ممدوح بيطار , سيريانو سيريانو :
تكثر النقاشات والحوارات والمشادات الكلامية على القنوات التلفيزيونية اللبنانية بسبب الحرب المشتعلة في تلك البلاد, امس شدد محاور لبناني في اطارتعارك كلامي على مسألة ” الكرامة” , وضرورة الحفاظ عليها حتى بالموت من أجلها , لا نعرف ما هي قيمة الكرامة عند الميت , فالتراب لايشعر بأي شيئ عندما يذكر بالسوء أو بالحسنى , والجثة المدفونة ليست سوى تراب , لواختزلنا التزاما بالمنطق أو الواقعية تعربف الكرامة بتقييم المحيط الانساني للمعني بالكرامة المهدورة او المصانة , عندها يمكن القول ان الكرامة هي أمر يعطى من الغير أو ينتزع من قبل الغير اي من الظروف المحيطة بالشخص المعني بالأمر , هذا الشخص يملك تأثيرا كبيرا على نوعية تقييم كرامته من قبل الظروف التي تملكه ويملكها ,أي من قبل محيطه , خاصة بعد موته دفاعا عن هذه الكرامة , الكرامة أمر شخصي وليس اجتماعي ,ولها دلالات وتعريفات متعددة ومختلفة .
المصدر الأساسي اللغوي لمفهوم الكرامة كانت اللاتينية , التي اعطت المفهوم مفردة Dignitas ألتي تعني قيمة الشخص , والكرامة هي جزء أو ملحق بهذه القيمة , تخص الكرامة شخصا بعينه ولا تخص غيره في محيطه , اي قد يكون الفرد ذو كرامة عالية بينما محيطه البشري أي مجتمعه بدون قيمة أو كرامة , كما انه من الممكن أن يكون الفرد بلا كرامة فيما أمته تقاتل وتحارب وتنتصر , نعجب هنا من ريط “الكرامة ” شعبويا في هذه المنطقة بممارسة التحارب مهما كانت النتائج , يمثل الشغف بالتحارب دافعا لاختلاق اسبابا للحروب ,أو على الأقل تخيل هذه الأسباب !.
انتشار ثقافة الشمولية في هذه المنطقة العربية أحدث نوعا من التشويه لمفهوم الكرامة الفردي الشخصي , اذ تحولت الكرامة الى معاني أخرى تخص الأمة والسياسة والجهاد والعديد من الأمورالعمومية الأخرى , أي انتزعت الكرامة من الفرد وألصقت بما هو أعم وأشمل , كحال الحرية التي تعني حرية الفرد في المجتمعات الغربية وفي معظم بقية العالم , وعلى أساس مبدأ حرية الفرد استتب أمر التقدم والديموقراطية في تلك الدول ,ولكنها تحولت في مجتمعات الشمولية الشرقية الى حرية الشعب , التي تتحقق في اطار شمولية الحكم بانتهاك حرية الفرد أو الأفراد ,ما معنى عبارة حرية الشعب ؟ وكيف يمكن أن يكون الشعب حرا عندما تنتهك حرية أفراده أو حرية مكوناته , قد تمثل حرية الأفراد مجازا حرية الشعب عندما يتمتع كل فرد بالحرية , ولكن ما تسمى حرية الشعب في هذه المجتمعات المتأخرة لاتنفي استعباد الفرد , لاوجود بناء على ماذكر لكرامة الأمة انما لكرامة الفرد التي تتحول الى كرامة الأمة عند تكاثرها وشمولها لكل أفراد الشعب , وهذا شيئا مستحيلا .
ترتبط الشمولية السلطوية عادة بفرد متجبر متأله مثل عبد الناصر على سبيل المثال ,لأنه كما قيل رفع رأس الأمة !,كيف رفع رأس الأمة وبماذا , وهل للأمة أصلا رأس ؟, , لا تسمح بهذا الخبل سوى لغة مخبولة , اطلقت على السادات اسم الرئيس الورع وعلى صدام اسم الرئيس الضرورة والأمثلة كثيرة عن شطط هذه اللغة وميوعة تلك الشعوب التي تردد تلك السخافات وتصفق للسفهاء السخفاء , الذين كرسوا بشموليتهم شمولية مفهوم الكرامة الشخصي واعتبروا الزعيم الشمولي صاحب جمعية خيرية لتوزيع الكرامة والحرية ورفع الرأس عند عبيده من المصفقين .
اراد صاحبنا الذي ذكر في البدء وسمعنا حديثه ممارسة الحرب على أي حال , بالرغم من معرفته بنتائجها الكارثية , لأن الحرب تمثل حسب فلسفته استردادا للكرامة , والموت في الحرب يمثل نوعا من “اقطاع ” الكرامة اي احتكارها من قبل المحارب المستشهد او القاتل ,اي أن بلوغ اسمى اشكال الكرامة يتحقق بالموت , هكذا يقال عن ما تسمى الشهادة او الشهيد .
لا ننكر انتشار هذا الموقف في نسيج العديد من شعوب هذه المنطقة , حقيقة هؤلاء لايضحون بحياتهم من أجل صرماية السيد كما يدعون , انما يقومون بعملية مقايضة, ويظنون بكون هذه المقايضة مربحة بخصوص الحياة ,فحياة الجنة مختلفة عن حياة اليابسة البائسة , نظن بأن القراء على علم بما تعد الجنة به من حور العين وما شابه مما هو محرم على اليابسة التعيسة ,كل ذلك كان من انتاج بلاهة الشعوب المتأخرة جماعيا ,التي تولد لتموت في ظروف حربية وفي سياق عملية نصب واحتيال وتضليل بما يخص حياة السماء , هؤلاء الشهداء خسروا الدنيا ولم يكسبوا الآخرة , لأنه لاوجود لهذه الآخرة .
لم يقتصر الانقلاب المحلي او الاقليمي على مفهوم الكرامة وعلى مفهوم الحرية بل شمل جوانب أخرى مهمة من الحياة مثلا جرائم الشرف , التي تم تميمها شموليا ايضا ولصقها بمحيطها العائلي , فالدفاع عن شرف العائلة التخيلي يتطلب ذبح الأخت او البنت , التي مارست ما يخل بشرف العائلة الافتراضي, افتراضي لأن الشرف أمر شخصي , وشرف الأخت أو البنت خاصا بها فقط ولا يشمل العائلة أو الأقرباء لذا لاوجود لشمولية الشرف , لنفس الأسباب ترجم الزانية احتفاليا من قبل الجماعة , لأن الجماعة شمولية الشرف لذلك ترجم شموليا ما تسمى الزانية , مع العلم أنه لاجود للزنا , فالعلاقة الجنسية الطوعية ليست زنا ,والاعتداء الجنسي ليس ” زنا ” قامت به المعتدى عليها , انه اغتصاب قام به ذكر , هل رجم المغتصب يوما ما ؟
نلاحظ مما ذكر انتشار ثقافة ” الشمولية ” شعبيا في هذه المنطقة المتدينة , وهذا ما يدفع للاعتقاد بصحة الحديث القائل ” كيفما أنتم يولى عليكم “, لاتأتي الأنظمة الشمولية من فوق انما من تحت , ولا تفرض من فوق انما تطلب من تحت !