ثمة قصة قصيرة للأديب السوري المناضل، سامر قطان، عنوانها “أنت شو ولاه عرص؟”، عن سجين سياسي سوري، من أحد الأحزاب اليسارية، تَعَرَّضَ، في الأيام الأولى من اعتقاله، لضرب مبرح، مع تشكيلة واسعة من أساليب التعذيب المتبعة في السجون السورية، طوال أيام، وأسابيع، بل وأشهر، وهو صامد، وماسك حرف الميم، بمعنى أنه يجيب عن أي سؤال يُطرح عليه بعبارة (ما بعرف)، عدا سؤال واحد يتعلق بعدائه القائد التاريخي الفذ الجنرال حافظ الأسد، فيجيب عليه بـ نعم، ويبدي استعداده للمناقشة المستفيضة حول كون هذا الرجل مغتصباً للسلطة التي هي من حق الشعب السوري، معاد للحياة السياسية والاجتماعية والمدنية السليمة، ومكرس لعبادة الفرد، ووو… إلخ.
وفي يوم من الأيام، جن جنون المحقق. وبدأ يسأله: أنت شو… وْلَاه؟ والسجين، بذكائه الرائع، يَفْهَم المقصود بالسؤال، لكنه يتغابى بمهارة، ويجيبه: أنا سجين سيدي. أو: أنا سجين سياسي سيدي. أو: أنا مدرس تاريخ سيدي. أو: أنا من المحافظة الفلانية سيدي.
والسجان يزداد حنقاً ولؤماً، ويمعن في ضربه وركله، بلا شفقة، وهو يصيح:- أعرف أنك سجين خَرَا، ومُدَرّس ضراط، ومن الضيعة الفلانية. لكن، أنت شو ولاه عرص؟! (بمعنى: من أي طينة صُنِعْتَ، حتى تتحمل كل هذا الاضطهاد وتجرؤ، أو تتجرأ على معاداة سيدنا وقائدنا حافظ الأسد؟).الحقيقة أن ذلك المحقق، في إصراره على طرح هذا السؤال الرهيب، كان على صواب! فمعاداة القائد التاريخي حافظ الأسد، ومن بعده وريثه الأهبل بشار الأسد، ثمنُها، قبل الثورة، سجنٌ ذو بداية، وغير ذي نهاية! وخلال السجن، لا يتوقف عنه الضرب والتعذيب والإهانة والسباب على الأب والأم والأخت والزوجة والابنة والحفيدة، ومَرَض في السجن بلا مداواة، واعتلال، فموت، ولا يحق لأخي أخته أن يسأل عن مصيره أو يطالب بجثته.. ولا يخرج من السجن إلا طويل العمر، فإذا خرجَ، لا يكون ذلك لكي يمارس حياته، بوصفه إنساناً طبيعياً يتمتع بحقوق المواطن، بل لينزوي في بيته، لا يبرحه حتى يموت. وخلال الأيام الباقية له في الحياة، لا يجرؤ أن يقص ما جرى له في السجن، حتى على أخيه، خيفة أن يغلط أخوه، ذاتَ يومٍ، غلطة ما، ويَعلق في قبو مخابراتي بـ “سين وجيم”، ويُنْزَل في دولاب التعذيب، ويخونه جسده فيعترف عليه، ليُعاد إلى ذلك المكان الذي لا يمكن لأحد أن يتخيل فظاعته غير الذين عاشوا فيه.
وأما تكلفة الثورة على نظام الرفيق المناضل حافظ الأسد، أو على وريثه الأهبل، أو التمرد عليه، فهي الأُخرى أصبحت معروفة، تتلخص في اعتقال، وزَرْبٍ لكل مائة إنسان في غرفة تتسع لخمسة، ومَنْعٍ من استخدام الحَمَّام، وتعذيبٍ حتى الموت، وإلقاءٍ للجثث في الشوارع، وإفلاتٍ لقطيعٍ من الشبيحة في المدن التي ينتمي إليها المواطنون الذين يُشَكُّ باحتمال أن يثوروا أو يتمردوا، ليجعلوا عيشة أهالي هاتيك المدن سماً زُعَافاً، ويُعَلِّموهم كيف يكون الرضا بالذل والهوان والابتزاز مقابل التمتع بحق الحياة؛ فإن لم يُجْدِ هذا كله في حدوث الرضوخ التام، يبدأ إطلاقُ الرصاص الحي (الذي غنى له سميح شقير) على الثائرين أو المتمردين، فإن لم يُثْنِهم الرصاص الحي عن تمردهم، يرتفع مستوى القمع، ليصل إلى الضرب برشاشات الدوشكا والبي كي سي والمدافع وراجمات الصواريخ والطيران والصواريخ البالستية والكيماوي، يترافق هذا كله مع حملة إعلامية مسعورة، تجعل أشرف المناضلين وأنظفهم خائناً عميلاً، يقبض من الاستعمار والصهيونية والدول العربية الرجعية.هذا الذي حدث في السنوات الأربع التي تمرد فيها الشعبُ السوري على حكم سلالة حافظ الأسد، وصموده الأسطوري يجعلنا نخاطبه بالعبارة نفسها مع تحوير بسيط، فنقول له:- أنت شو أيها الشعب العظيم؟