بقلم :أبي حسن
ما ستقرأونه أدناه, ليس مقالاً ولا تقريراً صحفياً ولا مادة أكاديمية, إنه ببساطة بوح ومكاشفة وجدانية نعتقد بأهميتها وراهنيتها بمعزل عن آراء أخرى معتبرة قد تكون مغايرة لنا من حيث المضمون أو التوقيت.
مع ذلك أجدّ نفسي مضطراً للتنويه, أنّه قد يظهر من يحتجّ على توقيت كتابتي هذه مردداً كالببغاء السؤال الذي مابرح يطرح منذ ما ينوف عن المائة العام: “لماذا في هذا الوقت بالذات؟”, وأجيبه: حبذا أن تخبرنا عن الزمان المناسب لمناقشة مشاكلنا وقضايانا, هذا من جانب, ومن جانب آخر ما ذنبي إن كنتُ لا أثق بـ”عدادات” السيد ناصر قنديل؟ أياً يكن الأمر, وبرغم القسوة التي قد يلمسها بعضّ قرّاء هذه الصفحات ضد إيران, لكن أطمئنه إنّ كاتب هذه السطور لا يمكن أن يكون في هذه المعركة إلا في المحور الإيراني- السوري- حزب الله, ليس تودداً لهم وليس قرفاً من الوهابية وابنتها جبهة النصرة وهي الوجه الأبشع للصهيونية, بل محبة بسوريا كما عرفتها وكما أريدها.
طبعاً, وكما هو واضح من العنوان, إن هذه المكاشفة تتحدث عن إحدى جوانب مسببات الأزمة السورية الراهنة التي راح ضحيتها حتّى الآن عشرات آلاف الشهداء السوريين من عسكريين ومدنيين, ومثلهم من الجرحى وغيرهم من الذين باتوا مقعدين أو عجزة؛ والمؤسف إنّ هذا الجانب الذي سنناقشه لم تتم المصارحة به بحسّ عال من المسؤولية من قبل أي جهة لا سابقاً ولا لاحقاً. بمعنى آخر: إننا نؤمن بوجود حرب كونية على سوريا, كإيماننا بالمؤامرة التي تستهدف كياننا السوري ووحدة أرضه وشعبه, ولا يغيب عن بالنا دور الغاز القطري وأنابيبه في ما يجري من صراع في سوريا, وندرك جيداً الدور بالغ القذارة لبعض دول الخليج الوهابي الوالغ حتى العظم في دمنا السوري, وهذا ما يتبناه الإعلام السوري الرسمي والإعلام الوطني المستقل ونحن معه فيه؛ ولا نبالغ إن قلنا إن ما يُسمى بالجيش الحرّ وجبهة النصرة ما هم سوى نسخة مُحدثة عن عصابات الهاغاناه الصهيونية, بيد أننا في هذه المكاشفة سنحاول مقاربة الدور السلبي لإيران وحزب الله (محاولات تشييع سوريا وفق ما كان يُقال) في ما وصلت إليه سوريا من جحيم لايُطاق, نسوق ذلك مع قناعتنا الراسخة أننا وإياهم في خندق واحد الأمس والآن وغداً.. نعم في خندق واحد لكن على اعتبارات سياسية مشروعة عنوانها مقاومة المشروع الوهابي- الصهيو- أمريكي في المنطقة وليس على أي اعتبار آخر قد يريده البعض.
إذاً, لا غبار على مقولة إن إيران وسوريا وحزب الله (وسابقاً حماس) في محور واحد, هو محور المقاومة ضد الهيمنة الأمريكية و الغطرسة الإسرائيلية, وهو محور مشروع ويحظى بدعم نسبة وافرة من السوريين والغالبية الساحقة من القوميين العرب وغير العرب.
***
من بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران آواخر سبعينات القرن الماضي وإقصائها لشركائها ضمن الوطن الإيراني كحزب تودة وغيره من أحزاب شاركت في الثورة, عملت إيران على تصدير ثورتها (أحياناً كثيرة بصيغة مذهبية) عبر العالم إذ تُلمس أياديها في اليمن وبعض الشمال الأفريقي والسودان (وبشكل خجول في مصر وفق ما قرأنا في بعض التقارير الصحفية في سنوات مضت) وصولاً إلى بعض دول أمريكا اللاتينية كالأرجنتين مثلاً, وكان من المُحال أن يتأتّى لها ذلك التصدير في الوطن العربي لولا تبنيها للقضية الفلسطينية التي كانت تحظى بإجماع عربي (ظاهري) وإسلامي منقطع النظير على نقيض ما بات عليه واقع الحال اليوم. نُدرج ذلك بمعزل عن كونه من حقها ذلك التصدير أم لا.. كأني أرى قارئاً مُشبعاً بإيديولوجية محددة أو ما شابه يقول عني إني أسعى إلى شيطنة إيران!
ومن خلال تبني إيران للقضية الفلسطينية, حاولت تمرير الكثير من مقولاتها الثقافية المتعلّقة بالمذهب الديني الحاكم بموجب الدستور في طهران, إذ المعروف أنّ أهل السُنّة مهمشون في إيران, فمن غير المسموح لهم دستورياً الوصول إلى رئاسة الجمهورية الإسلامية الإيرانية (علماً أن عددهم يجاور 15 ملون مسلماً سُنيّاً) تماماً كما هو واقع الشيعة المقموعين سياسياً واجتماعياً واقتصادياً في مهلكة آل سعود ومشيخة البحرين حيث يشكلون في الأخيرة الغالبية الساحقة ومع ذلك يمحقون هناك في ظل صمت عربي وإسلامي ودولي مريب!
فعلى الصعيد السوري لا تخفى على ذي بصيرة المحاولات الإيرانية في تصدير مذهبها من خلال اختراقها لمكونات المجتمع السوري بطرق مشروعة أحياناً وغير مشروعة مرات كثيرة. أما الطرق المشروعة فهي إقامتها لمراكز ثقافية في إطار عمليات التبادل الثقافي الكائنة بين الدول, أو كاهتمامها ببعض المقامات الدينية التي يعتبرها المسلمون الشيعة رموزاً خاصة بهم علماً أنّها رموز إسلاميّة يُفترض أن تكون جامعة بين المسلمين, مع التأكيد أن ذلك الاهتمام ظل في إطار الطبيعي والعادي حتّى ما قبل حرب تموز 2006. أما الطرق غير المشروعة فقد لاحظها بعض المتابعين لهذا الملّف في جمعية المرتضى التي كان يرأسها جميل الأسد شقيق الرئيس الراحل حافظ الأسد, وطوال الفترة التي نشطت فيها تلك الجمعية (من أواسط ثمانينات القرن الماضي حتى أواخر ذلك القرن) التي كان هدفها الأسمى –وفق ما قيل يومها- هو تنفير أبناء الطائفة الإسلامية العلوية من طريقتهم الدينية التي عمرها أكثر من 1300 سنة وتنطوي على منظومة أدبية وفكرية وثقافية واسعة لصالح خارج معلوم, وباعتبار أن رصيد الراحل جميل الأسد كان دون الزهيد في أوساط الطائفة العلوية فقد باءت مساعي جمعيته بالفشل وإن انضم إليها بعض رجال الدين من الطائفة الإسلامية العلوية الذين معظمهم من ذوي الغايات الدنيوية, وهذا ما يعرفه أي متابع لتفاصيل الشأن السوري الداخلي.
مع ذلك ظلت العلاقة الإستراتيجية بين طهران ودمشق, تقوم على النديّة في عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد الذي يذكر له السوريون أنه لم يسمح –قدر المستطاع- طوال فترة حكمه لأية آياد خارجية مهما كانت صديقة العبث بالمكوّن الاجتماعي السوري, وإن آمن الراحل بالتلاقح الثقافي الذي ثمة بون شاسع بينه وبين الاحتلال الثقافي أو بكلمة أكثر واقعية: التبشير المذهبي!
قبل حرب تموز بنحو العام أو العامين صرّح مسؤول إيراني مهم: “إنّ أمن دمشق من أمن طهران”, حينذاك, لفت انتباهي أحد المثقفين اليساريين السوريين البارزين وهو ينحدر من الطائفة العلوية (كان محسوباً حينها على المعارضة أما خلال الأزمة السورية فغالباً ما لزم الصمت) بالقول: “هل تستطيع سوريا التصريح بأن أمن طهران من أمن دمشق؟”, ليردف بالقول: “لا, لا تستطيع لأن علاقتنا مع إيران لم تعد نديّة”. ليفترض ذلك المثقف أن القرار السيادي على الصعيد السياسي السوري قد اهتزّ لصالح طهران عقب سقوط بغداد واحتلال العراق أمريكياً؛ أفادني ذلك المثقف بهذا بمعزل عن الرفض الشهير للرئيس بشار الأسد لإملاءات –وزير الخارجية الأمريكية الأسبق- كولن باول على أثر احتلال العراق, وهو رفض أكبره ذلك المثقف في الأسد الابن.
لم تقم إيران بأي نشاط من شأنه “استفزاز” بعض الشارع السوري بشكل ملحوظ قبل حرب تموز, وإن كانت تقوم بهذا (ونحن لا نفترض هنا افتراضاً بل نتحدث عن وقائع) فإنه غالبا لم يثر أية احتقانات في الشارع السوري باعتباره لم يكن مكثّفاً وبالآتي غير ملحوظ كما أسلفنا بخصوص جمعية المرتضى. وأنشر هنا أمثلة أخرى: مثلاً, أتذكر أنّي في عام 2001 كنتُ أقيمُ في غرفة بائسة بحي الدويلعة الشعبي في دمشق, وهناك كان يزورني شباب مسلمون علويون أنهوا دراستهم الجامعية (طب, هندسة.. الخ) وهم بحاجة إلى تحسين وضعهم المادي بما يتناسب وطموحات أولئك الشباب وشهاداتهم التعليمية, فكانوا يقصدون بعض الحوزات الإسلامية الشيعية في السيدة زينب, حيث تلقوا بعض العلوم مع معاشات ماديّة, ولم يكادوا ينهوا ارتباطهم بالحوزة العلمية في السيدة زينب حتّى باتوا يحقّرون مشاعر أهلهم في الطائفة الإسلامية العلوية من خلال تناولهم لمعتقداتهم الدينية بطريقة مشينة لم يكترث بها أحد من المعنيين والمسؤولين حينها! وهذا لا يعني أنّهم التزموا –أولئك الشباب- بالضرورة بمجملهم بالمذهب الإسلامي الشيعي على طريقة الحوزات, لكن من المؤكد أن أوضاعهم المادية تحسنّت بطريقة لافتة للانتباه, هذا ما ظهر من خلال مقدرتهم اقتناء سيارات ومكاتب وعيادات ومنازل بسرعة كانت محطّ أنظار الكثيرين من محيطهم. يمكن أن نستطرد هنا لنضيف إن جمعيات وهابية كانت تنشط بدورها بالفترة ذاتها في دمشق بغية تسويق الحجاب على الطريقة السعودية قبالة إغراءات مادية أيضاً (شاهدنا في الفترة التي أعنيها فتيات كثر في دمشق كنّا سافرات وبائسات, فجأة تحجبن وصرن يمتطين أحدث أنواع السيارات!).
