لا أكثر من ترديد مفردة ” الكرامة ” في الأوساط العربية , وما أقل من كرامة الانسان في هذه الأوساط , للكرامة عدة مضامين ومفاهيم ودلالات وتعريفات وتفسيرات وتأويلات وتباينات مختلفة الخ , من ابسط الأمثلة على ذلك مقارنة كرامة البدوي مع كرامة الأوروبي , المقارنة تؤكد وجود تعاكس بين مضامين الكرامتين , بالثأر يعيش البدوي كرامته , وبالثورة المستدامة لتحقيق المزيد من الحداثة يعيش الأوروبي كرامته, الثأر تعريفا ليس ثورة , فالثوري صاحب الكرامة يعامل سواه كما يريد منهم أن يعاملوه , بينما الثأر يمثل بدويا اشد انواع الانتقام المبالغ به في كل الحالات تقريبا , قد تكون لبعض تلك المفارقات علاقة مع التعاكس بين مفهوم العين بالعين وبين مفهوم من ضربك على خدك الايمن فحول له الأيسرالخ , لكن من المؤكد وجود علاقة لتلك المفارقات مع عوامل ومفاهيم أخرى, يضيق المجال هنا لشرحها تفصيليا .
هناك العديد من الالتباسات حول مفهوم الكرامة , من هذه الالتباسات ما يخص الفرد وما يخص الجماعة , فشعود الفرد بكرامته ممكن جدا حتى عند وجوده في مجموعة يقال انها تشعر بهدر كرامتها ,اي ان مفهوم الكرامة شخصي لاعلاقة اساسية له مع المجتمع , الا أنه قد ينتزع من الفرد ويودع في المجموعة أي الأمة شكليا , هنا يتم الحديث عن كرامة الأمة , عندها لاتعني الكرامة ما يفعل الفرد وما يشعر به, انما يعني وضع الأمة وماتشعر الأمة به ,كيف يمكن للأمة أن تشعر؟,الانسان الفرد يشعر , ومجموع مشاعر الأفراد تسمى تجاوزا أو مجازا شعور الأمة, الأمة ليست جسدا وعقلا واحدا ولايشعر الجميع بنسق موحد , في الأمة او الشعب او المجتمع هناك أساسا اختلافا وتعددية ولا وجود للتطابق والتجانس , افتراض التجانس منافي لطبيعة المجتمعات أو الجماعات , الا أن الشموليات تفترض وجود تجانس شبه مطلق , كأن يقال مثلا الشعب قال كلمته وأعطى ٩٩,٩٩٪ من الناس أصواتهم للرئيس ,ذلك الاجماع المزور يمهد الطريق أمام نقل او توطين ما تسمى “الكرامة ” في الأمة , بدلا من موطنها الأصلي والأساسي في الفرد .
تنطبق هذه الآلية على مفهوم “حرية الفرد ” الرائج جدا في الغرب والضامر جدا في هذا الشرق , الذي يمحور مفهوم الحرية حول الأمة , أي حرية الأمة الضبابي , انه ضبابي لأننا نعرف ونرى ونلمس أن ما يسمى حرية الأمة يترافق غالبا مع انتهاك حرية الفرد , وهذا بالضبط ما يلاحظ في العديد من الأنظمة الديكتاتورية الشمولية في هذه المنطقة , يتحدثون عن حرية الأمة ويستعبدون أفراد هذه الأمة , كما كان الحال على سبيل المثال مع الناصرية , التي تبنت شعار عبد الناصر ” ارفع رأسك يا أخي” , كلمة يا أخي تعني الشعب عموما, ولكن رفع الرؤوس عند عبد الناصر ترافق مع تعليق الرؤوس على حبال المشانق ومنع الأحزاب وتحويل البلاد الى سجن تعذيب بحجمها , رفع الرؤوس يعني في قاموس الديكتاتورية الشمولية عبادة الشخص والانصياع له مهما فعل , حتى أنه قيل أن عبد الناصر رفع رؤوس العرب بهزائمه في الحروب , وأشهرها حرب ١٩٦٧.
لم يعد مصدر الشعور بالكرامة معبرا عن علاقة الانسان الفرد بنفسه , انما عن نوع علاقته الانصياعية لاله الأرض , هنا يتم انتزاع الكرامة من الشخص الفرد وايداعها في الحاكم وفي سياساته او حروبة او نشاطاته الأخرى, وعبد الناصر لم يكن وحيدا بهذا الخصوص , هناك نصر الله المجسد لأقبح شكل من أشكال انتزاع الكرامة من الفرد وتوطينها في شخص المستبد المؤبد , ولنصر الله كانت هناك شعارات افدح من الشعارات بخصوص الريس عبد الناصر او التيس الخالد حافظ الأسد ,الثكالى وأرامل حزب نصر الله يهتفون خاصة عند تواجدهم مع غيرهم بمناسبة مقتل الابن او الزوج ” فدا صرماية السيد “, لم تعد للأرملة كرامة خاصة بها , الكرامة انتزعت منها ووضعت في صرماية السيد ,وفي صرماية السيد هناك العز والنصر والجاه والتفوق والتألق , هل من المعقول ان تتقبل اي ام مقتل ابنها من اجل صرماية حسن الضاحية ؟ ما تقوله الأم في هذه المناسبة ليس الا تعبيرا عن نهب كرامتها وحريتها في التعبير عن مشاعرها من قبل نصر الله ومن قبل الدين ومن أمة المؤمنين .
عندما يتعرض الفرد في مجتمعات هذه المنطقة للسجن والتعذيب والاهانة بسبب رأيه , وحريتة , وحرية الابداء بالرأي يمثل منطقيا “كرامته” , هنا يعتبر اعتقاله وسجنه وتعذيبه انتهاكا و سرقة لكرامته ,وتعتبر سرقة كرامة الفرد ترجمة لتكريس كرامة الأمة , التي قضت على الخونة والعملاء بسجنهم وتعذيبهم , وبذلك يحق لهذه الأمة الشعور بالتفوق والتألق, كاللصوص الذي يفخرون بحجم مسروقاتهم !, يقول شعار شائع “بالروح والدم نفديك ياصدام او يا خريان “,هنا يبرز معنى جديد للكرامة ومعاكس أو ضدي لها , فكرامة الانسان تكون بسيادته على نفسه عقلا وجسدا, وليس بتضحيته بعقله وجسده في سبيل من نزع عنه انسانيته وهتك عرضه وكرامته .
قلب الكرامة الى عكسها في المنطقة العربية مثير للتعجب , فكيف يمكن فهم تصرفات البعض من اللبنانيين او العرب عموما تجاه من دمر حياتهم ودمر بلادهم وانتشل أو سرق ارواحهم وكرامتهم , لايفهم ذلك حتى لو اعتبرنا هؤلاء ليس عربا وليسوا لبنانيين أو عراقيين أو غير ذلك انما شيعيين فقط , لقد أعطى هؤلاء للكرامة معنى ووظيفة أخرى , الكرامة تعني اقتناع المهزوم بأنه انتصر , وبهزيمته ارتفع منسوب كرامته بدلا من أن يتناقص .