أتيح لي في حياتي الصحافية، أن أجري خمس مقابلات مع من أطلقت عليه تسمية «مانديلا سورية» أي رياض الترك، منذ خروجه من السجن عام 1998، ناهيك عن الفيلم التسجيلي «ابن العم» الذي أنجزته عنه وتناول في شكل خاص حياته كسجين سياسي أمضى ما يزيد عن الـ17 سنة في زنزانة منفردة لا تزيد مساحتها عن المترين، وتقع في قبو الاستخبارات العسكرية في دمشق، مع ذلك فإنني أعترف بأن لهذه المقابلة طعماً خاصاً، ليس فقط لأن «الثورة السورية» باتت أمراً واقعاً، ولكن لأن الجميع كان ينتظر ويسأل عن «ابن العم» رياض الترك وحقيقة موقفه ودوره فيها. لقد كان شاقاً الوصول إلى هذا الرجل المتخفي تحت الأرض، واستغرق الأمر أسابيع عدة حتى استطعت التحادث معه، وقراءة المقابلة كفيل بإماطة اللثام عن الكثير من الجوانب الغامضة في الثورة السورية، أترك للقارئ متعة اكتشافها. لكنني أريد هنا أن أنتهز الفرصة لأشكر كل الجنود المجهولين الذين سبق لهم أن ساعدوني في إنجاز فيلم «ابن العم»، وهاهم يساعدونني اليوم في إنجاز هذه المقابلة.
< في مقابلة أجريتها معك في 17 كانون الثاني (يناير) 2000 ونشرت في «الحياة» قبل وفاة الرئيس حافظ الأسد بشهور قليلة، وكانت أول مقابلة لك بعد خروجك من السجن، قلت: «لم يبق للمجتمع السوري إلا الصمت ليعبر من خلاله عن وجوده وعن رفضه الوضعَ القائمَ. إذاً، الصمت هنا موقف، لكن هذا الصمت لا يمكنه أن يدوم إلى ما لانهاية ولا بد للمجتمع بقواه الحية من أن يفرز تعبيرات جديدة تنتمي إلى عالم البيانات والمواقف العلنية والفعل». اليوم وبعد أربعة أشهر على اندلاع الاحتجاجات السورية، يأخذ عليك الكثير من الناشطين صمتك؟ ترى ما هو سبب هذا الصمت الإعلامي؟ وهل في هذا موقف؟
– سبب صمتي عائد في جزء كبير منه إلى رغبتي في أن تعطى الحقوق إلى أصحابها. الآن الكلام للشارع. الكلام للشباب الثائر. الكلام لمن يصنع الحدث. الكلام للشعب الذي يخرج اليوم عن صمته ويقوض جدران مملكة الصمت.
طبعاً، لا يعني كلامي هذا أن علينا نحن السياسيين أن نلتزم الصمت ونتقاعس عن مواكبة الثورة السورية، وأنا من جهتي موجود حيث يمكنني أن أساعد تنظيمياً ومعنوياً وسياسياً، رجال الثورة الحقيقيين، ضمن حدود طاقتي وإمكانياتي وإن كان هذا النشاط لا يظهر في الإعلام. مع ذلك اسمح لي بالقول إن ما أسمعه من بعض المتسلقين على ظهر الثورة في التسابق للتعليق السهل على الحدث، يصيبني بحالة من القرف والنفور من الكلام المجاني، ويدفعني لتكريس جلّ وقتي، للعمل الميداني وجمع شمل المعارضة في الداخل ومنع انزلاق بعض أطرافها إلى أي مواقف تلفيقية أو متخاذلة، تخدم النظام وتقوض أهداف الثورة.
دعني أقول في هذا السياق إن من إيجابيات هذه الثورة أنها سرعت من عملية الفرز داخل أوساط المعارضة السورية، وإننا نحن في حزب الشعب الديموقراطي وفي «إعلان دمشق» حددنا منذ البداية انحيازنا إلى جانب الشباب الثائر وركزنا جهودنا على دعم الثورة بمختلف الأشكال المتاحة. من هنا موقفي السياسي لا ينفصل عن موقف «إعلان دمشق» وعن البيانات التي لم ينفك يصدرها منذ بداية الأحداث، وعن التحركات الميدانية التي لم يتقاعس عن المشاركة فيها.
