عن “حماية الأقليات” والمسيحيين في المسألة السورية

بقلم:نجيب جورج عوض

منذ اندلعت الثورة السورية ودخلت سوريا في جحيم الحرب والنار والدمار، تعالت أصوات العديد من السوريين، ومن المراقبين للمأساة السورية، بالحديث عن مصير الأقليات في سوريا. ترافق هذا مع تزايد حديث المجموعات السوسيولوجية غير السنية في سوريا، مسيحيين (وعلويين) بشكل أساس، عن مصيرها لا بصفتها جماعات من الشعب السوري، ولكن بصفتها “أقليات” تحديداً، وحصرياً في بعض الأحيان. صار مصطلح “أقليات” مع الوقت هو الأداة التعريفية الأولى والأكثر استخداماً من قبل السوريين، سواء المؤيدين للنظام أو المؤيدين للثورة. بدأنا نلمس تنامي هذه الظاهرة في ضوء ثلاثة معطيات:
1) بدأ النظام بتسويق دعاية أن سقوطه سيؤدي إلى اضطهاد الأقليات وقمعها في سوريا، وأنه هو الحامي الوحيد للأقليات.
2) بدأ الشارع السياسي اللبناني، في ما يشبه عملية استحضار إرث لبناني يعود للحرب الأهلية هناك، بالحديث عن “حلف الأقليات”، ذاك الخطاب الذي تبناه معسكر مسيحيي (العوني تحديداً) له من يتأثر ويقتدي به في أوساط مسيحيي سوريا.
3) وبدأ، أخيراً، بعض أطياف الساحة العامة في الغرب يتحدثون عن ضرورة عمل حكوماتهم على حماية الأقليات في الشرق، والدفاع عنها، في وجه مد إسلاموي لطالما عاش الغرب الأوروبي (وليس المشرق العربي) تحديداً حالة من الفوبيا العميقة تجاهه. 
خلافاً لحالة الامتناع عن الحديث عن أنفسهم على أنهم “أقليات” في سوريا في العقود الماضية، وفي ضوء تأثير العوامل الثلاثة المذكورة في الأعلى، بدأنا نرى المسيحيين السوريين يختزلون أنفسهم، وبشكل محموم لا سابق له، إلى “أقلية” تحتاج إلى حماية، وتبحث عن حقوق مسلوبة، وتسعى لتجنيب نفسها اضطهاداً وتصفية باتتا تبدوان لها وكأنهما أمر محتوم في حال سقوط النظام.

واليوم، يستطيع من يتابع تعليقات شريحة كبيرة من المسيحيين السوريين (بخاصة بين المؤيدين للنظام، أو الذين لا يؤيدونه، ولكنهم يعيشون حالة رعب من البديل المحتمل عنه في المستقبل) على شبكات التواصل الاجتماعي أو في داخل سوريا (الساحل السوري وحلب، مثلاً) أن يرى أنهم باتوا لا يتحدثون عن أنفسهم سوى تحت تسمية “أقليات”. وبات الغرب والدول العربية المؤيدة للثورة بدورهم لا يتحدثون عن المسيحيين (والعلويين) في سوريا إلا بصفتهم “أقليات”، ويختزلون شؤونهم ووضعهم المستقبلي بمفهوم “الحماية” حصراً. وما ردة الفعل العارمة الأخيرة على قول وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، بأن الغرب سيعمل على حماية الأقليات في سوريا ويضمن أمنهم، سوى مؤشر واحد من مؤشرات عدة عن هذا الهوس والحديث المحموم عن السوريين، الذي لا ينتمون للمجموع السوسيولوجي السني باسم “أقليات”. 
أود في مقالتي هذه أن أتأمل قليلاً في المعاني والدلالات المحتملة في مصطلح “أقليات” المستخدم في هذا السياق بالتحديد. سأشارك القارئ بهاجس استحوذ علي بقوة وأنا أراقب بتأنٍ هذا الازدياد المشحون عاطفياً ووجودياً للحديث عن “الأقليات”، وبرضوخ أطياف ملحوظة من المسيحيين في سوريا لظاهرة تسميتهم بـ”الأقليات” وقيامهم هم أنفسهم بالحديث عن مصيرهم في المستقبل على أنه مصير “أقليات”. ما لاحظته من مراقبتي تلك أن لا أحد من المتبنين لهذا المصطلح يريد في الحقيقة أن يقول لنا ما هو المقصود بكلمة “أقليات”، وما هي المعاني والدلالات الممكنة لهذا المصطلح في استخدامه في السياق السوري. يبدو لي أن الجميع يرطن بهذه المفردة مفترضاً، أو مفترضة، بأن معناها مفهوم بديهياً ومسبقاً للجميع، ناهيك عن افتراضه وافتراضها، كما يبدو، بأن معنى المفردة واضح له ولها بشكل بديهي أيضاً، وكأن لكلمة “أقليات” معنى واحد وحيد. لست متأكداً من هذا الوضوح في الحقيقة، ولست متأكداً بأن من يتحدثون عن “أقليات”، في السياق السوري، يعرفون فعلاً أن لهذه المفردة العديد جداً من المعاني والدلالات في حقول الفكر السياسي والسوسيولوجي والقانوني والفلسفي.

