من القصور في النظر اختزال الفساد الى مجرد اختلاس بضع ملايين من الليرات او الدولارات , أو أنه مجرد تعميم للرشاووى والاستزلام والمحسوبيات , كل ذلك يؤدي بدون أي شك الى خسارة مادية , وقد يؤدي ألى تدهور مالي أقتصادي , وكل ذلك سهل الاصلاح والتحمل , الا أن الفساد هو بشكله البالغ اليافع ضربة قد تكون مميتة الى منظومة القيم الوطنية والقيم السياسية والأخلاقية , مما يؤدي الى اختلال العقد الاجتماعي وانعدام المساواة وتكافؤ الفرص ثم ترهل الحس الاجتماعي التكافلي التضامني , وانقلاب المعايير والقيم ..فالسرقة تصبح ضمانة للمستقبل , الوطنية جنون , النزاهة حماقة والحب كره ..الى آخر هذه المتناقضات .
يقال ان الدولة معرضة للتحدي والمؤامرات , ولا شك , على الأقل , بجزء من ذلك , ويقال أيضا , ان كل ماتقوم به الدولة هو برسم زيادة التمنيع والمناعة الوطنية ضد الأعداء ومن لف لفهم , وميزان القوى , الذي يحسم نتائج العراك مع العدو , يتضمن تمنيع وتقوية كل قطاعات الشعب و ليس فقط الجيش , وانما التعليم والأمن الداخلي ومارسة الحرية , والوضع الديموقراطي , ونزاهة الحكم , وتحبيب البشر بالدولة ومؤسساتها وترغيب الناس بالقيام بالواجبات الاجتماعية , وزرع الثقة بالقضاء , ..كل ذلك يقوى الدولة والمجتمع , ويجعلهم قادرين على مواجهة التحديات , ان كانت حقيقية أو وهمية …
الا أن مصيبة الوطن تتمثل باصابته بالعكس مما ذكر .. لقد ضعف الوطن وتضعضع , وأصبح مزبلة تستضيف الحشرات والطفيليات ,من بشر فوق القانون وتحت الفضيلة , بشر كانوا مثلك ياعزيزي المواطن الشريف , لقد أصبحوا طحالب وطفيليات ومستحاثات بفعل السلطة التي وضعتهم فوق القانون ..انظروا الى عاطف نجيب وتعامله مع أظافر الأطفال ومع ذويهم , وكيف وضع رأس أحدهم في سلة القمامة , وهو الآن وغدا وبعد غد حر طليق و ينعم بامتيازات مطلقة , ثم ياتي الرئيس ويتحدث عن حزمة أو رزمة الاصلاحات , التي بدأت الحكومة بها بعد ستة أيام فقط اندلاع حراك الاحتجاجات , أين هي نتائج هذه الاصلاحات ؟, والى متى يجب علينا الانتظار ؟, وقد قتل في الوطن مايزيد عن خمسة آلاف انسان بين مدني وعسكري ..على أقل ..أقل ..تقدير , والوطن منحدر الى هاوية الحرب الأهلية والى الفناء .
التأهيل هو الدواء المناسب لهذا الداء , ترميم المؤسسات والانسان , هو مايشفي من هذا الوباء , الا أن التأهيل يشترط وجود بقايا من الضمير والشرف في نفوس الطفيليات , حيث يمكن البناء على ماتبقى , الا أن ماتبقى يسير وبالتالي يصبح التأهيل عسير , ومن الصعب تقويم ذلك الاعوجاج العملاق , بل انه من المستحيل , وبالنتيجة لاتأهيل ولا ماشابهه , انما يتطلب الأمر نوع من القص والبتر للعضو المريض , وما ينطبق على الفرد ينطبق على السلطة , تأهيل السلطة لكي تصبح قادرة أن تكون سلطة دولة بالمعنى الايجابي والأخلاقي لهذه الكلمة أصبح مستحيل , لقد فشلت ..وفشلت وفشلت , وكان لي دائما أمل في أن تستقيم , الا انها تبدو وكأنها منيعة على الاستقامة ..عضو مريض لاشفاء له !
الا أن سوريا ليست برمتها فاسدة , وانما بأقليتها , وعلى الصالح نسبيا ومن لايستعصي فساده على العلاج يمكن البناء ..بناء الانسان الحضاري الذي يستطيع التعامل مع الحرية والديموقراطية وايجابيا مع القانون , الذي عليه احترامه ووضعه على رأسه وليس تحت نعل حذائه ,كل ذلك لايمكنه أن يتم الا بالمشاركة في كل جوانب الحياة , ومن أهمها المشاركة السياسية , ثم مكافحة الفساد , ليس من قبل المفسدين , وانما من قبل من لم يمرض بمرض الفساد , وازالة معضلة فساد القضاء , ومعضلة الاعلام القاصر والمشوه لعقل الانسان ..كل ذلك معروف عند كل انسان , ماهو غير معروف عند البعض , هو ان التأهيل والاصلاح لايمكن له أن يتحقق الا من خلال سلطة غيرهذه السلطة , التي أفلست وبشكل شبه أسطوري .