> كنت الوحيد تقريباً في سورية الذي اعترض علناً في عام 2000 على مشروع التوريث. كما كنت أول من ذكّر السوريين في عام 2001 من على شاشة قناة «الجزيرة» بأن «الديكتاتور قد مات» وأن على الناس أن تخرج من أسر الماضي وأن تتطلع إلى المستقبل. كما كنت السباق غداة انسحاب الجيش السوري من لبنان في الدعوة إلى استقالة الرئيس بشار الأسد وانتخاب مجلس تأسيسي يقود البلاد خلال المرحلة الانتقالية. ألا تعتقد أن من الأجدى في مثل هذه الأيام المصيرية، ألا يغيب صوتك عن الساحة؟
– الثورات لا تصنع بالتصريحات والمقابلات التلفزيونية، ولكنها تصنع بالفعل على أرض الواقع، وهذا الفعل له اليوم، طعم وشكل وروح الشباب. ولا أعتقد أن تصريحاتي يمكنها أن تضيف الكثير في هذا السياق. أنا كنت ولا زلت وسأبقى إلى جانب أبناء شعبي، ولن أتقاعس عن تقديم أي جهد في سبيل أن تنجح هذه الثورة وتصل بالمجتمع والدولة (لا السلطة المستبدة) إلى بر الآمان. لقد نشأ وضع في الماضي كنت فيه من بين القلائل الذين رفعوا أصواتهم جهراً بالحقيقة، لكننا اليوم أمام شعب يخرج عن صمته ويصنع لغته ويصوغ شعاراته ويبدع تحركاته، فلنستمع له بتأنٍّ، ولنمش معه لا أمامه، ولنمتنع عن مصادرة صوته أو تجييره لمصلحتنا.
> في مقالتك «لن تبقى سورية مملكة الصمت» التي نشرت في صحيفة «القدس العربي» في 13 آذار (مارس) 2011 قبل يومين من اندلاع الثورة السورية، أكدت على أن رياح التغيير العربية لا بد لها أن تعبر من سورية، مع ذلك اسمح لي بسذاجة السؤال: ألم يفاجئك اندلاع الثورة السورية؟
– صدقاً لم يفاجئني اندلاع الثورة، وإن كنت في البداية، كما هو حال أي إنسان، غير قادر على تحديد أين ومتى وكيف ستندلع الثورة كحدث. مع ذلك، لقد بدا الأمر واضحاً بالنسبة لي، كما بالنسبة للكثير من متتبعي مخاضات المجتمع السوري، ومفاده أن هذا المجتمع لن يبقَ بمنأى عن حركة التغيير العربية وأننا لن نكون الاستثناء وأن سورية لن تبقى مملكة الصمت. وهذا ما كان.
أذكر هنا ساعات النقاش الطويلة التي كانت تجمعني ببعض الصحافيين والديبلوماسيين الأجانب الذين كانوا يركزون على غياب البديل للنظام القائم وضعف المعارضة المنظمة وينتهي الأمر بهم إلى نوع من الدفاع غير المباشر عن النظام في مواجهة مطالبتنا بالبديل الوطني الديموقراطي. وكنت أجيبهم باستمرار أنه لا يكفي أن ينظروا إلى عملية التغيير من خلال السلطة والمعارضة، بل عليهم أن يرصدوا حركة المجتمع السوري، لأنه هو الذي سيثور وهو الذي سيحسم في النهاية هذا الصراع. وأن مصير هذا المجتمع في النهاية عندما يسترجع حقه في انتخاب ممثليه الحقيقيين، أن ينتج ليس فقط معارضة فاعلة ولكن كذلك سلطة سياسية ذات صدقية وتتمتع بمشروعية شعبية حقيقية. وها نحن اليوم نرى كيف أن هذا الشعب عاد ليكون الرقم الصعب واللاعب الأساس في هذه الثورة، وسينتهي به الأمر إلى تكريس قيادات سياسية جديدة، تكون جديرة به وبتضحياته. وأنا هنا لا أرى أي سلبية في غياب القيادات السياسية بالمعنى التقليدي للكلمة عن هذه الثورة. وهذه الظاهرة الجديدة، تشترك فيها معظم الثورات العربية، وتسجل لها على الصعيد العالمي، بعد أن كانت الثورات في الماضي ترتبط بقادة كاريزماتيين وبأحزاب وتيارات أيديولوجية أو حتى بانقلابات عسكرية.
