بقلم :عمر قدور
الدلائل كلها تشير إلى عدم إمكان عقد مؤتمر جنيف، وعلى الأرجح سيعمل المجتمع الدولي بموجب القاعدة التي تنص على ترك الأطراف السورية لفترة أخرى لينهكها القتال فترضى بالجلوس إلى طاولة المفاوضات. لا مؤشرات أبداً إلى أن القوى المؤثرة ستغيّر مقاربتها للملف السوري، بل ستُترك للسوريين مهمة الاقتراب من الفهم الروسي- الأميركي المشترك والاقتناع بعدم وجود بديل. إدارة أوباما، التي لم ترتقِ لتكون حليفاً أو صديقاً راسخاً للمعارضة، صارت أقرب إلى كونها وسيطاً بين الأخيرة والروس وحتى إيران، وبعدما تخلت عن خطها الأحمر الشهير الخاص باستخدام الكيماوي تبين أنها لا تعبأ بوضع خطوط حمر جديدة تخص الحد الأدنى المقبول سياسياً، بل هي تسعى لإقناع «الحلفاء» بترك مهمة رسم الحد الأدنى للمفاوضات نفسها التي يُستشف أنها لن تترافق بضغوط حقيقية على النظام الذي رفع سقف مطالبه ليشترط بقاءه ووقف دعم الثورة أولاً.
إن افتراض عدم جدية القائمين على الدعوة إلى جنيف يبدو أقرب إلى الواقعية اليوم، لأن نحو سنة ونصف سنة من المفاوضات بين الإدارة الأميركية والروس لم تتكفل بإزالة الخلاف المعلن بينهما حول تفسير جنيف1، وليس متوقعاً أن تُحدث الأطراف الأخرى، ومن ضمنها السورية لو قبلت التفاوض، اختراقاً على هذا الصعيد، بخاصة مع فهم النظام لمؤتمر جنيف على أنه إقرار دولي ومحلي باستحالة الحسم العسكري ضده. مع ذلك، لو افترضنا جدية النوايا لدى أولياء جنيف، لكان ضرورياً السير نحو المؤتمر بغير الطريقة التي يعتمدها المبعوث الدولي، والتي يتضح أنها تثير حولها من الحساسيات والاعتراضات أكثر مما تضيّق الفجوة بين الأطراف المتصارعة، فضلاً عن تعمد المبعوث الدولي توسيع استشاراته بدل التركيز على الأطراف الأساسية، هذا إذا لم يؤخذ بالحسبان عدم التزامه فضيلة الصمت، وغرامه بالإعلام الذي تسبب بمشاكل إضافية له ولمفاوضيه.
في كل الأحوال يُظهر الفهم الدولي المؤسِّس لمؤتمر جنيف عجزاً شديداً عن فهم الحالة السورية، وينطلق من افتراضات يعرف السوريون مسبقاً أنها ستلاقي الفشل الذريع، وعلى رأسها فكرة إنضاج النظام والمعارضة للقبول بالتسوية المنشودة. وجه التهافت في هذه الفكرة أنها تفترض صورة غير واقعية عن الاثنين، فالنظام هنا أقرب لأن يكون كلمة مجازية لا تتضمن الحمولة الدلالية المتوقعة من نسق متكامل، باستثناء الشق الأمني الذي لم يقم يوماً على نظرية متكاملة سوى مهمة حماية نفسه.