قد يبدو ما سأشارك القراء به هنا نظرياً وتجريدياً. لكنه برأيي أساسي كي أقول لأهلي (من المسيحيين على الأقل) في سوريا: إن عرفتم دلالات ومعاني مفردة “أقليات” في استخداماتها السياسية والسوسيولوجية والفلسفية، هل ستستمرون فعلاً في تسمية أنفسكم بالأقليات، أم ستقولون لكل من يطلقها عليكم (من الأطراف الثلاث المذكورة في الأعلى) أنها لا تنطبق في الحقيقة عليكم؟
في علم الاجتماع (السوسيولوجيا) وعلم الإناسة (الانثربولوجية)، يمكن لمفردة “أقلية” أن تُعرَّف من خلال عدة نفاذات: إثنية وعرقية، جنسية (المثليين وغير المثليين) وجندرية (ذكر وأنثى)، عمرية (شيوخ أو شباب) وجسدية (ذوي الاحتياجات الخاصة)، وكذلك فردية وخاصة. هناك أيضاً معانٍ ودلالات مختلفة لمفردة “أقليات” حين نستخدمها في حقول السياسة، وعلاقات الأديان وفي التشريع والدسترة (من دستور) وكذلك في الفلسفة. وفي حقل الفكر الفلسفي المعاصر، لم يكتب عن فكرة “أقلية” مثلما كتب عنها كل من جيل دولوز وفيلكس غوتاري، إذ يبين الفيلسوفان بأن صفة “أقلية” ليست بالمعطى الانطولوجي الجامد، الذي يُخلَق الناس فيه، وكأنه حالة وجود أو هوية قائمة بحد ذاتها. يتحدث دولوز وغوتاري عن فكرة “أقلية” بصفتها شيئاً حدثياً ذات سيرورة، شيئاً يتحول الناس إليه أو يصلون إليه بسبب عوامل معينة “تأقللهم”: حالة الأقللة (minoritization) هي حالة أخلاقية بطبيعتها، يستحيل الإنسان إليها حين يرفض حالة مضادة ذات طبيعة أخلاقية معاكسة. وبعيداً عن الجانب الفلسفي، من التعريفات المستخدمة لمصطلح “أقليات” في الأوساط والأدبيات العلمية والثقافية الأكاديمية ما يلي: “تطلق تسمية “أقلية” على أي شخص أو أي شيء يعبر عن حالة وجود مخالفة لحالة الوجود المعبرة عن العرف القائم”، “الأقليات هي جماعات مرؤوسة أو خاضعة أو تابعة يفتقر أعضاؤها بشكل جدي لأي سلطة أو سيطرة على حياتهم مقارنةً بأفراد جماعات أخرى حضورها طاغٍ وقدراتها أكثر سطوة”، “الأقلية هي جماعة من الناس تختبر في حياتها حالة الافتقار إلى فرص عادلة للنجاح والرفاه والغنى والتعليم والعيش، ولا تنال الفرص نفسها التي تنالها جماعات وأفراد آخرين في المجتمع ذاته”.
لن استفيض أكثر في التعاريف والمفاهيم النظرية والتعريفية لمفردة “أقليات” (سأعكف على دراسة علمية مستفيضة عن هذا المسألة في الشهور المقبلة). أود فقط أن أطرح الآن الأسئلة التالية على السوريين (المسيحيين خصوصاً) الذين بدأوا يكررون تسمية أنفسهم “أقليات” في سوريا: هل ينطبق أي تعريف من التعاريف السابقة على ما تريدون قوله حين تسمون أنفسكم “أقليات”؟ وهل إذا ما عرفتم أن مصطلح “أقليات” في استخداماته العلمية والأكاديمية لا يتطرق لمسألة العدد حصراً ولا يدور في الواقع حول أي تصنيف طائفي المنطق في معناه العام، هل ستقولون فعلاً أنكم أقليات، أم أنكم ستعيدون النظر في مسألة من يمثل أقلية ومن لا يمثل أقلية في الواقع السوري؟ 
لنلاحظ معاً بأن التعاريف السابقة تشير إلى أن ما يحدد انطباق حالة “أقلية” على مجموع بشري سوسيولوجي ما، هو مسألة تمتع هذا المجموع بسلطة وقدرة على التواجد والتفرد والاختلاف في قلب حالة من الأعراف المهيمنة، وقدرة أفراد هذه المجموعة على نيل فرص نجاح وازدهار ووجود تعادل فرص أولئك الذين يسيرون وفق العرف العام السائد. في ضوء هذا الانتباه لمسألة القدرة والسلطة، سنبدأ بالتفكير جدياً في ما إذا كان افتراضنا بأن المسيحيون والعلويون أو من هم من غير المسلمين السنة، هم من ينطبق عليهم حالة “أقلية”، لمجرد أنهم الأقل عدداً في المشهد السوري. من يعرف الوضع السوري السوسيولوجي والسياسي والدولتي في العقود الماضية سيقول إن صفة “أقلية” بالمعنى المفاهيمي، الذي أشرت إليه في الأعلى، تنطبق في الواقع على الغالبية العظمى من الشعب السوري بمختلف إثنياته وطوائفه وأديانه وجماعاته السوسيولوجية. لا بل ولو أردنا الحديث عن الأقليات بالمعنى الجندري والجنسي لقلنا إن المرأة والمثليين جنسياً هم أقليات، من حيث حرمانهم لحقوق وشروط عيش وازدهار وسلطة تقرير مصير تعادل الحقوق والشروط والسلطة المعطاة للرجل ولغير المثليين جنسياً.