> برأيك ما هو مآل هذه الثورة السورية وهل ستنتهي بإسقاط النظام، أم إنه لا يزال هناك هامش لإيجاد تسوية مع السلطة القائمة؟
– دعني أقل بداية إن واحداً من أهم منجزات الثورة السورية هو نجاحها في تهشيم وجه الاستبداد وكسر هيبته وضعضعة نقاط قوته الأساسية المتجسدة في أجهزة الأمن والميليشيات المسلحة. ولقد أتى زج الجيش الوطني في هذه المواجهة مع الناس، ليعيد إلى الواجهة شبح الانشقاقات والتفكك. من هنا أنا أعتبر أن السلطة أصبحت ساقطة موضوعياً والمسألة مسألة وقت وحسن تنظيم بين القوى الميدانية والتنسيقيات والقوى الفاعلة في مختلف المدن والبلدات. من هنا تأتي أهمية توحد جهود التنسيقيات المحلية والتقائها في لجنة وطنية جامعة تتشكل من حول برنامج حد أدنى سياسي.
دعني أقل في هذا السياق إن أفضل وثيقة سياسية صدرت حتى الآن بخصوص مستقبل الثورة، هي تلك التي أنجزتها لجان التنسيق المحلية تحت عنوان «رؤية لجان التنسيق المحلية لمستقبل سورية السياسي»، كونها تمثل رؤية متكاملة لآلية نجاح الثورة وإيجاد مخارج آمنة للبلاد توقف حمام الدم وتتيح انتقالاً هادئاً ومتدرجاً للسلطة يبدأ من الإقرار بأن القضية المركزية والهدف الأول للثورة هما تغيير النظام السياسي، متمثلاً كنقطة انطلاق في إنهاء ولاية الرئيس الحالي.
الثورة اليوم بحاجة لتسييس معين أراه متضمناً في هذه الوثيقة. كما أن هذه الثورة بحاجة لتأكيد استقلاليتها تجاه الأحزاب المتلكئة التي لا تزال عاجزة عن الالتحاق بركب الثورة. من هنا فإنني أتقاطع في هذه اللحظة مع هذه الوثيقة، وهي تعبر عن وجهة نظري في الظرف الحالي، لكن تطورات الثورة قد تفرض علينا تسويات وتدفعنا إلى تطوير مواقفنا في حال مال ميزان القوى لمصلحة الثورة واقتربنا من تحقيق الانتصار.
طبعاً يظل التحدي الأساس للثورة متجسداً في إمكانية كسب عقول وقلوب الفئات الصامتة التي لم تتحرك بعد، إما لحذرها من التغيير أو لخوفها من القمع أو لحرصها على مصالحها. ومن هنا تأتي أهمية تأكيد سلمية الثورة وكونها ستأتي بالحرية ليس فقط للثوار ولكن لجميع فئات المجتمع وستضمن حقوق الأقليات الدينية والإثنية. فسورية الجديدة ستكون للجميع وفقاً لمبادئ المساواة والعدالة.
تبقى الإشارة إلى البعد الاقتصادي في عملية التغيير. فالوضع القائم إذا استمر على ما هو عليه فسيؤدي إلى انهيار شامل في الأوضاع المعيشية، وهذا ما تتحمل مسؤوليته السلطة القائمة، وهو سيؤدي في النهاية إلى ابتعاد فئات اجتماعية جديدة عن السلطة القائمة. فالثورة السورية هي في المحصلة ثورة مجتمع تبدأ من جنوبه وتنتهي بشماله، وتمتد من غربه إلى شرقه.