بدءاً من النهاية؛ لا معنى أبداً للقول برحيل الرموز الكبرى المتورطة بالدم والإبقاء على النظام، فرحيلها يعني تلقائياً انهيار النظام ككل، وتبعثر قاعدته الأمنية والعسكرية لتبحث عن خلاصها كأفراد أو كمجموعات لها أجنداتها الخاصة. لقد اعتمد النظام طوال وجوده على الحكم والتحكم التام من فوق، بحيث تكون قاعدته منبثقة من رأس الهرم، ولا قيمة حقيقية لأية تحليلات عن بنية ممأسسة له لأنه استمر أساساً على الضد من فكرة المؤسسة. في الملموس؛ تأسس النظام على فكرة توريط عصابته الأمنية بالجرائم، أما تكاثر فروع المخابرات، وتقويتها كلها ثم تداخل مجالات عملها، فكانت وسيلة لمنع الفروع الأمنية من المأسسة والاستقلال النسبي ولجعلها دائماً تحت مراقبة بعضها بعضاً. القول بأن يقبل النظام بتنحي رموزه لمصلحة قيادات بديلة منبثقة منه أشبه بالتمني عليه أن يعدّ انقلاباً ويسمح بحدوثه، ولو كانت فرضية الانقلاب واردة فعلاً لحصل من دون رضا النظام، ولو كان الأخير يكترث بقاعدته المحلية لسعى منذ البداية إلى حقن دماء الموالين قبل أن يفكر بحقن دماء السوريين الآخرين. إن فرضية التغيير في «النظام» تقتضي أن يُعاد تأهيله ليصبح نظاماً بحق، ومن ثم يتحلى بالعقلانية التي تتيح له المساومة وتقديم التنازلات.
المعارضة تعبير أقرب إلى المجاز في الحالة السورية، فالهياكل الموجودة الآن هي ابنة الضرورة الآنية المتمثلة بالثورة، من دون أن تكون انبثاقاً ديموقراطياً منها، ومن دون أن تحظى باختبار تمثيلها الفعلي أو تضع في اعتبارها التفاعل مع مجتمع الثورة، أو مع عموم السوريين، لتحسين مواقعها. حتى تبني شعارات الثورة لا يضع قسماً من المعارضة إلا في موقع العنوان السياسي الموقت، وهذا العنوان مكرّس ليُصرف خارجياً أكثر من كونه فاعلاً على الأرض التي تحكمها تباينات من نوع آخر، بخاصة مع الاستقلالية التامة أو شبه التامة للكتائب المسيطرة في الميدان. القول ان المعارضة السورية معارضات غير متفقة على هدف واحد ينقصه القول ان كلاً منها تفتقر إلى قاعدة شعبية منظورة وراسخة، وأن المزاد اللفظي في ما بينها لا يحتكم إلى أجندات سياسية واضحة وممكنة التحقق. «المعارضات» السورية بمجملها لم تخرج عن السياق الذي كانت عليه قبل الثورة، فهي بعيدة عن المأسسة أيضاً، ومعرّضة للانهيار ضمن اعتبارات يتداخل فيها ما هو شخصي مع ما هو عام، ومع ما هو إقليمي ودولي أيضاً.
الدعوة إلى اتفاق المعارضة على الحل السياسي في جنيف تقفز فوق الحقائق المعروفة، إذ لو كانت هناك فرصة حقيقية لاتفاق المعارضات على أفق سياسي، أو حتى على مدى معارضة النظام، لما بدا أن عداء بعضها تجاه بعضها الآخر يفوق أحياناً العداء للنظام. ثم إن التباينات السياسية، في ما خلا الشعارات الكبرى المشتركة التي لا تؤخذ كثيراً على محمل الجد، تبقى في إطار التمارين الفكرية، وحتى في إطار المتخيَّل المتقادم، لأن قسماً معتبراً منها لا يلحظ تغيرات الواقع السوري منذ آذار (مارس) 2011، ولا يلحظ تالياً تقديم تصورات جديدة مبنية عليها.
حتى الآن تطمح المعارضات إلى سورية متخففة من التعسف الأمني الشديد، مع الحفاظ على بنية البلد كما كانت قبل آذار 2011، كما يطمح النظام إلى العودة إلى ما قبل ذلك التاريخ تماماً كما كان. هذان التصوران يلتقيان مع الرغبة الدولية الحالية في تغليب الاستقرار على التغيير الجذري في سورية، ولكن حيث لا النظام نظام ولا المعارضة معارضة لا يمكن التعويل على أن البلاد باقية على حالها.