بقلم:نصري الصايغ
قتلوا وسام فايز ساره، إذن: خذ نصيبك من بلادك. لا تملك فيها غير موتك، لا تعيش فيها غير موتك، لا مستقبل فيها غير موتك… موتك مصدر عيشك ورصيدك اليومي، تنفق منه روحك، حتى الرمق الأخير.
قتلوا وسام…
من الصعب أن تجد حزناً كافياً عليه وعلينا. من المستحيل أن تبلغ غضباً يوازي حجم الجريمة. من العبث أن تبحث عن معنى لوجودك. كل شيء ينطفئ. تكتشف أن اللغة سدى، وأن الكلام رماد، وأن ما كان من عمر، ليس غير هباء.
قتلوا وسام…
موحش هذا المدى العربي. مدلهم هذا الذي تبحث عنه. مسكون بوحوش تفترسنا، فقط لأننا نحلم بوطن، لأننا نحنُّ إلى حرية، لأننا نؤمن بالحب، لأننا نريد أن يكون الصبح صورتنا، وأن تكون البلاد عنوان حياتنا، بأناقة الروح ومعنى الإنسان وفضائل الضمير.
قتلوا وسام…
في اللحظة التي ولد فيها، بل، في اللحظة التي ولدنا فيها منذ قرن من الزمان، قذفونا إلى القطيع. من شذ عنه وخرج عليه، سبق إلى المعتقل. كل قبيح مستحسن، وكل حسن مستقبح. الزنازين العربية، من دمشق إلى كل عاصمة، ليست غير مصانع لتعذيب الإنسان. من ينجو منها، كان ذلك بفضيلة الجبن، وحكمة التخلي، وغريزة البقاء على الحافة البهيمية… أرادونا بهائم، وفازوا بذلك. ومن شذ مات.
قتلوا وسام…
لا جديد في ذلك. القتل قانون سياسي عربي. السلطة تقتل. الأمن يقتل. الشرطة تقتل. الدين يقتل. رجال الدين يقتلون… هذا زمن لم يحمل في رحمه غير الاستبداد. وكلما زال استبداد، جاء بعده أشد منه… لا جديد؟ فلماذا اليوم هذا الشعور بالانكسار والإحساس بالانسحاق؟ ألأنه كان شاباً طيباً؟ ألأن والده فايز أكثر طيبة وأكثر تعثراً في أحلامه، وأكثر تدرباً على السجون؟
لا أعرف شيئاً. دلوني على شيء أفهمه. أنا في حالة الانعدام، كرجل معلق فوق هاوية لا يسقط فيها. فماذا أقول لفايز؟ ليس عندي شيء يقال. فقط، أريد أن أغرب عن وجهه، لأنني أخجل من حزنه، ولا أطيق ألمه، ولا أتحمل صمته المتواطئ مع كذبة الاحتمال.
هذه بلاد لا تحتمل.
… ولم يقتل وسام فقط. نحن في لبنان، فصل من الموت السوري. قتلونا في الضاحية والرويس وبير العبد وبير حسن وحارة حريك والشويفات. قتلونا ونحن نصلي في مسجد التقوى ومسجد السلام في طرابلس، سفكونا في عرسال والهرمل وصيدا… ونستعد لقتل قادم حتماً غداً، وكل غد، إلى نهاية زمن التوحش العربي.
… ولم يقتل وسام وحده. قتلوا الفتى محمد الشعار، والملاك ملاك زهوي، وباقة من صبايا وشباب لبنان: علي حسن خضرا، علي بشير، ماريا الجوهري، وحزمة من الضوء في عرسال، محمد ومحمود ويارا وعدلا وسحر الحجيري. يا ويلهم! يا ويلنا! قتلوا تركي وبهاء وآمنة عبوس في مسجد التقوى في طرابلس.
أي معنى يبقى بعد هذا الموت. ماذا يقال لأمهات أرضعن أولاداً ليعيشوا في حضن بلاد، كان من المفترض أن تكون واسعة وحنوناً كصدر الأم. ماذا نقول لآباء، أبدعوا في ذرية منذورة للفرح والعطاء؟
لا شيء يقال. كل ما قيل ويقال، غثٌ وتافه ولا معنى له.
هل نجرؤ على اتهام المجرم الحقيقي؟ ألا يجب أن نسمي النظام وأدواته المعتادة على وظيفة التعذيب؟ ألا يلزم أن نسمي رجال الدين وأحزابهم القاتلة وجماعاتهم التكفيرية؟ ألا يلزم أن نذهب إلى منابع العنف الديني، لنجففها في أمكنتها؟ ألا يلزم أن نسمي الأنظمة الاستبدادية كلها، وأنظمة الممالك والإمارات كلها، مبدعة فن القتل بالسر، وبالعلانية؟
هل نجرؤ على ارتكاب اللعنة الجميلة فنتبنى خيانتنا لذواتنا ونقول: لماذا ولدنا هنا؟ لماذا بلادنا غلط وشعوبنا الطيبة لم يرتكب بحقها غير الغلط، والسير في الصراط غير المستقيم؟ لماذا أدياننا هنا، لا تشبه أدياننا هناك؟ لماذا هذا التوحش الفائض؟
سبعون عاماً من العمر، كانت كافية لأقتنع، بأنها كانت هباءً. وأن البقاء لا معنى له، وأن الرحيل قد فات أوانه.
اللعنة… بعد كل هذا القتل، لن يتوقف القتل. ولا قدرة لنا على الاختفاء… ليتنا نرحل قبل الأوان الأخير.