كانا اثنين تجمعهما لفافة يتصاعد منها دخان أبيض، تدور بينهما برتابة فيها الكثير من الترقب واللهفة وانضباط صارم من حيث التوقيت تفرضه آداب الجلسة.
أخذ نفساً عميقاً حبسه طويلاً ثم أطلقه بهدوء شديد ومتعة تقرب حد الإغماء. فتح عينيه ببطء وتردد وكأنه يخرج من نفق مظلم، ناول اللفافة لصاحبه قائلاً بتثاقل: «مساء الخير» ثم أردف دون انتظار:
الدنيا مقلوبة يا رجل. بعد أكثر من ستة عقود من الاستقلال يطالب الجميع بالحرية. بعضهم يطلب من الحكومة أن تمنحه الحرية. وبعضهم يطلب من الأجنبي الذي كان يستعمرنا أن يتدخل بقواته ويحتل البلد من أجل الحرية. وبعضهم يقتل ويغتصب ويحرق من أجل الحرية. أصبت بالدوار من هذا الحال الملتبس فلم أعد أعرف رأسي من رجلي. وكلما سألت عن ماهية الحرية المطلوبة يسخر الناس من جهلي وضحالة ثقافتي. دوامة من الأسئلة تثور في ذهني: هل تحررنا بعد الاستقلال أم لا؟ هل عودة الاحتلال الأجنبي ستمنحنا الحرية؟ هل نستطيع الحصول على الحرية بالقتل والتخريب والحرق والترويع والاغتصاب؟
رغم أنني لست ضليعا بشؤون السياسة وقضايا التحرر والاستقلال ولكنني أعتقد أن المسألة لشدة بساطتها تبدو شديدة التعقيد. أنا أفهم الوضع على الشكل التالي:
لنفترض أننا (أنا وأنت) شعب من الشعوب، نعيش معا في وطن واحد وهو هذا البيت، وما حولنا من بيوت ومدن على امتداد البلد هو العالم يعيش فيه أناس آخرون منهم الأقارب والجيران، ومنهم الغرباء من أعداء وأصدقاء.
قبل الاستقلال كان هذا البيت مشاعاً يحكمه الغرباء ويسخراننا لمصالحهم ويتصرفون ببيتنا كأنهم أصحابه وكأننا نحن الغرباء، ينامون على أسرتنا ويستغلون حديقتنا التي نزرعها بعرقنا ويأكلون طبختنا ويحرموننا من حقوقنا كبشر. ثم قاتلنا وناضلنا حتى أخرجناهم من بيتنا وصرنا أحرارا نتصرف براحتنا في بيتنا الذي هو وطننا. المفترض بأن كل واحد منا له الحقوق نفسها في هذا البيت وعليه الواجبات نفسها وسوف ننعم بالاستقرار والسلام ما دام أي واحد منا لا يحاول أن يأخذ أكثر من حقه أو أن يقصر في واجبه بحيث يثقل به كاهل الآخر. بهذا يحتفظ كل واحد بحقه في بيتنا، وطننا المشترك وبالتالي ينعم بحريته. ولكن عندما يستغل أي واحد منا وظيفته التي يؤديها في هذا البيت ليفرض على الآخر أن يتنازل له عن قسم من حصته في الطعام أو الشراب أو الـ… ، فإن هذا الآخر يفقد قسماً من حريته التي حصل عليها عند الاستقلال فيدب الخلاف بين الطرفين وينعدم الاستقرار والسلم، إذ ليس من المعقول أو العدل أن يأكل أحدنا اللحم وحده ويترك المرق لزميله أو أن ينام في غرفتين لينام الآخر في الممر على الأرض. وإن حدث هذا فلن يستمر لفترة طويلة فللصبر حدود. فإذا حاول أحدنا أن يزيح الآخر بقتله أو حرقه أو سجنه فإنه يرتكب جريمة تخالف الدين والأخلاق والقانون ويضعف البيت ما يجعله مطمعا في أعين الأعداء والغاصبين المتربصين. أما إذا حاول أحدنا استعداء الجيران والغرباء خسرنا البيت والحرية وهذه الجلسة السحرية. حبذا لو يتبع الجميع آداب جلسات الحشيش في حياتهم اليومية ليتمتعوا بنعمة الحرية.
فإذا اختلفنا لا قدر الله، فماذا نفعل؟
نحتكم إلى العقل ومبادئ الحق والعدل والحب وما تمليه المصلحة المشتركة في حفاظنا على بيتنا حراً مستقلاً، ويكون الحوار بيننا هو السبيل إلى إصلاح أحوالنا وإعادة الاستقرار والاطمئنان.
إذا فنحن أحرار في وطننا نتمتع بكامل حقوقنا وليست لنا مطالب تتعلق بالحرية، ولا علاقة لنا بالمعارضة أو الموالاة أو التهديدات الخارجية والداخلية.
هذا صحيح لو أن هذا البيت هو حقا وطننا. لقد ضربت لك مثلاً ليسهل عليك فهم طبيعة الحرية التي يحتاج إليها أبناء الوطن وكيف يحصلون على هذه الحرية بالحوار والاتفاق ووضع الأسس والآليات والقوانين التي تعيد الأمور إلى نصابها والحقوق إلى أصحابها، دون سفك دماء أو الاستعانة بالأعداء.
لو أن الحشيش مسموح في بلادنا لنشرنا ثقافة جلسات الحشيش في ربوعنا وعلمنا الناس معنى التشاركية الحقيقية التي لا تفسد للود قضية، لفافة يتداولها الجميع على قدم المساواة بكل احترام وأدب. أتمنى لو أننا استطعنا أن ننصب حشاشا على رأس جامعة الدول العربية.
صالح عبد الهادي رضا, الوطن