مخاتلة («بندريات» بشار الأسد

بقلم:جاسر الجاسر

كانت كلمة الرئيس السوري «المنتخب» بشار الأسد أمس غاية في الظرف، وتجسيداً حقيقياً للديموقراطية، وفتحت للسوريين آفاق مستقبل مشرق يبشر بالتعمير ونمو الاقتصاد والسياحة، لأن تنبؤاته السابقة تحققت، فبقي السوريون متماسكين، وأعلنوا وفاة الربيع العربي من دون أن يقدم أحد العزاء فيه «ههههه» (الضحكة من الرئيس إعجاباً بسرعة بديهته).

بهر الأسد الجمهور وهو يتحدث عن واقع لا يعرفونه وبلد لا يجدونه، وشعب تمزق في البلدان كافة أو أحرقته البراميل المتفجرة، ويرسم مستقبلاً هو حلم طفل أو تائه عن الواقع منقطع عنه.

في خطابه لمناسبة أداء القسم كشف الأسد أن المقاومة والتصدي والممانعة لا علاقة لها بالعروبة، فهي في يد إيران، ثم إنه لا علاقة لها بالإسلام السني، فلا يقوم عليها سواه و «حزب الله» بتزكية وتغطية من طهران، ما يعني فعلاً أنه ليس خصماً للسوريين فقط بل للعرب والمسلمين، أما عن «غزة» التي ذم الزعماء العرب لتراخيهم عنها، فكال الهجوم لـ«حماس» من غير أن يسميها، ثم اكتفى بالقول إن ما يتعرض له الفلسطينيون يشابه حال النظام في سورية.

لا يختلف الأسد عن البغدادي، فهو يوجه الشتائم والتهديد والوعيد للسوريين المختلفين معه، أو الذين لم يحاربوا إلى جانبه، ويصمهم بالجهل والتخلف، ويرى وجوب استئصالهم لأنهم ضد الديموقراطية التي يمثلها وحده، ويتوهم أنه حامل راية الحق البريء من الفساد، النصير للأخلاق والقيم، الآتي عبر صناديق شفافة. البغدادي يفعل شيئاً واحداً: نحر المسلمين لمجرد عدم مبايعته، والأسد يسجن ويعذب وينسف كل سوري إن لم يعلنه إلهاً للعدالة.

هاجم الأسد الجميع باستثناء «حزب الله» وإيران وروسيا والصين، إلا أنه خص السعودية بجانب لافت من هذا الهجوم بعضه ظاهر ومباشر، وبعضه تلميح وتصريح، ثم هددها وتوعدها لأنها وقفت إلى جانب شعبه وناصرت حقه في الحياة الكريمة هرباً من الظلم والتعسف، ويبدو أن لديه مرارة حادة من الأمير بندر بن سلطان، إذ أفرد فقرة من الردح الطويل لانتقاده ومهاجمته والتنكيت على خططه باسم «البندريات»، من دون أن يشعر بأن في ذلك إقراراً ببراعة السياسة السعودية وقوة مفعولها وتأثيرها، وأنها أوجعته كثيراً ولا تزال توجعه إلى أن يرفع الشعب السوري رايته.

نقطة واحدة يتفق الجميع مع الأسد عليها، وهي: كل من يدعم الإرهاب سيدفع الثمن، لكن الإشكال أنه يعتبر قصف السوريين وتشريدهم نصرة للقضية العربية وتمتيناً لمحور المقاومة، والإرهاب هو كل معارضة له، بينما يجمع الآخرون على أن فعله هو الإرهاب الرسمي، وأن مظلته تحتضن كل جماعة إرهابية.

خطاب الأسد يستحق أن يكون ضمن المناهج لأنه يشمل كل القيم والمفاهيم، شرط أن يقال للطلاب: خالفوا كل جملة تجدوا الحقيقة وتكتشفوا المعنى الفعلي للقيم، وتستدلوا على الصدق، وتتعرفوا أين يكمن الحق ومع من؟

أجمل ما في خطابات بشار أن كاتبها بعثي متين اليقين وصادق الولاء، فالمفردات هي ذاتها منذ الستينات، ولولا تبدل الأسماء والأماكن لكانت صالحة لحافظ الأسد أو صدام حسين فترة سيطرتهما على السلطة، خطاب لا أحد يستطيع التفاعل معها سوى أحمد سعيد لو كانت «صوت العرب» حية. أما المشهد البعثي الثابت فهو التصفيق الحار للرئيس كلما توقف لالتقاط أنفاسه، والمقاطعة من بعض الحضور لتأكيد فيض الولاء وكأن العاطفة أشعلتهم ففارت نارها.

المفارقة الأخيرة: يبدو أن مفهوم نظام الأسد لـ«الحرية» و «الثورة» و «الديموقراطية» يختلف عن البشرية جميعها، فهو يتعهد في القسم أن يحمي حريات السوريين الثوار الذين انتصروا للديموقراطية، لا أحد يستطيع فهم دلالات هذا الكلام واستيعابه ما لم تكن لهذه الكلمات معانٍ أخرى في اللغة الفارسية، وهنا يجب قراءتها من منظور ثقافي مختلف وليس من منظور لغوي فقط!

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *