بعد انتهاء العمل , تصبح الجولة في عالم الاعلام والخبر والرأي ضرورية , ولا توجد مؤسسة تستحق اسم “التواصل الاجتماعي” أكثر من المؤسسة التي تحمل هذا الاسم بأحقية , انه فعلا تواصل اجتماعي بدون رسوم تنهك الجيبة , وقد وقع نظري على مقال قصير للصحافي نزار نيوف , الذي تخرج من سجن القيادة الحكيمة مشلولا , حيث آل مؤخرا الى المهجر كغيره , واستوطن وطنا آخر بعيدا عن الشبيحة والذبيحة والأمن العسكري والأمن السياسي والأمن الرئاسي والأمن الداخلي والخارجي والمخابرات والمؤامرات والمداخلات , اندس في عواصم الانحلال والاستعمار الغاشم , وذهب من باريس الى لندن للقاء زميل له من الجنوب اللبناني , ثم فاجأني بالتقرير التالي الذي قال فيه مايلي :
“عدت قبل قليل من لقاء مع الرفيق العزيز أسعد أبو خليل الذي يزور لندن الآن في جولة أكاديمية . وهذه أول مرة يتاح لنا أن نلتقي فيها وجها لوجه بعد تواصل لسنوات بواسطة وسائل الاتصال المختلفة . وفي الطريق مررت إلى أحد المحلات العربية لشراء بعض المواد الغذائية “الشرقية” كانت أوصتني عليها زوجتي. صاحب المحل ، والعاملون فيه ، يعرفونني منذ فترة ليست قصيرة ، ويسرّون لي بما يقال وما لا يقال. وهم ـ بالمناسبة ـ دمشقيون من أعرق الحارات الدمشقية. سألتهم اليوم عن أخبار اثنين من أقربائهم المباشرين ، كانوا أخبروني عنهما منذ بضعة أشهر ، وعمّا إذا كان أطلق سراحهما بموجب “العفو” أم لا، فأجابوني بأن أحدهما استشهد تحت التعذيب والثاني ” دفعنا على راسو مليون ليرة حتى شمله العفو”!؟
قبل بضعة أشهر ، وعلى خلفية مراسيم “العفو” السابقة، كنت نشرت تقريرا استندت فيه إلى معلومات من مصدر صديق ( ضابط شرطة) في وزارة الداخلية ، حيث أبلغني بأن مدراء السجون ومراكز الاعتقال ، وبالاتفاق مع رؤساء الفروع الأمنية التي اعتقلت الموقفوفين لديهم، يقومون بمساومة المعتقلين ، وبشكل خاص “الدسمين” منهم ، أي من العائلات الثرية التي يسمح لها وضعها بالدفع، على تغيير اتهاماتهم وفق” تسعيرة” معينة : من”مسلح إلى متظاهر مشاغب” لها سعر معين ، ومن “متظاهر مشاغب إلى متظاهر سلمي” لها سعر محدد…وهكذا!؟ علما بأن “التسعيرة” تختلف في حدها الأعلى والأدنى من جهاز أمني إلى آخر ( أعلاها لدى المخابرات العامة)!؟
اليوم مساء وصلتني ، من صديقي ضابط الشرطة اياه ، “التسعيرة” التي جرى اعتمادها للشمول بمرسوم”العفو” الجديد . فقد تبين أن “السعر الوسطي للراس الواحد” مليون ليرة (عشرون ألف دولار) ، والذي يمكن أن يصل إلى حوالي مليونين في حالات محددة ، مثل اختطاف مواطن سوري يعمل في الخليج فور وصوله إلى أرض المطار( وهو ما حصل مع ثلاثة على الأقل أعرفهم بالاسم) . ضابط الشرطة ـ المصدر أكد لي أن ربع من شملهم “العفو” الصادر أول أمس جرى تشميلهم بهذا “العفو” بعد أن …دفعوا بالتي هي أحسن !”
تبجح من تبجح وتشدق من تشدق بالعفو الرئاسي ..تلك الخطوة التي جعلت بشار الأسد بمثابة المسيح المنتظر ..من ضربك على خدك الأيمن , فحول له الأيسر , والمواطن المخبول لم يعرف شبئا عن ريعية هذه الخطوة الكريمة , ولا يعرف شيئا عن التسعيرة , التي حدثني عنها معتقل كردي بعد أن آل به المطاف الى دولة أوروبية , وذلك بعد أن تخرج من السجن , وبعد أن برهن بشكل موثق على أن كل مايملك في هذه اللحظة كانت سيارة استرزق من خلال العمل بها , ومسكنه كان حي الاكراد في دمشق , وقد تملك قبل ذلك حانوتا في الحي نفسه (بقالية) , حيث بيع الحانوت من أجل تمويل الاقامة في سجن دمشقي , وقد سألني المغدور قبل ذلك مايلي : مارأيك في الاقامة في السجن ؟ هل تكلف شيئا , أو انها لاتكلف ؟ قلت الاقامة في السجن لاتكلف الا الفلق وغير ذلك من مستوجبات الأمن , قال , الاقامة في السجن تكلف المسجون , أكثر مما تكلفه الاقامة في أوتيل من ثلاثة أو أربعة نجوم! سألته كيف هذا ؟ قال , هناك اسعار مختلفة لكل شيئ ..مثلا للبطانية …حسب سمكها ونوعها ..هناك سعر للمأكولات والمشروبات , وسعر لكل جولة فلق ونعذيب التغطيص في الماء حتى الاختناق له سعر والسوط له سعر والتعليق من السقف له سعر وتجنب احتساء البول له سعر , والزنزانة مع الجرابيع والفئران لها سعرها الخاص كما ان هناك سعر للاقامة في قاووش الأكابر من الجامعيين أو القتلة من المجرمين ..لقد باع الحانوت من أجل تمويل الاقامة في السجن , وعندما ضاق الحال أكثر فكر بالتخرج من السجن وذلك حسب التسعيرة المعروفة , الا أن سعر السيارة لايكفي من أجل التخرج ومن أجل التهريب الى ملجأ اوروبي , ونظرا لحاله المحزن تعطف المسؤولون عليه , واكتفوا بتسعيرة انسانية , حيسث قبضوا 500000 ليرة سورية من سعر مبيع السيارة , والباقي (250000 ليرة سورية )دفعت الى العصابة التي هربته الى دولة أوروبية , وبعد وصوله الى هذه الدولة امن له مكتب خاص بالمدينة التي وصل اليها بيتا صغيرا (ثلاثة غرف) وبعدها نقل الى بيت أكبر اذ عنده خمسة أولاد وزوجته ..مساحة البيت الآن 140 مترمربع , ويقبض شهريا من مؤسسات الدولة مبلغا محترما جدا ,مع التأمين الصحي , ومع افراز معلمين لمساعدة اولاده في دراسيا في البيت وبعد الدوام المدرسي .
هذه قصة من الوف قصص السوريين المهجرين الهاربين من جملوكية الخوف
ملاحظة:لمن لايعرف معنى كلمة ” جملوكية” أقول , أول من ابتكر هذه الكلمة هو رئيس الجمهورية التونسية الحالي الدكتور المرزوقي , وهذه الكلمة هي اختصار للعبارة التالية : جمهورية- ملكية = جملوكية