين القتلة وطالبي الاحتلال من أن يكونوا معنين بأي نوع من الحوار. وأراحني إلى حد ما وصفك “أخوان الشياطين”، وإن كنت ما زلت متخوفا بشدة من أراهم غدا (وغيرهم من الإسلام السياسي الذي يطاوع اليوم النظام!) على طاولة اقتسام مستقبل الشعب السوري!
ولكن قلبي سقط من بين أضلعي وأنت تتكلم عن “اللجان الشعبية” والمجموعات التي حمت بعض تشكيلات الجيش! فلم أستطع أن أمسك بالضبط قصدك: هل أنت تلمح إلى أن هذه هي ميليشيا جديدة تقاتل من أجل النظام وبالتالي فهي تحصل على نوع من “الشرعية” لأنها تدافع عن النظام؟! أم أنه مجرد وصف سريع وغير موفق لواقع حال صحيح، ولكنه ترافق مع واقع حال صحيح آخر هو أن هذه المجموعات لم توفر إمكانياتها في أن تكون مجرمة وقاتلة وبنفس أساليب الأخوان المجرمين والوهابيين والخونة، وإن بعناوين مختلفة؟!
يزيد من خوفي هذا حديث تردد على مسامعي، من أشخاص في النظام نفسه. حديث دار حول أن “سحب سلاح” هؤلاء سيبدأ فقط بعد أن يتوقف إجرام المرتزقة! بما كان تأكيدا شبه صريح على قبول هذه الميليشيا؟!
إن هذا يحتاج، أقله، إلى توضيح حاسم لا يترك مجالا للشك بأن الدولة سوف لن تغض النظر عن هذه المجموعات المسلحة، حتى وإن كان الواقع قد فرض وجود بعضها مثلما فرض وجود بعض مجرمي “الثورة”، عدا عن أن تعطيهم أي نوع من الشرعية.
لأن الاحتمال الآخر هو فتح باب الجحيم بحد ذاته!
– أخيرا، في هذا الاختصار: تحدثت عن الشباب كعادتك في كل خطاباتك السابقة (بعد الأزمة وقبلها)، لكنك تجاهلت مرة أخرى مئات آلاف الشبان والشابات السوريين/ات ممن يمكن وصفهم بأنهم الخاسر الأكبر في هذه “المعمعة”.
فلأسباب كثيرة تمت “خيانتهم” من كل الجهات، بدءا من أمعات الثقافة والسياسة في سورية (ما كان يسمى بنخبة وأظهر حقيقته كتفاهة منقطعة النظير)، الذين استغلوهم أبشع استغلال دون أن يقدموا لهم أي خبرة أو معرفة أو آلية تنظيم مدنية أو.. مرورا بأجهزة الأمن التي لم توفر فرصة لضربهم واعتقالهم وتشتيتهم حتى أنهكتهم إلى آخر نفس فلم يعد باستطاعتهم مقاومة تيار الإجرام والخيانة الذي استولى لاحقا على الحراك جملة وتفصيلا، وليس انتهاء بالأخوان المجرمين وشركاهم من الوهابيين والسلفيين والعثمانيين وواجهتهم القذرة أمثلا غليون وقضماني وبقاعي والشقفة والبيانوني والقربي و…
هذا الشباب لا يحتاج إلى “عفو” لا خاص ولا عام. ولا يحتاج إلى أية شروحات حول من هم أولئك المجرمين المرتزقة فهو يعرفهم خير من جميع أجهزة أمن النظام بلا استثناء. كما أنه لا يحتاج إلى مواعظ في الوطنية ولا في الديمقراطية.. بل يحتاج، حصرا، إلى ما يجعله يصدق انه لن يكون ضحية للنظام ثانية وثالثة ورابعة.. وأن الطريق مفتوح أمامه فعلا للمضي في طريقه الاساسي الديمقراطي المدني والسلمي.
وأنت أدرى، (وأعرف أنك تعرف أنك أدرى) بمدى أهمية هذه الحاجة اليوم. وبأن مفتاح تلبية هذه الحاجة ليست في مكان آخر خارج النظام نفسه. النظام الذي أنت رئيسه. وتفاصيل تلبية هذه الحاجة قد تكون كثيرة، لكن أيا منها ليس مستحيلا ولا بالغ الصعوبة، إلا أن أيا منها لن يكون له أية جدوى دون أن يتكامل مع ما تبقى.
هؤلاء الشباب (وهم مئات الآلاف بكل تأكيد)، هم الرهان الحقيقي على مستقبل مدني ديمقراطي وآمن، رهان العمل المدني المستمر في مواجهة كل عنف وتمييز وفساد و.. ولكنهم أيضا هم الوقود المحتمل للمرتزقة القتلة باسم الحرية أو باسم الله. فمأزقهم اليوم ليس أبدا مجرد حكاية أو وهم. بل مأزق يجب أن يوضع في مقام عال جدا من الاولوية والاهتمام.
إذا، أظن أن “شحذ الهمم” و”التحدي” وما إلى ذلك مما حفل بها خطابك، قد أدت مؤداها. لكن هل هذا المؤدى سيتجاوز أن يكون محض عاطفي؟! أم أنه ككل عاطفة “جياشة” سرعان ما ستصطدم بواقع لا يمكن فيه لأي شيء أن يحل محل نداء معدة جائعة، أو طفل عريان.. فيكف بأزمة بالتعقيد الذي باتت عليه الأزمة السورية؟
بسام القاضي