“ينقصنا القلق!”

رياض متقلون يكتب عن “ينقصنا القلق!” “ضربة معلم!”

ينقصنا القلق!

قبل نحو عشرة أعوام دعيت إلى أحد المنتديات المنزلية التي كانت شائعة في تلك الأيام، لسماع محاضرة للباحث ميشيل كيلو، وقد أصر صاحب البيت على أن أجلس في الصف الأول قبالة المحاضر بحيث لم يكن يفصل بيننا سوى الطاولة الصغيرة التي يجلس خلفها.

شرع ميشيل بقراءة محاضرته المكتوبة، والحق أنني كدت أكذب أذني عندما سمعته يبدأ محاضرته بـ(إن…)! لو لم أر الكلمة مكتوبة فعلاً على الورقة الأولى من أوراق المحاضرة الموضوعة أمامه على الطاولة.

التقت عيناي بعيني ميشيل، فالتقط دلالة البريق الخاص الذي شع من عيني، وبينما كان هو يلقي محاضرته الحافلة بالمقولات القاطعة المانعة، كنت أنا أفكر بهذه الـ(إن).

خطر لي يومها أن المثقف الفرد في بلادنا هو صورة موازية ومشابهة للحاكم الفرد، لكونه يتقاطع معه في أشياء كثيرة. فعلى حين يحتكر الحاكم الفرد القرار، نجد أن المثقف الفرد يحتكر الحقيقة بحيث إن بعض المثقفين يجرؤون على بدء كلامهم بـ(إن) التي هي أداة للتوكيد.

بعد انتهاء المحاضرة أمسكني ميشيل من يدي وسألني بمودة: «عندما بدأت كلامي لمعت عيناك، كما لو أنها تقول شيئاً، ما الذي كنت تفكر به في تلك اللحظة؟».

أجبته: «كنت أقول لنفسي، هذا الرجل ذكي ومطلع، ولكنه يفتقر لشيء من القلق».

في تلك الأثناء اقترب الصديق الناقد الفلسطيني فيصل دراج – الذي أود أن أهنئه لفوزه مؤخراً بجائزة سلطان العويس في مجال النقد الأدبي – وسحب ميشيل من يده وراح يحدثه. تابعتهما بنظراتي وهما يتجهان نحو الباب، لكن ميشيل استوقف فيصل لحظة، وعاد نحوي وعندما أصبح قبالتي قال لي بشيء من الانفعال: «ماذا تقصد بقولك إنه ينقصني شيء من القلق؟ أنا لا أحد يشعر بالقلق أكثر مني!».

تذكرت هذه الحادثة عندما قرأت قبل بضعة أيام حواراً أجرته صحيفة لوفيغارو الفرنسية مع ميشيل كيلو الذي يقيم منذ بضعة أشهر في باريس. لست أريد أن أناقش الأستاذ كيلو بأي من الأفكار القاطعة التي جاء على ذكرها في حواره، والحق أنني لا أريد أن أدخل في سجال لا مع ميشيل ولا مع أي مثقف سوري في هذه المرحلة التي حل التخندق فيها عندنا محل الحوار وحلت التهمة الهوائية مكان الحجة العقلية. لكنني، رغم ذلك، أود أن أتوقف عند معلومة إخبارية وردت بصيغة قاطعة في حديث الأستاذ ميشيل كيلو لجريدة الفيغارو، هي قوله:

«لا يوجد إسلامي واحد بين من يقودون المظاهرات في حمص قلب التمرد».

وتكفي نظرة واحدة إلى هذه العبارة القاطعة المانعة لكي نتأكد من أنها ليست وجهة نظر أو اعتقاد بل معلومة يقدمها قائلها على أنها حقيقة لا يرقى إليها الشك. والحق أن من هم في حمص لا يعرفون حقيقة كل ما يجري فيها، فمن أين جاء الأستاذ كيلو بهذا اليقين المكين وهو يقيم على بعد آلاف الكيلومترات في مأمنه الباريسي؟

تقول الكاتبة المسرحية الأميركية ليليان هيلمان (1907-1984): «المثقفون يستطيعون أن يقولوا لأنفسهم أي شيء، يستطيعون أن يبيعوا أنفسهم أي قائمة من البضائع، ولهذا فقد كانوا غالباً مخدوعي الطبقات الحاكمة في فرنسا وإنكلترا القرن التاسع عشر ومخدوعي روسيا وأميركا القرن العشرين».

فهل يكون المثقف العربي مخدوع الشرق الأوسط في القرن الحادي والعشرين؟

حسن م. يوسف – نقلا عن جريدة الوطن السورية.  

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *