سألني عشرات الأصدقاء لماذا لم تتحدث عن مجزرة خان العسل؟ وجاءتني رسائل بعضها مفتوح وبعضها مغلق من نمط: ألست أول من نبه من ظاهرة الطاعون التكفيري من المعارضة؟ ألست أول من رفض حضور الأجانب من أي بلد ولأي طرف؟ ألست صاحب جملة: من يرد أن يجاهد فليجاهد في بيت أبيه. ألست من أوائل من وضح طبيعة «جبهة النصرة» وأخواتها وطالب الأمم المتحدة بوضعها على قائمة الإرهاب… في وقت سماهم أحمد الجربا الحواريون، وسماهم مستشاره السامي بما هو أجمل؟ ألست من وقف يعري قيادة «الائتلاف» يوم رفضت التصنيف الأميركي لـ«النصرة» في مراكش؟. ألست من قال من يستجلب مئة من الشيشان عليه أن يتوقع ألفا من لبنان؟ ألست أول من حذر من حالة الهياج المذهبي عند القرضاوي وقاطع المرزوقي لأنه سكت عن فتاوى جهاده التي طالت مئات التونسيين؟ ألست؟ ألست؟؟ نعم، ولكنني أيضا قلت مرات عدة إنني أتمنى أن تتدارك المعارضة الأمر، فلا يتحول الكابوس الذي أراه لواقع وحشي ومجرم. وناشدت من أحب، ومن لا أحب، أن نقوم بجهود مشتركة كل على طريقته للخلاص من الطاعون التكفيري. لم أتَمَنَّ في لحظة أن يبقى الانتهازي المعارض على انتهازيته. كنت أتمنى أن يسمعني بعض المؤمنين وبعض العلمانيين من أجل موقف يتجاوز هيئة التنسيق ويتجاوز منظمات حقوق الإنسان. كنت أتمنى أن نصل إلى تقسيم عمل بين من يحدث السلطات التركية ناصحا، فعاجلا أم آجلا ستتحول بلادهم من الأرض المعبر إلى الأرض المستقر. ومن يقول لمقامري الموت في الخليج رأفة بأهل الشام، فلن تبقوا فوق حفلة الموت تدفعون للتكفيريين تحت الطاولة وتحاربون الإخوان فوقها؟ لقد وثقت عشرات الجرائم التي ارتكبها «الشبيحة»، كذلك رصدت مئات حالات التعذيب والموت تحت التعذيب في أقبية الاستخبارات السورية. وفي كل مرة كنت أضع الأصبع على الجرح في أخطاء وجرائم بعض فصائل المعارضة والتكفيريين. كان ثمة من يستنفر فرقا كاملة للرد. يا قوم: عندما يلتحف العنف ثوبا دينيا يستبيح كل شيء، ويسمح لنفسه بكل شيء، ويكثف السوء والشر والشيطان والظلم في الآخر المختلف. سار الإعلام الخليجي، وبشكل خاص القطري – السعودي، على هذا النهج، وقد كتبت في الشهر الرابع للثورة: فليتوقف الإعلام عن التجييش إلى درجة التجحيش… جرى اختزال القطاع العام السوري بآل الأسد، فتحطمت آلاف الورشات والمصانع باسم الثورة… وسمي الجيش السوري بالأسدي أو النصيري، فاستبيح الجندي البسيط لمجرد أنه يرتدي لباسا عسكريا… لقد سقط الإسلاميون الوسطيون (إن صحت التسمية وبين ظفرين) في لعبة التطييف والمذهبة وإثارة الحقد على الآخر، فخسروا المسلم وخسروا ثقة الناس بهم، وأعطوا «القاعدة» ومنظمات الهدم القدرة على الانتشار، فصارت الإيديولوجية الوحيدة السائدة إيديولوجية الحقد والعنف المذهبي. وطالما كررت، حتى كل قلمي ولساني: «العنف المذهبي يقتل باسم الهوية على الهوية ومن دون هوية». أعطت السلطة السورية في الأشهر الأولى أسوأ ما عندها، وكانت تبيع الأفلام التي تصور جرائمها لتخرج على الإعلام كوسيلة إرهاب للناس. ودفع الحل الأمني العسكري فئات غير قليلة لإعطاء أسوأ ما عندها. وتحولت عملية تعميم الموت وقتل الأمل إلى مهنة لسماسرة السلطة والمعارضة المسلحة والوكلاء الرسميين وغير الرسميين لهما. اغتالت السلطة فرص الحل السياسي المقبول والمعقول، واغتال أصحاب الخطاب الثوري الثورة، ودخلنا في كابوس مظلم يأتمر فيه السوري بأمر كل حامل شنطة (حقيبة). وللتاريخ أقول، وحدها «هيئة التنسيق» والأحزاب الديموقراطية الكردية وبعض العلمانيين الشرفاء، كانوا يستقرئون معنا مشروع الخراب والتدمير الذي تحمله الحركات التكفيرية. قال لي مجد، ابن المناضل عبد العزيز الخير: «بدأت في الشهر الثاني من هذا العام أبصر بصيص أمل ثم رأيته يضمحل، وكأن هناك مؤامرة كونية ضد حق المواطن السوري بالأمل». كان الاتفاق الروسي – الأميركي من أجل مباحثات في جنيف بداية تصور للخروج من دوامة الموت، لكن المواقف الكبيرة تحتاج إلى كبار. كان ثمة من يتعامل بخفة مع المال والموت والتسلح والدمار، وكأنه يحدث في كوكب آخر. صار الهم الذاتي والصعود الذاتي هدفا في ذاته ومن أجل ذاته لدى المثقف المتسلق، وجرت عملية التطبيع مع الموت كجزء لا يتجزأ من الأوضاع السورية. حيث شئنا وقعت مجزرة، وحيث نشاء مجرد دفاع عن النفس، وحيث يشاؤون دفاع عن الوطن وحرب على الإرهاب… فقدت الكلمات معناها ومبناها وتشوشت التصورات. فمن الضروري أن يسير شريط الأخبار على فضائيات مجرمة تعيش على صناعة الموت. وكون الحدث لم يعد سوريًّا، وكون التكفيريين في العراق صاروا أصحاب بأس وقدرة على القتل اليوم بأرقام تجاوزت بلاد الشام، بل وكون التونسي لم يعد بمأمن من قطع الرؤوس لجنود من «أهل السنة» في بلده، والمصري من عمليات تقع ضد جيش «سني بامتياز» في سيناء. ها نحن في شهر رمضان نسجل أبشع الجرائم بحق الإنسانية، باسم الله وباسم الخلافة. كنت أتمنى أن أقول لقد كنت، ومن قال قولي على خطأ، لكن لم يعد بوسعي إلا رؤية الكابوس يمتد على أرض الواقع، بعد أن كان مجرد تحليل منطقي مقتبس من تجارب التاريخ والمجتمعات. كلنا يعلم بأن السلطة السورية منذ العام 1970 تسير على مبدأ بسيط لحافظ الأسد: «يمكنك الاستمرار في الحكم كلما كانت البدائل أسوأ». ورغم مرور أربعين عاما على هذه المدرسة، ما زلنا خدما في هذه المدرسة بوسائل شتى.