الواقع السياقي المميز لسوريا في العقود الأربعة الماضية يقول لنا، في الواقع، إن كل من لم ينضوِ تحت مظلة الخضوع للنظام والطاعة لقمعه وطغيانه والتورط معه في منظومة فساده وعقد شراكة منظمة معه فيها، ومن كل الطوائف والأديان والأثنيات والشرائح المجتمعية، تم حرمانه من مقومات القدرة والسلطة والتمتع بشروط الازدهار، والوجود، والعيش والفرص المتكافئة والعادلة والمطلوبة لتمتعه بتفرده واختلافه الحر، والطوعي، عن الأعراف العامة التي فرضها النظام، وأعاد تشكيل سوريا وفقها. بات كل من رفض أن يشكل حياته وقيمه وفق عرف النظام القائم “أقلية” في سوريا. وبات كل من لم ينضوِ تحت مظلة النظام ولم يبجّل ويبرر قمعه وفساده وطغيانه الفظيع، محروماً من أن يتمتع بأي نوع من أنواع القدرة على العيش العادل. وكي نستعير مفردات دولوز وغوتاري، نقول إن النظام بمنظومته تلك إما “أقلل” (minoritized) تلك الأغلبية الطاغية المتألمة والمعانية من وجوده أو دفعها كي “تأقلل” نفسها بنفسها، حين اختارت أن تقف أخلاقياً على طرف نقيض رفضي مع المنظومة الأخلاقية التي شكلها النظام (منظومة قوامها: أنت معي إذاً أنت وطني ومخلص. أنت ضدي، إذاً أنت مجرم وعميل وتستحق الاضطهاد)، فوجدت نفسها إما تعيش على هامش الحياة في البلد أو معتقلة ومراقبة أو صامتة وتعيش في حالة شبحية أو أنها هاربة خارج البلاد.

يمكننا في ضوء هذا النفاذ السوسيولوجي والسياسي والدولتي أن نتحدث عن تاريخ من “الأقللة” الممنهجة والممأسسة في سوريا كان ضحيته كل من لم يرض أن يكون جزءاً من منظومة النظام الفكرية والعملانية والمصالحية والقيمية، وهؤلاء كانوا من كل أطياف المجتمع السوري وشرائحه، بما فيهم العلويين والمسيحيين أيضاً. 
في السياق السوسيولوجي والسياسي والفكري السوري الواقعي، الذي عاشت فيه سوريا والذي دفع الناس إلى الثورة، لا يأخذ مفهوم “أقلية” في الحقيقة أبعاداً دينية أو طائفية أو إثنية، بل يأخذ في الحقيقة أبعاداً سوسيولوجية وتسلطية تصنيفية تعمل على أقللة كل من يقف ضد النظام وأكثَرَة (من أكثرية) (majoritization) كل من يدعم منظومة السلطة ويرضخ لها.