في المحصلة، فإن استمرار الثورة على سلميتها وإمعان السلطة في سياسة العنف الأعمى والهروب إلى الأمام، لا بد له ن أن يؤدي في النهاية إلى ظهور عوامل التفكك في دوائر السلطة في شكل تنشأ عنه قناعات داخل بعض هذه الدوائر بضرورة عزل القوى الشرسة والهوجاء، وبأن العنف والمزيد منه لن يؤديا في النهاية إلى أي نتيجة، وبالتالي فإنه لا بد من إيجاد تسوية مع الناس، تتيح آلية انتقال سلمي للسلطة وتعمل على قلب صفحة الجمهورية الوراثية نهائياً من تاريخ سورية المعاصر.
> معنى هذا أنك لا تؤمن بإيجاد تسوية مع الرئيس بشار الأسد؟
– النظام، وعلى رأسه بشار الأسد، انتهى سياسياً وهو يتحمل الجزء الأكبر من المسؤولية عما جرى، ومن غير الممكن ولا المقبول أن يلعب دوراً سياسياً في أي مرحلة انتقالية. رأيي ألا مهادنة مع (الرئيس) بشار وعليه أن يرحل. في المقابل نحن مستعدون لأن نمدّ أيدينا إلى أهل النظام من الذين لم تلوث أيديهم بالدماء ولا بالمال الحرام، وذلك من أجل تأمين مخرج آمن للبلاد يقطع الطريق على أي نزعات ثأرية ويجنب الجميع المزيد من الدمار والدماء.
> هل هناك من خطر حقيقي لانزلاق البلاد إلى فتنه طائفية؟
– برأيي إن ما حدث في درعا وبانياس وحمص من تهويل بخطر الفتنة الطائفية، هو من إنتاج المصنع الأمني السوري الذي يكذب ويفبرك ادعاءات بوجود أصوليين ومندسين وقوى متطرفة تدير الاحتجاجات في الشارع وتقوم بأعمال القتل والتنكيل، في حين أن المصنع الأمني هو المسؤول عن معظم الجرائم المرتكبة بحق الأبرياء بما فيها بعض الجرائم المرتكبة بحق بعض عناصر الجيش.
إن التغيير الوطني الديموقراطي السلمي والمتدرج، هو الذي يقطع الطريق على الفتنة الطائفية، ولا يمكنه في النهاية إلا أن يصب في مصلحة جميع مكونات المجتمع السوري، وهيهات أن يجرى في هذا السياق استبدال استبداد بآخر مقابل. فالثورة السورية حررت نفسها وهي ستحرر في النهاية غيرها. و بمعنى آخر فإن الذين ينزلون اليوم إلى الشارع هم أحرار وسيحررون غيرهم لاحقاً، ليتساوى الجميع في ظل دولة مدنية حديثة ودستور ديموقراطي يضمن الحقوق والواجبات للجميع.
زرت أخيراً طرطوس وبعض المناطق بالجبل والقدموس وحمص والسلمية، وسنحت لي الفرصة، على رغم ظروف العمل السري، أن أتبادل الآراء مع بعض الأوساط المتنورة في تلك المناطق، ولمست وعياً جدياً لدى العقلاء بأن الحل الأمني لن يقود إلا إلى الطريق المسدود، وأن المخرج الآمن هو في فك الارتباط بالنظام. وفي هذا السياق جاءت البيانات المشتركة لأحياء حمص وبيان الشباب العلويين وبيان مشايخ علويين لتقول كلها بصراحة، إن ما يجرى في سورية هو ثورة ديموقراطية من أجل الحرية والكرامة، ولا علاقة له بالطائفية ولا بالطائفيين.
