ممدوح بيطار ,روبا منصور :
لكي نتمكن من فهم الفكر القومي العروبي لابد من وجود هذا الفكر, ولا بد من الخضوع الى المنطق والعقلانية في التفاعل معه ان وجد , من الصعب التعامل والتفاعل مع نزوات تمنياتية متكلسة ومبنية على أوهام لاوجود لها في الواقع , مثل تهجين العروبة بالعودة الى الماضي السحيق البعيد عن حاضرها الحديث في اواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين, اصلا لاعلاقة لعروبة القرن التاسع عشر والقرن العشرين بأحداث قبل ١٤٠٠ سنة, ولا علاقة خاصة لبلاد الشام مع بدوية الجزيرة , الا من حيث تحول بلاد الشام الى مستعمرة قريشية بدوية لفترة طويلة جدا .
لم تولد العروبة أو القومية العروبية حقيقة من رحم أمجاد الماضي, انما ولدت كارتكاس ضدي لموجة التتريك , التي مارسها الاتحاد والترقي العثماني , ثم أنه لم يكن أصلا هناك امجادا ماضية , فالغزو والسبي والسرقة وغنائم الحرب ومفهوم الخمس وثروة المصطفى المليارديرية والقبلية العشائرية والثأر والغزو والعنف والحروب والكثير الكثير غير ذلك ليسوا أمجادا , انما انحطاطا !
من الصعب فهم أو تفهم النزعة التوحيدية العروبية من حيث كونها مسألة تحقيق هوياتي ذاتي لها , فالوحدة ليست مهمة بذاتها , انما بانتاجها وبنتائجها , التي عليها ان تكون ايجابية في انعكاسها على معظم مستويات الحياة , وبما أن الوحدة تقوم بين الدول لذا فالوحدة سياسية لأن الدول كيانات سياسية.
جوهر الوحدة التي يطالب بها العروبيون ليس سياسي ولا علاقة له بمشتقات السياسة , جوهرهم الوحدوي معنوي, يمتاز العروبيون بالشاعرية والشعارات وبيقينهم أن العروبة والعروبية المعيار للشيئ الطبيعي في الحياة , يستدلون على الخطأ بكونه لاينسجم مع العروبية , والبرهان على الخطأ يقتصر على كونه ليس عروبي, اذ أن العروبية بنظرهم امر شبه غريزي وشبه ولادي ثم شبه طبيعي وحتى انها مقدسة , وغير ذلك شاذ ونشاذ , فالوحدات الاقليمية انعزالية وضيقة ومناوئة للقومية العربية وللعروبة , وكونها مناوئة ينفي عنها اي صحة أو مصداقية , المناوئ للوحدة العربية ليس عربي ,فالعروبي ثقافة يجب ان يكون وحدوي , انطون سعادة ليس عربي , وكأنه لايحق للانسان اختيار الهوية الثقافية الفكرية السياسية التي يريدها , وما يراه سعادة بخصوص الأمة السورية , انما هو أمر خيالي يعود الى ماقبل الزمن التاريخي , فالزمن التاريخي بدأ بالنسبة للعروبيين قبل ١٤٤٠ سنة ,لا حق لسعادة او لغيره في الاعتقاد بأن شعوب بلاد الشام تتميز عن غيرها من الشعوب , وهي شعوب أكثر تحضرا من شعوب أخرى كشعوب بدو البادية , الا أنه يحق للرسول اعتبار جماعته خير أمة .
جوهر الوحدة نفعي قبل أن يكون ايديولوجي او هوياتي او تحقيقا لرغبات وأحلام, أو لأن اللغة او الدين هو مايجمع هؤلاء االوحدوين مع بعضهم البعض, أو لوجود تاريخا مشتركا بين الغزاة وبين شعوب المستعمرات , الا أنه للتاريخ المشترك اوجه واسس وقواعد وأحكام , لاتاريخ مشترك بين العبد والسيد , ولا تاريخ مشترك بين المستعمر ومستعمراته , التاريخ المشترك هو الشراكة في صناعته وانتاجه , وهذا لاينطبق على الفاتحين القريشيين وعلى شعوب مستعمراتهم الشامية , بالعكس من ذلك هناك العديد من أوجه التاريخ المشترك بين روما وسوريا , لأن القانون الذي طبق على روما طبق على سوريا , وصنع لجزء كبير منه من سوريين , كما انه كان من السوريين قادة جيوش , ومنهم كان هناك حقوقيين ثم العديد من القياصرة وكان هناك البناء الذي لايتميز عن البناء الروماني, لابل كان بناء سوريا -رومانيا , وحتى الثقافة كانت مشتركة …مسارح ..موسيقى فلسفة قانون ..الخ , ثم العناية بالبنية التحتية الزراعية مثل اقامة قنوات الري وتعبيد الطرقات والشوارع للمواصلات , كل ذلك صنع في شراكة ساهمت بها سوريا وساهمت بها روما , حتى أنه قيل ان سوريا حكمت روما , او روما حكمت سوريا , اي روما السورية أو سوريا الرومانية,هذا يسمى تاريخا مشتركا , لأنه كان انتاجا مشتركا.
