بقلم:ميشيل كيلو
رغم الشعور العالي بالمسؤولية الوطنية الذي تحلى به وفد الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السياسية إلى مؤتمر جنيف. ورغم ما أبداه من تصميم على تنفيذ القرار 2118 الخاص بالتطبيق الفوري لوثيقة «جنيف واحد» بدءا بتشكيل هيئة حاكمة انتقالية كاملة الصلاحيات التنفيذية، وما أظهره من قدرة تفاوضية أثارت إعجاب العالم، لم يجد وفد الأسد، الذي بوغت بسوية المعارضة وجديتها، ما يرد به غير التهريج والتلاعب بالحقائق والألفاظ، وإغراق المفاوضات في تفاصيل الكذب والتدجيل، على عادتهم في اجتماعات حزبهم البائس، كأن من يفاوضونهم من المعارضة أجانب أو أغراب لا يعرفون نظام دمشق، ولم يتعرضون لاضطهاده.
اتبع وفد النظام منذ بدء التفاوض استراتيجية تعالج المشكلات بنتائجها وتقفز عن أسبابها. لذلك، صارت مشكلة سوريا خلال السنوات الثلاث الماضية تختصر إلى قضية إرهاب مدعوم عربيا ودوليا، وانقلب النظام من قاتل دمر بلاده وهجر شعبه إلى ضحية مسكينة تدافع عن المواطنين، الذين انقلبوا من ضحايا نظام سفاح إلى مجرمين يتعاونون مع الإرهابيين، يستحقون بالتالي الموت معهم، وصار العنف العلاج الوحيد لسلوكهم الإجرامي، ولاسترداد وضع البلاد الطبيعي، وغدا قطع الإمداد الخارجي عن الإرهابيين موضوع المفاوضات الحتمي والحل الوحيد للكارثة السورية المتفاقمة، أما أن الشعب يُقتل خلال عمليات جيش السلطة الحربية، فذلك لسبب أوحد هو أن الإرهابيين مندسون فيه.
في هذا المنطق، لم توجد في سوريا مشكلات تستدعي القيام بثورة، ويغلط من يتوهم أن أزمة ما كانت سبب انصياع السوريين للمندسين وممارسي الإرهاب. الموضوع وما فيه أن الخارج استغل موجة المطالبة بالحرية التي اكتسحت العالم العربي كي ينظم فتنة ضد نظام سوريا الممانع والعلماني، وأن قلة مضللة من الناس انخرطت في هذه الفتنة، كان نشاطها وراء ما أصاب البلاد والعباد من دمار وخراب، وتعرض له البشر من اقتلاع وتهجير وتصفيات. لم تعرف سوريا قبل الثورة مشكلات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، لأن قيادتها الحكيمة تحسبت جيدا للتطورات الدولية والمحلية، وحالت دون وجود مشكلات كهذه، كي لا يكون هناك أي مسوغ لأية فتنة، إلا أن هذه وقعت في مارس (آذار) من عام 2011 لسببين رئيسين هما: فساد ذمم المواطنين الذين قبلوا رشى من بعض الدول كانت ثمن تمردهم ضد النظام، والتضليل الإعلامي الخليجي بدوره، الذي زين لهم الخروج عن طاعة أهل الحكم: خدمهم المخلصين، الذين لم يقصروا يوما في تلبية حاجاتهم وإيثارهم على أنفسهم. إذا كانت سوريا قد عرفت مشكلة قبل الثورة فهي عقوق الشعب وفساده واستعداد قطاعات منه للانخراط في الفتن والإرهاب.
هذا الخطاب الذي يفصل النتائج عن أسبابها، اعتمده وفد النظام إلى جنيف. بما أنه تركز على الإرهاب ولا شيء سواه، فقد حفلت كلمات رئيسه بشار الجعفري باتهامات عشوائية رفضت التطرق إلى أي حل قبل التخلص من الإرهاب، رغم أن دعوة بان كي مون إلى نظام دمشق جعلت «تشكيل هيئة حاكمة انتقالية كاملة الصلاحيات التنفيذية» موضوعا أوحد للتفاوض، بما أن نص قرار مجلس الأمن رقم 2118 يقول في فقرته السادسة عشرة إن الحل يجب أن يبدأ بتشكيلها، لأنها هي التي ستطبق بنود مبادرة كوفي أنان الستة، وستنقل سوريا من النظام الاستبدادي الحالي إلى النظام الديمقراطي البديل.
لا عجب أن وفد المعارضة تمسك بالقرار 2118 وبوثيقة «جنيف واحد»، وطالب بقصر التفاوض عليهما، بينما فاجأ فيصل المقداد الجميع بتصريح قال فيه إن الوفد الرسمي لم يأتِ إلى جنيف كي يطبق القرار، خاصة أنه لم يقبل وثيقة جنيف، بل أبدى تحفظات على الكثير من بنودها. بذلك، رفض النظام ما كان قد تظاهر بقبوله من وثائق وقرارات دولية، واضعا الأمم المتحدة ووفد الائتلاف أمام سؤال حول الغرض من قدومه إلى جنيف، إذا كان يرفض حلا سياسيا قررته الدول الخمس الكبرى بالإجماع، وقبله المجتمع الدولي برمته، وأصدر مجلس الأمن الدولي قرارا ملزما حوله، وتظاهر النظام بقبوله في حينه.
في اليوم الأول من التفاوض أنزل النظام سوية وفده من مستوى وزير إلى مستوى سفير يصحبه تقنيون وخبراء ورجال أمن، طبعا. وفي اليوم الثاني بدأ الجعفري بإلقاء خطب وأحاديث طويلة ومملة تخلو من ذكر وثيقة جنيف واحد والقرار 2118 وكلمة الحل السياسي، وفي الثالث والرابع والخامس أطاح بصبر من كانوا يستمعون إليه، وأيقنوا أنه جاء لإغراق القرارات الدولية المتعلقة بحل سياسي في بحر من الكلمات والتفاصيل، ولإدخال قدر من اليأس إلى قلوب الوفد المعارض يدفعه إلى الانسحاب ويجبر في الوقت نفسه الأمم المتحدة على وقف عملها.
كان النظام يظن أن المعارضة لن تأتي إلى جنيف. وعندما جاءت أسقط في يده وبدأ يحاول التملص من المفاوضات معها، ويتلاعب بفرص حل سياسي يحقق مطالب الشعب السوري، قبل أن يجعل المفاوضات عبثية، وينتهج سلوكا غرضه تأكيد عجز العالم عن تطبيق قرار مجلس الأمن حول البدء بتشكيل الهيئة الحاكمة الانتقالية كاملة الصلاحيات التنفيذية، التي لن يكون هناك حل من دونها: أي إذا ظلت الأسدية قادرة على منع تحقيقه: بالسلاح داخل الوطن، وبالتصرفات الرعناء والرهانات العبثية خارجه!