> هذه مناسبة لأسألك هل ابتعدت نهائياً عن العمل العلني؟ أم يمكنك أن تعود إليه قريباً؟ وخصوصاً أن البعض بدأ يتهمك بأنك خائف من الاعتقال؟
– ليس هناك قرار نهائي والأمر يتعلق بالظروف. حالياً أرى نفسي أكثر حرية بالتحرك وأنا متوارٍ عن الأنظار. وعندما أرى أن الضرورة تتطلب أن أعود للعمل العلني فلن أتردد لحظة بذلك وحتى لو كان الثمن هو الاعتقال من جديد. بصراحة أخجل أن أعود لأصرح وأكرر ما سبق وقلته عشية الثورة، وعلينا أن نفسح المجال للشباب ليقول وليفعل ويحقق طموحاته. أما بالنسبة للخوف، فليسمحوا لي بهذه النقطة أن أقول، من دون أي ادعاء أو تبجح: إن السجون ملتنا ونحن لم ولن نمل، لم ولن نهادن، لم ولن نساوم، فماذا نفعل اليوم وشعبنا يتقدمنا ويعطينا الدروس في الشجاعة والتضحية. أنا اليوم ابن الواحد والثمانين، ويا ليتهم يفعلون جزءاً من الذي فعلته طوال حياتي السياسية. في النهاية، أنا لا أطمح لشهرة ولا لمنصب ولا لجاه، ويكفيني ما فعلت. والآن الفعل هو لهذا الشباب الثائر، وكل ما أقدر عليه اليوم، سأبذله ميدانياً بصمت وهدوء وروية، وسأظل حاضراً ومتيقظاً من خلال موقعي في قيادة «إعلان دمشق» منعاً لانزلاق بعض الأطراف السياسية في الساحة لأية تسويات جزئية ومهادنة، وهذا الأمر ليس بالضرورة أن يعرفه أو يطلع عليه الجميع.
> ما موقفك من مؤتمرات المعارضة بالخارج، وهل هناك تسرع في عقدها، وماذا عن اتهام البعض لها بخلق وفرض قيادات من الخارج تعمل على مصادرة الثورة وتجييرها لمصلحة طموحاتها وأجنداتها السياسية؟
– دعني أقــل بــداية إن هذه الثورة أدخلت البحــث عن سورية المستقبل في كل بيت وداخل كل عــائلة، وبالتالي أصبح من حق كل إنسان أن يضع رأيه وأن يتخذ الموقف الذي يراه مناســباً. فالأمــر بات يتعلق ليس فقط بمصير ســورية ومصير المنطقة، بل بمصير كل عائلة وكــل فرد ينتمي إلى هذا الوطن، سواء كان مع الثورة أو ضدها.
على رغم ذلك، إنني أعتقد أن المؤتمرات التي عقدت في الخارج، جاءت متسرعة وغير مفيدة في المرحلة الحالية، لأنها قد تشكل عامل انشقاق وخلاف بين أطراف المعارضة وداخل أطياف المجتمع. ناهيك عن خطر وقوعها رهينة التجاذبات الدولية والإقليمية. يضاف إلى كل ذلك الطابع الإسلامي الذي طغى على معظم هذه المؤتمرات الخارجية، بما لا يتماشى مع تنوع المجتمع السوري، وبما يصب في طاحونة النظام لجهة ادعائه بأن الإسلاميين هم من يقودون الثورة.
هذه الثورة بدأت من داخل سورية، وتطورت في داخل سورية، وستتوج من داخل سورية. مع ذلك لا أرى أي مصلحة في وضع الداخل السوري في تناحر مع الدور الإيجابي للجاليات والقوى السورية الموجودة قسراً في الخارج. فمهمة الطرفين أن يتكاملا لا أن يتناقضا.
