لم يترجل احد من جنود حراسة موكب المراقبين العرب إلى بصرى الشام، عندما آبت سيارة الطليعة من استطلاعها طريق العودة إلى درعا، وأعلن من فيها أن تظاهرة تقطع محور معربة ـ الخربا ، فتريث الموكب، وهبط ضابط برتبة عميد، في سترته الخضراء من دون كتافيات او نجوم. «هل لاحظت أن العميد يكتم رتبته؟» قال المصور التلفزيوني في سيارة الصحافة مستهجناً أن يتجرد الضباط من زينة السلطة، «أصبح شائعاً أن يتجرد الضباط من نجومهم، منذ أن تحولت في منطقة درعا بعض القوافل العسكرية هدفاً لهجمات منشقين ومسلحين من كل نوع».
ومن سيارة المرسيدس السوداء ترجل محمد اليرقي، الدبلوماسي الجزائري الذي يقود من فندق الوردة البيضاء في درعا فريقاً من سبعة مراقبين، يجول بهم ارجاء المحافظة السورية الجنوبية، ومهد الحراك الشعبي. وأبقت يده المرفوعة الشاحنات العسكرية الأربع المرافقة مركونة إلى جانب الطريق. أما العميد فتعهد بأن يحافظ رجاله على المئتي متر الفاصلة مع جمهور يتظاهر، ويطالب بإسقاط النظام، تاركاً للمراقبين الذين رافقوا اليرقي أن يفاوضوا لكي تفتح الطريق. وعندما ابتعدت التظاهرة وابتلعت المتظاهرين في ازقة القرية، تحرك الموكب ليعيد الإمساك بالمحور المؤدي إلى درعا والحرية، وتسلق جندي قوس نصر حديدي، كانت عبارة «الأسد رئيسنا إلى الأبد» قد أزيلت عنه، وانتزع علم الاستقلال المرفوع. وتنفس الجنود الصعداء، عندما عاد فريق المراقبين معلناً هدنة لكي تمر القافلة. ومرت الشاحنات بعصبية وسرعة، وانتهى استنفار سريع، أثاره رواح ومجيء دراجين في الحقول القريبة. خشي الجنود أن يكون كميناً نصب لهم في المنطقة على جري العادة على هذه المسافة من درعا.
والأرجح أن أهل الحراك الشعبي مسلحون أو من غير سلاح، ملكوا الريف على النظام. اقله في درعا، ودفعوا به إلى مراكز المدن. وتبدو استراتيجية النظام في مواجهة حراك يبدو أكثر مركزية وأقل عفوية مما يبدو عن بعد، تقترب أكثر فأكثر من استراتيجيات كلاسيكية في مواجهة حرب عصابات ومدن تفرض عليه الانكفاء من الأرياف إلى المدن وعُقد الموصلات الرئيسة، وتفادي نشر فرقه وكشفها امام المسلحين أو الدخول في اختبار غير مأمون أحياناً لولائها. وتكتفي القوات اكثر الأحيان بمحاصرة القرى او الضواحي العاصية، كما في ريف دمشق او درعا او حمص، من دون الدخول إليها متجنبة الاحتكاك بالمتظاهرين عن قرب وتصيد ما أمكن من قياداتهم في غارات تشنها أجهزة الأمن ليلاً على الأحياء الثائرة أو على حواجزها الطيارة والثابتة.
ويبدو جلياً من انتشار فرق الجيش السوري على جبهة الحراك انه بعد أن اخفق الخيار الأمني في تفتيته، اصبح الخروج من هذه الأحياء ضرورة استراتيجية للنظام لتحقيق هدف آخر هو منع الحراك من تحقيق هدف خطر آخر سيضع النظام السوري في مأزق كبير لو تحقق: إنجاز عملية التواصل الأرضي بين المناطق الثائرة، وإحكام الطوق على العاصمة دمشق بشكل خاص. كما يهدف الانتشار خارج الأحياء الثائرة إلى منع تكوين بؤرة مسلحة وواسعة، أو منطقة آمنة بالقوة، تتمتع بعمق كاف واستراتيجي لاستقبال وحدات عسكرية يمنع انشقاقها عدم وجود مناطق متصلة وواسعة لتشجيع الجنود المترددين على اللجوء إليها.
والخطر يبدو اكبر مما يمكن توقعه اذا ما ترافق ذلك مع تصاعد العسكرة، وتنظيم وحدات مقاتلة يمكنها الإجهاز على العاصمة السورية. ويجول أكثر من 600 منشق في محيط بلدة الحارة ينظمون مقاومة مسلحة، في بؤرة يطاردهم فيها الجيش السوري من دون أن يتوصل إلى إخماد تحركهم أو تفادي كمائنهم، ذلك أن أكثر الريف على ما شهدته الطريق بين درعا وبصرى سقط أو تحرر كما يشاء القارئ. وعلى طول الثلاثين كيلومتراً ما بين درعا وبصرى الشام تتقاطع محاور وطرق واسعة, لا اثر فيها لأي انتشار عسكري ما خلا الطوق المضروب على المدينة، او في أحيائها او قرب المراكز الحكومية الرئيسة. ويحرس مدنيون مسلحون السوق القريب من المحافظة. وواضح أن الجيش السوري قد تراجع من الأرياف، وبات وجوده في تلك المنطقة التي تبلغ مساحتها 3370 كيلومتراً مربعاً، يقتصر على التحصن في المحاور الاستراتيجية، تاركاً للسمكة الثائرة أن تسبح في بحر الريف المجاور.
