ممدوح بيطار , مها بيطار :
يرتكز بحث العلاقة بين الطائفية والمقدس على عدة أسس , من أهمها تلازم الطائفية مع وجود المقدس والتناسب الطردي بين انتشار وممارسة الطائفية والاعتقاد بالمقدسات , الطائفية كانت ولا زالت تمثل جزءا من البنية الاجتماعية والثقافية للمجتمعات العربية البدوية ومنذ العديد من القرون,انها موروث تاريخي تراثي ديني وسمة رئيسية في تركيبة المجتمع العربي الديني , ومكوناً رئيسياً لتراثه الثقافي .
الوضع لم يتغير بشكل اساسي بتغير الأمبراطوريات ان كانت أموية أو عباسية او عثمانية ,التغير حصل بعد انهيار الخلافة العثمانية, حيث تراجعت الممارسات الطائفية بعض الشيئ , لتعود الى الانتعاش في العقود الأخيرة , هذا يعني بالنتيجة, أن الطائفية بقيت موروثاً حيا , حتى في العصر الحديث, حيث احتفظت المجتمعات العربية بهيكليتها الطائفية رغم ولادة الدولة الوطنية , ورغم تطور النظام العالمي بشكل معاكس .
أكد محمد أركون بمثلثه الأنتروبولوجي المؤلف من المقدس والحقيقة والعنف والحقيقة والعنف , بأن من يكرس المقدس كحقيقة بمختلف الوسائل , انما يشرع ممارسة العنف تجاه أي مساس بالحقيقة التي تمثل المقدس,وذلك بالرغم من أن قدسية المقدس ليست أصلا به وانما غلافا خارجيا له .
تختلف المقدسات والحقائق المطلقة التي تمثل القاسم المشترك بين الطوائف الدينية,الا أن آلية صناعة المقدس واحدة بين مختلف الطوائف ,المقدس مختلف من طائفة لأخرى , تباين واختلاف المقدس هو المؤسس لانتاج الخلافات بين الطوائف , كما رأى أدونيس في الثابت والمتحول .
هناك التباس كبير بين مفهوم الطائفة ومفهوم الطائفية ,فالطائفة هي اتجاه اجتماعي له أبعاده التاريخية , من ناحية أخرى من الصعب تواجد كيان الطائفة دون تلازمه مع الطائفية , بحيث يمكن القول بأن الطائفة طائفية بطبيعتها , وعلى الدوام , للطائفة الطائفية “مشروع”سياسي في الغالب (ادونيس) , مشروع ذو نهج يعتمد الطائفة كوسيلة للوصول الى الهدف السياسي , والعمل على فرض الهيمنة السياسية المموهة دينيا .
تعتبر القداسة صفة لصيقة وملازمة للفكر والسلوك الطائفي ,فالفكر الطائفي هو وليد النظرة تجاه النصوص المقدسة ووليد التداخل بين قداسة النص وقراءة النص مايسمى استصحاب القداسة , ثم ان القداسة تضمن الحماية للطائفة من الاختراق الفكري, الذي قد يؤدي الى تآكل وضمور الطائفة وطائفيتها.
القداسة والحماية هم جوهر الفكر الطائفي ,الذي يشعر البعض أنه لاعيب أو خلل به , وبقدر ماتؤدي القداسة الى حماية الطائفة من الاختراق , تؤدي في نفس الوقت الى موت فكر الطائفة, لتناقضه مع العقل والاجتهاد والتطور بما تفرضه وتتطلبه الحياة ,الحماية من الاختراق يقود الى تيبس فكر الطائفة , وتعطيل امداد فكر الطائفة بروافد فكرية جديدة تعيض عن المستهلك من فكر , وتزود فكر الطائفة بما هو ضروري وجديد من من أجل حياة تتطلب التجديد المتواصل .
امتلاك الحقيقة هو منتج من منتجات القداسة , لاعيب ولا نقص في الحقيقة المطلقة, التي هي جوهر القطعية الطائفية ,الحقيقة واحدة ومقدسة وما عداها شذوذ ونشوذ وانحراف وضلال ,تقود هذه النظرة الى شرعنة العنف الذي تحدث عنه أركون في ثلاثيته ,ثم أن القداسة هي مصدر الأخلاق الطائفية التي ترسم سلوك الفرد تجاه محيطه الاجتماعي , أخلاق تتسم بلتعالي والاقصاء , القداسة تؤسس للتعصب الديني الذي هو أقرب الى التعنت والتجمد والتحجر , هذه الصفات هي من أهم سمات مسلكية الفرد في الشعوب المتأخرة ,التعصب الديني اضافة الى ذلك أسوء بدرجات من التعصب العشائري أو القومي, لكونه يرتكز على ثوابت مستعصية على التغيير والتطوير, القداسة كانت مصدر الغاء الآخر في الوجود والتعبير والاعتقاد , حيث يتم تبرير كل ذلك بامتلاك الحقيقة المطلقة .
من مظاهر علاقة المقدس بالعنف تسمية العديد من الحروب بالحروب المقدسة , هنا يتم توظيف المقدس في الصراعات الحربية , وذلك بهدف التمويه على مسببات وأهداف ثم نتائج هذه الحروب المقدسة,الويلات والمآسي والخراب والدمار..الخ كل ذلك منبعه توظيف المقدس الديني في الصراعات الحربية ,اعتبرت الأثمان الباهظة في هذه الحروب زهيدة نسبة الى هدف حماية المقدس,واقعيا كانت الصراعات والحروب مظهرا من مظاهر التنافس على المصالح والاستحواز على المنافع والسلطة والنفوذ استجابة لدوافع غريزية بشرية , إستخدام المقدس في هذه الصراعات كان بهدف التحشيد والتجييش لخوض تلك الحروب , التي تحصد حياة البسطاء, الذين يقتلون بدون استفادتهم من غنائم الانتصار في تلك الحروب, المستفيدون حصرا هم الذين جندوا البسطاء لخوض تلك الحروب .
لايمكن التغلب على الطائفية ووضع حد لتوظيف الدين المدمر وللطائفية وللمقدس في الخلافات والنزاعات , سوى بالعقلانية التي تسمح بتأسيس دولة القانون , التي تقوم على أساس المواطنة ,ليس على أساس الدين أو المذهب أو المقدس , فشلت المجتمعات التي تقدس على مقدساتها وسوف يتعاظم الفشل عند تعاظم التقديس.