> تتهم السلطة وبعض الأوساط الإعلامية، الثورة السورية بأنها واقعة تحت سيطرة التيار الإسلامي. برأيك ما مدى صحة هذه الادعاءات، وهل يمكن القول على الأقل إن الثورة السورية يغلب عليها الطابع الإسلامي؟
– اسمح لي أن أروي لك حادثة جرت معي تبيّن كذب هذه الادعاءات. دعيت إلى حضور اجتماع لتنسيقيات مدينة حمص تم عقده في حي باب السباع. وكان هناك جدول أعمال يأتي على رأس بنوده، السعي إلى تشكيل لجنة تضم كل تنسيقيات مدينة حمص ومن ثم العمل على إنشاء لجنة وطنية تضم كل التنسيقيات الناشطة على مستوى محافظة حمص ككل. واحتدم النقاش بين الشباب الحاضر وسمحت لنفسي أن أقدم لهم اقتراحاً بأن يتم التركيز على إنشاء لجان في كل أحياء المدينة، وعندما تثبت هذه اللجان أقدامها يمكنها أن تختار في مرحلة لاحقة ممثلين عنها لتشكيل لجنة على مستوى المدينة، تنشأ عنها لجان فرعية مختصة بالإعلام وتنظيم التظاهرات إلخ. وعندما انتقل مدير الجلسة للبند الثاني على جدول الأعمال وكان يتضمن اقتراحاً من أحدهم باستمزاج رأي واحد من كبار رجال الدين في حمص لترشيحه ليترأس واحدة من لجان التنسيق القيادية، وسؤاله أن يدعو بعض رجال الدين للانضمام إلى هذه اللجان، ليلعبوا فيها دوراً في تقديم النصح والمشورة. فما كان من الشيخ إلّا أن أجاب هذا الشاب: يا ابني أنتم تخطئون إذا ظننتم أن دور المشايخ هو العمل في السياسة. نحن من الناحية الشرعية ندعمكم ونرى أنكم على حق، لكن لا يجوز لنا أن نتزعم هكذا حراك، والأفضل لكم أن تلتفتوا صوب بعض السياسيين المخضرمين وبعض الشخصيات المحترمة لتقديم النصح والمشورة لكم.
في النهاية أجمع الحضور على الثناء على موقف الشيخ واتفقوا على ضرورة عدم زج الشيوخ في هذه المعركة. الطريف هنا، أنه عندما لام بعض الحضور مبادرة هذا الشاب ورفاقه في ذهابهم إلى الشيخ، ما كان منه إلا أن أجاب، بأنهم لم يجدوا في حمص سياسيين معارضين يمكن اللجوء إليهم وطلب المشورة منهم، ومن هنا أتتهم فكرة طرق باب الشيخ.
هذه القصة إذا دلت على شيء فعلى أن هذه الثورة هي أولاً وقبل كل شيء ثورة وطنية شعبية جامعة. ولا يغير من هذا التوصيف أن بعض الأوساط الاجتماعية الحاضنة لها هي بيئات مسلمة ومتدينة تمارس شعائرها بعيداً من أي تزمت أو غلو أو إقصاء لآخر. هكذا كان المجتمع السوري على مدى تاريخه الطويل وهكذا سيظل، مثالاً للتعددية والتعايش المشترك والتسامح المتبادل.
مع ذلك أحب أن أضيف هنا، أن في ظل سورية الجديدة المحررة من الاستبداد وفي ظل الحريات ودولة القانون، لا يمكن إلّا أن يكون هناك مكان ورأي للإسلاميين، ومكان ورأي لكل من الليبراليين والقوميين واليساريين والشيوعيين. فعلى الحياة السياسية في سورية الجديدة أن تتسع لجميع أبنائها، ما عدا أولئك الذين تلوثت أيديهم بالدم والمال الحرام.
> ألا تعتقد أنك جانبت الصواب عندما كتبت في مقال لك «أنه مخطئ من يراهن» على أن الجيش سيوجه فوهات بنادقه إلى صدور الشعب السوري» وأن «الجيش من الشعب والشعب من الجيش، فداخل كل دبابة هناك حفيد من أحفاد يوسف العظمة…»؟
– أنا ما زلت من حيث المبدأ عند هذا الرأي، على رغم كل الذي حدث. وعلينا جميعاً أن نحرص على هذه المؤسسة ونبعدها عن السياسة ونحذر من مغبة إقحامها في هذا الصراع إلى جانب السلطة المستبدة. صحيح أن هناك داخل الجيش مجموعة من الضباط والهياكل التي سعت جاهدة خلال السنين الماضية إلى تحويل هذا الجيش من جيش يدافع عن الوطن إلى جيش يدافع عن الأسرة، ولم تتردد في سبيل هذا من أن توجه سلاحها إلى صدور أبناء شعبها. لكن الجيش كمؤسسة وكتركيب وكتاريخ، كان وسيظل جيش الوطن، ومن يقف في الشارع ليتظاهر قد يكون أخاً أو قريباً أو صديقاً لمن يقبض على الزناد ويرتدي اللباس العسكري. ألم تلاحظ التوتر، بل والاشتباكات التي حصلت في مناطق عدة بين القوى الأمنية وتشكيلات الجيش. ألا تعتقد معي أن ظاهرة الانشقاقات الفردية التي بتنا نراها داخل الجيش، إذا دلت على شيء فعلى أن هؤلاء هم الأحفاد الحقيقيين ليوسف العظمة والشيخ صالح العلي. صحيح أنهم قاموا بذلك في شكل فردي وبمعزل عن المؤسسة العسكرية الأم. لكن هذه المؤسسة، على رغم كل الضغوط التي تتعرض لها من خلال محاولة زجها في مواجهة أبناء شعبها، لا بد لها في نهاية المطاف أن تثبت أنها هي الأخرى مؤسسة الوطن ووريثة أبطاله.
> ما رأيك بالإشاعات التي قالت إنك كنت إلى جانب الشيخ الصياصنة في الجامع العمري في درعا البلد وإنكما كنتما شريكين بالمؤامرة؟
– هذه الاتهامات الواهية تدعو فعلاً إلى السخرية، وتدل على التهافت وانعدام الحجج لدى الأبواق الإعلامية التابعة للنظام. مع ذلك أقول للآسف لم يحصل لي الشرف أن أكون في درعا وأن أقف إلى جانب هؤلاء المتظاهرين الأبطال في الدفاع عن الجامع العمري عندما تم اقتحامه وتدنيس حرمته على يد الأجهزة الأمنية التابعة للنظام.
> تقول المعارضة إن بعض دوائر السلطة تجهد في محاولة كسب تأييد الطائفة المسيحية إلى جانبها من خلال إثارة مخاوفها والترويج لإشاعات تباعد بين المسيحيين والثورة. ما رأيك في هذا؟
– دعني أقل بداية إن من مميزات هذه الثورة أنها في جوهرها وقيمها عابرة للطوائف والمذاهب، وهناك الكثير من الشهداء والمعتقلين من أبناء الطائفة المسيحية. وإذا كان هناك بعض الخائفين أو المترددين من أبناء هذه الطائفة، فإنني لن أذكرهم فقط بفارس الخوري، ولكنني سأذكرهم بموقف البطريرك إبان الثورة السورية ضد الانتداب الفرنسي. فكون البطريرك كان غير قادر على إعلان تضامنه العلني مع الثوار، فإن هذا لم يمنعه من أن يرسل سراً القمح والدقيق لتغذية الثوار في غوطة دمشق، كما أنه قام في بداية عهد الاستقلال بإدخال الكثير من أبناء الشهداء في الميتم المسيحي وعلّمهم مجاناً حتى دخولهم الجامعات.
وإذا كان صحيحاً أن هم السلطة الأول والأخير هو زرع الشقاق والفتنة بين أبناء المذاهب والطوائف، حتى يسود لها الأمر، فإن علينا جميعاً أن نتذكر أن هذه الثورة هي ثورة من أجل المواطنة ومن أجل حرية السوريين وكرامته جميعاً، على تعدد مشاربهم وانتماءاتهم السياسية والدينية والقومية.