في السياق ذاته, روى لي جنود سوريون في عام 2004 عن ضابط عامل كان برتبة ملازم في ذلك العام (تسرّح بإرادته لاحقاً), كانت خدمته في الآمرية بدمشق, أمتنع عن ذكر اسمه مكتفياً بالقول إنّ أصله من محافظة الرقة, كان يعرض على الجنود الذهاب إلى الحوزات مقابل إغراءات مادية! لاحظْ إن هذا الضابط كان -شأنه شأن الشباب المسلمين العلويين السابق التطرق إليهم- في مقتبل الشباب ويبدو أنه يرغب بتحسين وضعه المعيشي والمادي!
***
نستطرد هنا بغية التأكيد, إن إيران, لم تحاول مطلقاً الاقتراب من طائفة الموحدين الدروز في سوريا وكذلك المسيحيين وأتباع الشيخ سليمان المرشد المعروفين بالمرشدية! فمثلاً هي لم تحاول بناء حسينية أو إقامة حوزة في جبل العرب كما فعلت في بعض مناطق تواجد المسلمين العلويين والمسلمين السنّة (1)كما سنبيّن لاحقاً.
***
ما سبق ذكره, كان على سبيل المثال لا الحصر, وهو لم يلفت انتباه الكثيرين في حينه, وإن كان في تلك السنوات قد بدأ ما أطلق عليه بعض السوريين من مولاة ومعارضة همساً –عن سوء نيّة أو حُسنها- مصطلح “المطامع الفارسية في سوريا”, وكان يتحدث ذلك البعض إن تلك “المطامع” تمرر تحت غطاء معاداة إسرائيل ودعم المقاومة وفق ما ارتأى البعض –مُحقاً أو مُخطئاً- حينها!
بعد حرب تموز, لاحظ الكثير من السوريين حضوراً إيرانياً طاغياً في سوريا, ولم يتم النظر إليه باعتباره حضوراً بريئاً, بدليل الحديث صراحة عن مساع تبذلها إيران لتشييع مناطق سورية عدة (كان كاتب هذه السطور يقرع بتواضع ناقوس الخطر من المدّ الفارسي الشيعي في سوريا بالتوازي مع التحذير من مدّ خليجي وهابي كان هو بدوره مخيفاً وإن كان يتم بطريقة غبية ومنفرّة ومقززة). كان الحضور الإيراني يتم بالتوازي مع نشاط ثقافي ملحوظ لحزب الله. ويتمُ ذلك كله على حساب المكوّنين السُنّي والعلوي السوريين, وكانت بعض أجهزة النظام تضيّق على بعض المتحدثين إعلامياً عن هذا الحضور والمتسائلين عن سببه, بذريعة إثارة النعرات الطائفية والمذهبية! كما قد يفعل بعضها معي عقب نشر هذه المكاشفة, والله أعلم!
من الكتّاب السوريين الذين أثاروا هذا الملف بأسلوب كريه وبغيض, بعد حرب تموز, الكاتب “العلماني” عبد الرزاق عيد, في عدد من المقالات نشرتها له صحيفة السفير اللبنانية التي سرعان ما امتنعت عن نشر المزيد له نظراً لانحطاط خطابه, مع التأكيد أن الكاتب عيد لم يثر المُشكل من زاوية مذهبية مباشرة (ربما لانعدام ثقته بخطابه), بل كان يهاجم ما عُرف حينها بمحور “الممانعة” مضيفاً إليه الرئيس الفنزويلي الراحل هوغو تشافيز وحركة حماس, لكنه عملياً كان يقصد النظام السوري وإيران وحزب الله.