وحتى دينيا لم تكن هناك حياة مشتركة مع اعراب الجزيرة , فأعراب الجزيرة اتو بالسيف لنشر دين آخر غير الدين الذي اعتنقه سكان المستعمرات , ووضعوا السكان امام خيارات صعبة , اما الدين الجديد او الجزية او القتال , وهل الحياة تحت الاحتلال الاستبدادي العنصري الديني المطلق وتحت السيف والجزية والطورقة يمثل حياة مشتركة؟, هل تسمح العهدة العمرية بحياة مشتركة؟ , وهل شارك الشاميون في الحياة السياسية والعسكرية كمسؤولين وقادة او في صناعة القرار او في الحياة الثقافية , التي كانت أصلا متقزمة الى حد العدم , انحصرت الحياة الثقافية في الأمر الديني , وانحصرت نشاطات بعض الشاميين مثل السريان كمستخدمين مرحليا وللضرورة , لكونهم ذو خبرة ومعرفة بالادارة والترجمة والكتابة والقراءة , فالغزاة كانوا أميون ابجديا بالمطلق واميون ايضا في الادارة .
لايمكن تناول التاريخ بتلك السذاجة والبساطة كالتحدث عن تاريخ مشترك بدون شراكة أو مشاركة, لم تكن بين بلاد الشام وبين بدو الجزيرة أي قواسم مشتركة , حتى بيئيا وبشريا كانت بلاد الشام بلاد حضر وبلاد مدن , في حين كانت بيئة الغزاة البد صحراوية وبالتالي لم تعرف الثبات في المكان , لم يعرف البدو سوى الغزو وغنائم الحرب والعنف والسلب والنهب , في حين غاب الغزو وغنائم الحرب والفساد عن تاريخ الشاميين .
التاريخ المشترك الذي يراد به تبرير مفهوم الأمة العربية التي تشمل السوريين حسب مفهوم العروبيين , لم يكن سوى كذبة باهتة يراد بها تكريس وضع العروبيين كاستعمار داخلي بعد رحيل الاستعمار الخارجي بعد الحرب العالمية الأولى, لا يمكن أن يجتمع الاستعمار ومفرداته مع شعوب المستعمرة ومفرداتها , للاستعمار خاصة الفتح التملكي , له سطره المكتوب بالظلم والطغيان والاستعباد والقهر والتقتيل والابادة , التي مارسها بدون اي زهد أو انسانية , ففي التذبيح لم يكن الغزاة متواضعون , ذبحوا مئات الألوف , بينما شعوب بلاد الشام لم تحتل ولم تذبح ولم تستعمر, ولم تسلب وتنهب ولم تعرف غنائم الحرب, فكيف يجتمع النقيضان في تاريخ مشترك ؟.
هل يمكن أن يكون للصهاينة , لصوص الحجر والشجر والأرض تاريخا مشتركا مع الفلسطينيين وكيف؟, لذلك فالتاريخ المشترك بين الشاميين وغيرهم مثل الاسبان والمصريين وبدو الجزيرة وغيرهم لم يكن سوى كذبة سياسية يراد بها التمويه على الماضي الاستعماري الاحتلالي التملكي , انه كذبة ككذبة التحرير , وكذبة الأمجاد التي لم يكون لها من وجود , الوجود كان لطبقات غبار الحروب التي تكثفت في سماء هذه البلاد وحجب نور الشمس عنها , الوجود كان للانهار الحمراء وللطورقة وللعهدة العمرية وبنودها الشنيعة , الوجود كان للجمود والتأخر والتوحش , لم يلون الشاميون مياه زمزم وواحات الربع الخالي بالأحمر , ولم يشتركوا معهم في الغزو واختطاف بنات الاسبان وبنات الأمازيغيات حسب المواصفات التي اعلن عنها الخليفة عبد الملك برسالته الشهيرة الى عامله في شمال افريقيا .
يمثل كل ذلك التوحش والتكاذب والانحطاط محاولات لتطويع التاريخ بقصد الاستمرار في الاستعباد والاستغلال عن طريق العروبيين والعروبية الممثلة للبدوية الصحراوية(الطابور الخامس ) , لقد تحقق لهم ولفترات طويلة القفز على التاريخ وتسلق سلم أكذوبة الفضيلة والتحرير والحضارة , تمكن طابور قريش الخامس العروبي الاخونجي خلال قرن من الزمن من تخريب مشاريع الدول التي اقيمت على يد سايكس -بيكو , كان ولا يزال لهذه الدول الكثير من امكانيات النجاح والتطور كما تطورت النمسا او هنغاريا او صربيا او جنوب كوريا والعديد من الدول التي افرزتها ثنائية الانتصار- الانهزام في الحروب , لاتاريخ مشترك مع ألد الاعداء!
