مفاضلة أخلاقية بين كوريا الشمالية والنظام السوري
بقلم:وسام سعادة
من لم يتعلّم من المقابلة بين الألمانيتين الشرقية والغربية في القرن الماضي، لن يتعلّم من المقابلة بين الكوريتين الشمالية والجنوبية في هذا القرن.
هذا لا يعني أنّ الأمور كانت كذلك منذ البدء. غير صحيح، “المانيا الديموقراطية” و”كوريا الديموقراطية” كما تتسمّيان، لم تكونا يوم تأسيسهما، الأولى على انقاض الرايخ الثالث وفي ظل الاحتلال السوفياتي، والثانية ما بين تحرير التراب الكوري من الاحتلال الياباني والاستعداد للمواجهة مع الامبريالية الاميركية في الحرب الكورية، كما تحولتا عقداً في اثر آخر. وهذا يتصل تحديداً بنوعية النظام الذي كان قائماً في المقلب الآخر: فالمانيا الاتحادية تأخرت كثيراً قبل أن تنحي جيلاً من النازيين عن ادارتها بل وحكومتها، ولم يحدث التحول في الوعي قبل النصف الثاني من الستينيات. لكن، سواء في كوريا أو في المانيا، تحول الرهان على “ديموقراطية شعبية” بسرعة الى كابوس. طبعاً لم تصل الأمور في أي وقت في “المانيا الديموقراطية”، أي الشرقية، الى ما وصلت اليه في “كوريا الديموقراطية”، أي الشمالية، ولو أن مشاريع الهندسة الاجتماعية الشمولية فيها فاقت بكثير بلدان اوروبا الشرقية الأخرى.
المانيا الشرقية لم تكابر مطولاً على هذا الانتهاء للصلاحية، في حين أرست كوريا الشمالية نموذجها: نظام يستثمر في انتهاء صلاحيته التاريخية، نظام يقلق العالم ما أن يبلغ العواصم المهتمة بشأنه خبر اعدام الزعيم كيم جونغ اون ابن الزعيم كيم جونغ ايل ابن الزعيم كيم ايل سونغ لزوج عمّته الذي تعبت يداه من التصفيق.
وهذا يجمع نظام بيونغ يانغ بنظام آخر يستثمر في انتهاء صلاحيته التاريخية: النظام البعثي في سوريا. هذا مع فارق أساسي وهو أنّ النظام الشيوعي الكوري أسست له حركة تحرر وطني كفاحية حقيقية، في حين أن النظام البعثي تأسس بالانقلاب العسكري المعزول عن المجتمع ودينامياته، ومن ثم تدرّج باتجاه المناخ الأقلوي الذي طبعه.
واذا ما أردنا أن “نلعب مع الممانعين” لطرحنا السؤال: من الأكثر وطنية، وتقدمية، ومستقبلية، النظام في كوريا الشمالية أو النظام في سوريا؟
النظام في كوريا الشمالية هو نظام قائم على قاعدة صناعية، مسخّرة للأغراض العسكرية بشكل يضرّ باقتصاديات البلد بشكل حاد، وهو نظام ينظّم مجاعته، حيث أنّ التعثّر في حل المشكلة الزراعية، وهو كان سبباً أساسياً وراء سقوط الاتحاد السوفياتي، يبلغ ذروته في كوريا الشمالية.
النظام في سوريا هو نظام فاشل بشكل مضاعف: لا هو فالح في الصناعة ولا في الزراعة. هو بالأحرى نظام تنظيم الهجرة الريفية الى المدن وضواحيها في العقود الماضية، بما أدى الى ضرب تراث المدن السورية وتدمير البنى الريفية في وقت واحد، الأمر الذي جعل التوازن الكارثي بين أهل النظام وأهل الثورة عليه يؤدي بالنتيجة الى تحلل المجتمع السوري نفسه.
النظام في كوريا الشمالية هو نظام الصفوة. الشيوعيون يأكلون أكثر من سواهم، وجيلاً بعد جيل صارت المسألة أشبه باصطفاء عرقي. الشيوعيون أطول من سواهم وأنصح من سواهم في كوريا الشمالية. التلامذة المتفوقون في الرياضة البدنية أو في الرياضيات يفصلون عن سواهم وينضمون الى معاهد للنخبة. هكذا يجدد النظام لنفسه: الاصطفاء العرقي بين “الشيوعيين” و”غير الشيوعيين”، وتحسين النسل الشيوعي بالمتفوقين حيثما وجدوا.
النظام في سوريا هو نظام الصفوة الأقلوية، الفئوية. استند منذ السبعينيات الى تحالف بين عصبة من الضباط العلويين وبين عدد من العائلات البرجوازية الدمشقية، تحت قيادة العسكر طبعاً، والعسكر الفئوي تحت قيادة عائلة آل الأسد. لكن النظام كان يحرص قبل انفجار الصراع بينه وبين المجتمع السوري في نسيجه الاكثري على قمع كل منحى للتذكير بأقلويته، أما اليوم فهو يفاخر بها، ويأتي لأجل نجدتها بالمرتزقة من لبنان والعراق. ومع الحرب الراهنة صار نظاماً اصطفائياً بامتياز، يفرز بين السوريين “شعباً يريده”، وشعباً لا يترّدد بقصفه بالكيماوي، مراهناً على ازدهار انفعالي لمنطق شبيه في المناطق التي خرجت على سيطرته.
الجمهورية السلالية وصلت الى الحفيد في كوريا الشمالية، وانفجرت بوجه الطاغية الابن في دمشق. مع ذلك، يبقى عنصر يتيح المفاضلة الأخلاقية لصالح بيونغ يانغ: فالتوريث فيها يسوغ لنفسه بعقيدة “زوتشيه” أي الوحدة العضوية والسحرية بين الزعيم والحزب والشعب، أما النظام البعثي فيسوّغ لكل شيء بحجة استعمارية موطّنة بلدياً: في حين ان النظام الكوري يحذّر من نفسه اذا لم يراع الغرب مروقه، فان النظام السوري يحذّر من المجتمع السوري وفطرته التكفيرية والارهابية اذا لم يهب الشرق والغرب لنجدته.