> إذا دعيت إلى حضور مؤتمر للحوار الوطني بالداخل، هل أنت مستعد للمشاركة فيه وما هو تصورك لتركيبة القوى المشاركة؟
– توافر الشروط الموضوعية لعقد مثل هكذا مؤتمر، يرتبط برجحان كفة ميزان القوى لمصلحة الثورة، وبأن يدرك أهل النظام ألّا تسوية ولا حل مع (الرئيس) بشار الأسد وأن المخرج هو في فك الارتباط بين العائلة والنظام، وبعدها يأتي البحث في شروط الانتقال السلمي إلى الدولة المدنية الديموقراطية. عندها يمكن أن أشارك في مثل هكذا مؤتمر على أن يكون بين المشاركين فيه ممثلو الشباب والتنسيقيات وممثلو فاعليات المجتمع والأحزاب المعارضة وأهل النظام ممن لم تتلوث أيديهم بالدم أو بالمال الحرام. والواقع أن تفاعل هذه القوى وتعاونها فيما بينها، سيسمح في مرحلة لاحقة بوضع الخطوط العريضة لعملية التغيير والخروج بحل سلمي وتأمين بديل يضمن قيادة سورية في المرحلة الانتقالية وصولاً إلى انتخاب مجلس تأسيسي تكون مهمته وضع دستور جديد والتحضير لانتخابات حرة وديموقراطية.
> ألا تخاف ألّا تتاح لك فرصة أن ترى في حياتك سورية وقد أصبحت دولة مدنية ديموقراطية؟
– مقاربة الأمر بهذه الطريقة لا تعنيني. فأنا إنسان حر، وأدرك أن سورية باقية والاستبداد إلى زوال، ويسعدني أن أرى نضال هذا الشعب العظيم وقدرته غير المحدودة على التضحية، وفي هذا تأكيد أنه سينال في النهاية حريته كاملة وغير مجتزأة. ودعني أنتهز هذه الفرصة لأطالب الدول العربية والجامعة العربية والمجتمع الدولي بأن ينتصر لهذا الشعب الذي يواجه منذ أربعة أشهر الدبابات والرصاص الحي بصدره العاري، كما انتصر لمصر وتونس. فهذه الثورات في جانب منها، تنطلق من مشترك أساسي هو توق الناس إلى العيش بكرامة وحرية
محمد علي الأتاسي
المقابلة هامة جدا ورغم زخمها الفكري الرومانسي الغني بالنقاط الجديرة بالنقاش والجدل وحتى الإعجاب الشديد بالرجل وأهميته إلا أنها – أي المقابلة – أصبحت “أحفورية” نظرا لمرور 6 أشهر عليها و خاصة بعد التطورات الكبيرة التي شهدتها الأزمة السورية وبشكل خاص بعد الاختطاف القطري ، وما خلفه، الذي جرى لنتاج تحرك لأربعة أشهر مما أجهض مجمل الحراك وانتهى منصبا في أرصدة خارجية لا تمت بصلة لمصالح الشعب السوري الجدير بأن يعيش فعلا في أجواء سياسية أكثر صحية وأكثر قدرة على الإنتاج والفعل والإبداع ! إن قلقي من الاختطاف الخارجي واعتقادي بحتميته كان مصدر معاناتي و آلامي الشديدة جدا منذ بدء الأزمة وتحفظي الذي أثبتت مجريات الوقائع مصداقيته!!!
المقابلة هامة جدا ورغم زخمها الفكري الرومانسي الغني بالنقاط الجديرة بالنقاش والجدل وحتى الإعجاب الشديد بالرجل وأهميته إلا أنها – أي المقابلة – أصبحت “أحفورية” نظرا لمرور 6 أشهر عليها و خاصة بعد التطورات الكبيرة التي شهدتها الأزمة السورية وبشكل خاص بعد الاختطاف القطري ، وما خلفه، الذي جرى لنتاج تحرك لأربعة أشهر مما أجهض مجمل الحراك وانتهى منصبا في أرصدة خارجية لا تمت بصلة لمصالح الشعب السوري الجدير بأن يعيش فعلا في أجواء سياسية أكثر صحية وأكثر قدرة على الإنتاج والفعل والإبداع ! إن قلقي من الاختطاف الخارجي واعتقادي بحتميته كان مصدر معاناتي و آلامي الشديدة جدا منذ بدء الأزمة وتحفظي الذي أثبتت مجريات الوقائع مصداقيته!!! منذ البدء كنت أعتقد بأن حاجة سورية الى الإصلاح السياسي الشامل والبنيوي كان بمثابة عقب أخيل في الجسد السوري!