وقال عسكري، قاد الفرقة السورية الخامسة المتمركزة في درعا، إن مجموعات من المسلحين تجول في محافظة درعا، التي يقطنها مليونان و100 الف نسمة، فتهاجم المؤيدين والمخافر، وقد وصلت بها الجرأة في الحادي والعشرين من أيار إلى حد مهاجمة مقر الأمن السياسي في درعا ومقر المحافظة، ودخول نوى، وارتكاب مقتلة فيها. وشكا أن بعض القرى اصبحت مستقلة عن السلطة، تقطع الطرق لحماية نفسها، وتصفى فيها حسابات عائلية في سياق الحدث السوري «لكن الجيش يسيطر على الأوضاع».
وقد لجأت السلطة بعد شهر ونصف شهر من الغياب عن درعا إلى التركيبة التقليدية العشائرية. لكن المحاميد والزعبي والمسالمه والحريري والجباوي والشرع لا يطيعون وجهاءهم، كما كان العهد بهم في العقود الماضية. والعشائر نفسها منقسمة بين مؤيد ومسلح، «ولكن المسلح قلة، برغم مئة كيلومتر من الحدود مع الأردن تعبر من خلال بساتينها وحقولها كميات كبيرة من الأسلحة، لا تعلم بها الحكومة الأردنية»، بحسب المسؤول السوري . وبالرغم من أن الضباط الدرعاوية لا يزالون كثرة في الجيش مذ أضحى مقصد أبناء الفلاحين، يتسلقون سلم الرتب والاجتماع عبر كليات دمشق العسكرية، إلا أنه من المفارقات «أن قراهم وبلداتهم هي اسخن جبهات الحراك الشعبي الدرعاوي».
وفي بصرى الشام تقف التظاهرات عند القلعة الرومانية القديمة لتهتف للجيش الحر من دون غيره، والكفاح المسلح، وهو ما يتكرر في عربين في ريف دمشق، او في حرستا او حمص فضلا عن ادلب، إذ لم يعد بوسع الأطر السياسية الحالية أن تدّعي تمثيل الحراك بعد عشرة أشهر على انطلاقه، من هيئة التنسيق الوطنية مروراً بالمجلس الوطني الذي يقول إنه يكاد يضم جميع اطياف المعارضة السورية، وصولاً إلى تيار بناء الدولة السورية. وتغلب الواقعية أكثر مما يغلب التواضع على احد قادة المعارضة السورية المخضرمين في قول لا يريد أن يحرج أحداً به إن «الهيئة والمجلس إذا اجتمعا على الدعوة إلى تظاهرة، فلن يسير خلفهما اكثر من اربعة آلاف متظاهر في دمشق او ريفها». ففي حرستا وحدها يخرج خمسون ألفاً في ليلة الاحتجاج الواحدة، يهتفون لإسقاط النظام وينشدون للجيش الحر. ويكاد لا يسمع هتاف آخر في عربين، التي يجمتع في أزقتها الآلاف في لمح البصر، حيث يهبط الناس من منازلهم إلى الشارع للتظاهر كنهر متدفق لا انقطاع فيه في مسيرة تجد خواتيمها في المسجد من دون أن يتدخل الجيش او الأمن الذي يكتفي بالوقوف عند مدخل المدينة.
وتضافرت عناصر كثيرة في تجريد الحراك الشعبي السوري من سلميته الأولى واستتباب الأمر والنهي فيه للجيل الثالث من الثوريين السوريين في عام واحد، فنزع إلى التسلح وضمر دور المجلس الوطني والهيئة وغيرهما على رأسه.
عندما يتقدم العسكر تتراجع السياسة وتتضاءل دوراً وأهمية. وفي الأشهر الماضية افلح الخيار الأمني، في ما افلح فيه، في ضرب الموجة الأولى والثانية من قيادة التنسيقيات السورية، وتشتيت عناصرها بين السجون والمنافي التي خرج إليها الآلاف إلى لبنان والأردن ومصر. واعتقلت الأجهزة الأمنية السورية أكثر من 70 ألف ناشط، واختفى عشرون ألفاً آخرون لم يعرف لهم مصير، بحسب المعارضة السورية. وكانت شهادات من التقوا قيادات التنسيقيات الأولى تتحدث عن تنوع مشاربها، ومجيء بعضها من طبقة وسطى، ومن تجارب إحياء المجتمع المدني في بداية الألفين، أو من المعتقلات السياسية أو من الحركة الطلابية، وحلقات الدراسة في المساجد.
وتزامن سقوط التنسيقيات مع انطلاق عمل الجيش الحر الذي تسارع بناؤه ليس بفضل الانشقاق عن الجيش فحسب بل بسبب اليأس من سلمية الحراك ولا جدوى مواصلته في بعض المدن والثمن البشري المرتفع الذي شكا منه الناشطون في مواجهة قمع النظام الشديد للحراك. كما يشجع اليأس من التدخل العسكري الخارجي كثيرين على تحويل الجيش الحر، بديلا لهدف يبدو مستحيل التحقق في الظروف الحالية، فضلاً عن أن شروط اي تدخل عربي لم تنضج، كما ان اي تدخل عربي لا يفي فعلياً بالغرض المنشود، إذا ما اقتصر على لعب دور مراقبين ولكن مسلحين بخلاف السترات البرتقالية حالياً.
محمد بلوط , السفير