حين ندرك هذا البعد، نفهم السبب الموضوعي الذي جعل الكثير من القرى والشرائح المجتمعية العلوية في الساحل السوري، على سبيل المثال، تعاني من الفقر والحرمان ويتعرض الكثير من أبنائها للقمع والاعتقال والملاحقات في العقود الماضية بسبب انتقادهم للنظام، ورفضهم الانخراط في منظومته، مع أنهم ينتمون لطائفته. والفهم ذاته لعملية “الأقللة” يجعلنا نفهم سبب دعم المؤسسة الدينية السنية الرسمية والحكومية للأسد ونظامه ووقوفها إلى جانبه في الصراع، بالرغم من أنها تنتمي للغالبية العددية السنية في البلد. في سوريا، مفهوم الأقلية ليس مفهوماً عددياً ولا هو مفهوم ديني أو طائفي. هو مفهوم مجتمعي خاضع للعبة “الأقللة – الأكثرة” التي فرضها النظام الحاكم والبنية السياسية والدولتية، التي أنتجتها تلك اللعبة في السيوسيولوجيا السورية. كل من افتقر وما زال إلى حقوق وقدرات وشروط عيش ووجود عادلة وحقيقية ومتكافئة في سوريا، هو بهذا المعنى “الأقلية” الحقيقية والفعلية في سوريا.

هذه الأقلية هي أكثرية في العدد وأكثرية في الوجود. لكنها “أُقلِلَت” بصرف النظر عن خلفياتها الدينية والطائفية والإثنية. 
واليوم، حين يقول البعض إنهم “أقلية” وأنهم يتوخون الحماية للمسيحيين وسواهم في سوريا، ما الذي يعنونه بالضبط؟ هل ينظرون لأنفسهم على أنهم أقلية بسبب وقوفهم أخلاقياً على طرف نقيض من منظومة قيم النظام؟ هل يقولون إأنهم أقلية لأنهم تعرضوا للأقللة بسبب رفضهم الانضواء تحت قبة النظام والتورط في منظومته؟ إن كان هذا هو المقصود، فهم بطريقة أو بأخرى يقدمون أنفسهم على أنهم يقفون مع القيم والمبادئ التي دعت إليها الثورة السورية الشعبية. أما إن كان المقصود هو أنهم أقلية لمجرد أنهم ينتمون لدين معين أتباعه عددهم أقل من أتباع دين آخر، فهم بهذا ينتقلون من منطق الانتماء الوطني لسوريا، بمعزل عن المعتقد الديني، إلى منطق الانتماء الضيق لهوية دينية تفتيتية، لن تحول سوريا إلا إلى دولة طوائف وعصبيات تناقض في كل بنيتها أي سوريا، هم أصلاً يقولون إنهم يدعون لها ويقولون إنهم سيحرمون منها إذا ما سقط النظام. من جهة أخرى، حين يدعوا من يسمون أنفسهم بالأقليات في سوريا إلى “حماية الأقليات”، ما الذي يدعون له؟

إن كان ما يعنوه هو حمايتهم من الأقللة، فهم إذاً يطلبون الحماية من النظام الأسدي، وأي نظام آخر يماثله في ممارسة عملية “الأقللة” المنظمة ضد شعبه.

في سوريا، الديموقراطيون والعلمانيون والأحرار هم الأقلية. وهم من يجب حمايتهم والعمل على أكثرتهم في سوريا المستقبل. واليوم في العالم العربي المتجه نحو ربيع مأمول، العلمانية والديموقراطية والليبرالية هي الأقلية الفعلية. وهي أقلية عابرة للأديان والطوائف والعقائد والأثنيات بامتياز. سوريا ليست بحالة مختلفة، فهناك أيضاً، الديموقراطيون والليبراليون والعلمانيون هم الذين يتعرضون للأقللة، لا لانتماءاتهم الدينية ولا لقناعاتهم العقائدية ولا لهوياتهم الطائفية، بل لأنهم يحاولون تطوير منظومة قيم وخيارات عيش ومفاهيم وجود تختلف عن الأعراف السائدة. 
إلى كل من يصرون على النظر لأنفسهم كأقلية، انطلاقاً من منطق عددي أو طائفي أو ديني، من بين المسيحيين، وباقي الشرائح المجتمعية في سوريا، أود من مقالتي هذه أن أوجه أنظاركم إلى أن مفردة الأقلية التي يبدو أنكم تستخدمونها، أو تستسهلون استخدام الآخرين لها لتوصيفكم، ملتبسة ولا تعبر عن الواقع الحقيقي السياقي السوري.

وما لم ننطلق من فهم دقيق لما نقوله، سيتحول هذا الأخير إلى نقمة علينا وسجن يحرمنا مما نصبو إليه: سنكون كمن يأقلل نفسه بنفسه. إن كان هناك أقلية في سوريا فهي غالبية الشعب السوري الثائر ضد نظام القمع والإجرام.

وإن كان هناك عملية أقللة تجري في سوريا، فهي ضد كل من يقول “لا” لما هو سائد”…. فهل أنتم من هذه الأقلية؟

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *