تتطلب كل ظاهرة سياسية أو اجتماعية -سياسية مخزونا معرفيا لفهمها وتحليلها ,والانسان ميال بطبيعته الى التبسيط والى مقاومة ماهو جديد ,لأن الجديد قد ينقض مسلكية عقول اعتادت على نمط معرفي معين كالخرافة مثلا ولمدة طويلة ,حيث أصبحت الخرافة جزءا من خواص هذه العقول, التي يفاجئها الجديد في غفلة من الزمن ,يربكها ويأزمها ويصيبها بالخوف والهلع , خاصة عندما تكون هذه العقول مستقرة على تناول دواء يدعى أنه صالح لكل زمان ولكل مرض , فالمؤامرة هي دواء واسع الطيف بتأثيراته على كل نكبة أو قصور أو مشكلة , المؤامرة تعبير عن وجود أياد خفية قوية ومتربصة بالمنكوب أو المهزوم ,عقار المؤامرة لذيذ ومريح ومخفف من الشعور بالفشل والعجز , لأن تلك الأيادي الخفية من ناحية قوية ,ومن ناحية أخرى شريرة لايردعها عن القيام بالشرور أي رادع أخلاقي !
المؤامرة مريحة جدا لأنها تسقط مسببات الكوارث على سوء الآخر, دون المساس أو الشك بالذات , فمن يتسلح بسلاح المؤامرة يعتمد في على خاصة “الانكار” المعروفة في علم النفس, والتي تعني عدم الرغبة بمواجهة الحقيقة , لأن الحقيقة جارحة للنفس النرجسية الذاتية ,انكار الحقيقة النسبية هو بمثابة انكار لوجود المرض الذي يتم اسقاطه على الأيدي الخفية , هذا يعني أن المتنكر للحقائق النسبية متفوق على الأقل أخلاقيا على الخبيث الشرير الكاذب السارق ,المتنكر المظلوم بريئ من كل تلك الموبقات ,من يتسلح بالمؤامرة يقي نفسه من النقد الذاتي ويضع أمام عينيه وعقله سدا لمنع تسرب الحقيقة الصادمة الى داخله , السد يمنع اكتشاف المؤامرات الحقيقية التي يعرفها التاريخ البشري حقا , انه التفاف على الواقع وتجاهل أو جهل , انه مؤامرة ذاتية تقود الى فشل بعد فشل وكارثة بعد أخرى .
يتم في المؤامرة تداول الأخبار والشائعات والتفسيرات والتبريرات الكاذبة او الخاطئة, وبذلك يعتبر الفكر المؤامراتي وسيلة تضليل , حيث يتم ربط أحداث كبيرة بتبريرات صغيرة ومخالفة للواقع والمنطق , وهذا يعرفه مخلوقات المؤامرة بشكل جيد , لذلك يحجمون عن الخوض في البراهين , المؤامرة ا كالدين الغيبي , الذي يبرهن عن صحة مواقفه بدلائل من نصوصه اي من صنعه , انها كالخالق الذي يبرهن عن صحة نظراته وارشاداته بما يقال أنه انزله على انبيائه ومرسليه , هنا يمكن القول ان فرضية المؤامرة هي مؤامرة بحد ذاتها , المؤامرة ليست أصدق من تخيلات حكواتية اوانفجارات عاطفية أو حتى أنها مرضا نفسيا كالعصاب التوهمي , لاعلاقة للفكر الحكواتي المؤامراتي بالذكاء او الغباء.
من الملاحظ كثرة منظري المؤامرة عند الكثير من المنظرين الدينيين خاصة من اتباع الدين الحنيف , الذين يتحدثون على سبيل المثال عن الغرب الحاقد المتامر على ألمؤمنين وبلادهم وسعادتهم وخيراتهم , الغرب المتآمر يعمل من خلف الستار ,لذلك لايرى ولا ضرورة للبرهنة على انه متخفي وراء الستار , لأن فرضية المؤامرة هي نظرية مبرهن عنها بدون برهان !!!!!
لفشل بعض الشعوب المستمر في هذا العصر العديد من الأسباب , أحد أهم هذه الأسباب هو وبائية الخطاب “التآمري “, الذي اكتسح عقول مجموعات بشرية كبيرة , فكل التطورات التي تمر بها هيجب الاجابة على السؤال كيف يمكن التصدي الى ظاهرة الفكر المؤامراتي المرضي, الجواب يختصر بتكريس الفكر النقدي ثم البحث الموضوعي عن الأدلة , يتطلب التفكير النقدي التحليل والمنطق المتوازن وعدم تقبل اي شيئ او رفضه بدون ادلة , اي عدم الاعتماد على الدين والايمان , لأن الدين والايمان لايعملان بالبرهان ,الخارجي الموضوعي العقلاني , الدين يجتر البراهين من ذاته ويحاول البرهنة عن صحة مواقفه بآياته التي صنعها بذاته ولم يستوردها من مصدر مؤكد , لأن المصر الغيبي ليس مؤكد اطلاقا ! ذه المنطقة تخضع حسب المزاج الشعبوي والسلطوي الى نمطية واحدة تتلخص بتقسم اللاعبين على مسرح الأحداث الى فاعل ومفعول به , يملك الطرف الفاعل أجندة خفية تملك الارادة والمقدرة على الفعل في حين يفتقر الطرف الآخر الى الارادة والقدرة على فعل أي شيئ ,مسلوب الارادة والفاعلية …مفعول به بشكل مطلق !.
تعود أصول نظرية المؤامرة إلى العديد من الثقافات والحضارات القديمةوالحديثة ,يلحأ البشر احيانا إلى التفسيرات الخارقة والأساطير لشرح الأحداث التي لم يفهمونها,يمثل اللجوء الى مفهوم المؤآمرة نوعا من التنصل من المسؤولية عن حدوث تطورات سلبية في حياة البعض , نوعا من التخدير والتطفل على المجهول بركوب خاصة الجهل به, للمؤامرة علاقة حميمة مع القصور , كلما ارتفع مستوى القصور ارتفع بنفس النسبة مستوى الحاجة الى المؤامرة , كما أنه لمستوى الفكر المؤامراتي علقة طردية مع مستوى الفكر الديني البدائي عموما والمغلف بالأحاديث عن الشياطين والأباليس , الذين يتربصون بالبشر ليلا نهارا , يؤكد الفكر الديني كون الخالق قادر على كل شيئ ,ويؤكد بالمقابل أن الشيطان مغضوب عليه ,ولكنه يؤكد تمكن الشياطين والأباليس من فعل مايريدون حتى ضد ارادة الخالق ,كيف يستقيم كل ذلك مع بعضه البعض !, يبدو ان الخالق مخروق ايضا , وما يدعية الدين من كون الخالق قادر على كل شيئ خاطئ.