نشاط حزب الله, كنتَ تشهده من خلال العمل المكثّف لشركات بيع كتب التراث الإسلامي التي كانت تصول وتجول في سوريا بمطلق الحرية, ولعلنا نتذكّر كيف كانت تتصل تلك الشركات على جوالات السوريين لتعلن لهم أنّ لديها خطب السيد حسن نصر الله وشرح نهج البلاغة .. الخ (مع ملاحظة أن تلك الشركات كانت تنتقي بضاعتها بعناية مركزّة, قبالة جهل القائمين عليها بخطاب التنحي عقب هزيمة حزيران للزعيم جمال عبد الناصر أو خطاب حرب تشرين التحريرية الذي ألقاه الرئيس حافظ الأسد على سبيل المثال لا الحصر!). الأمر الذي دفعني في ربيع 2010م لكتابة مقال بعنوان: “عزيزي.. لدينا خطب السيد حسن نصر الله”, نشرته في موقعيّ “الأزمنة” لصاحبه نبيل طعمة وفي “كلنا شركاء”. وعلى أثر ذلك المقال لم يأتني أي اتصال من أية شركة, الأمر الذي عللتُه أن الموضوع وصل لسماحة السيد حسن نصر الله فأمر بإيقافه, ما فسرتُه أن القائمين على تلك الشركات المقربة من حزب الله كانت تنشط دون علم السيد نصر الله الذي أكنّ له ككثيرين غيري عميق الاحترام.
بالعودة إلى النشاط الإيراني الذي “استفزّ” سنتذاك بعض الشارع السوري إلى درجة أنّه أثير بقوة في الصحافة الالكترونية عام 2008 (إن لم تخني الذاكرة) التي تحدثت حينها عن لقاءات أجراها بعض كبار رجال الدين السُنّة (كانوا مقربين من النظام حينذاك, خلال الأزمة انشق بعضهم أو معظمهم) مع مسؤولين سوريين(2) , ومن المصادفات أني قصدت بدوري أحد المسؤولين للاستفسار منه عن هذا المد الشيعي/الإيراني غير المبرر والذي قد يعطي انطباعاً لعامة الناس أنه يتم بتوجيه من القيادة السياسية! طبعاً, جرى يومها كلام كثير بيني وبين بعض المسؤولين لستُ في وارد طرحه هنا, وإن كنتُ أصرّ دائماً على أن ذلك التوجّه خاطئ وستكون عواقبه سلبية. والمؤكد أنّي خرجت بقناعة أنّ من قابلتهم كانوا مأمورين لا مسؤولين.
كان ذلك المدّ الإسلامي الشيعي الذي ظهر أنّه مبرمج وممنهج يقابله مدّ وهابي اقتصر في معظمه على الإعلام, وسعي بعض الوهابيين السيّاح للزواج (الزواج هنا ليس بالمعنى المتعارف عليه, بل أنواع شاذة منه كزواج مسيار ومصياف أو زواج الونّاسة وغيرها من بدع في الزواج خاص بإسلام النفط الوهابي, وهو زواج يبحث عن المزيد من النهم الجنسي لا غير, عادة يخلّف أطفالاً بائسين تتحمل الحكومة السورية أعباء نزوات آبائهم) بفتيات سوريات صغيرات غالباً كنّ من قرى الغوطة الشرقية؛ وكانت أحد أوجه ذلك النشاط الوهابي تتم عن طريق جمعيات تزعم أنها خيرية, في حين مهمتها وهبنة (أي جعله وهابياً) بعض المناطق السورية كمدينة سلمية (الإسماعيلية) في محافظة حماه, وبعض مدينة مصياف, إضافة لنشاطها ضمن دمشق من خلال حملات التحجيب قبالة مغريات ماديّة كما كنّا قد أشرنا.
كان أول من تحدث عن الحضور الإيراني “الطاغي” في سوريا هو عبد الحليم خدام نائب الرئيس السوري السابق, إذ أثاره في عام 2006, ويومها رددت عليه بمقال بتاريخ 23/12/2006 في صحيفة الجمل الالكترونية يجده المهتم على الرابط http://www.aljaml.com/node/11387.
بعد حرب تموز 2006, صارت الصحافة الالكترونية المعارضة –كموقع ثروة الذي يديره نجل الممثلة منى واصف- ينشر تقاريرَ مصورة عن وجود حسينيات (مراكز خاصة بالمسلمين الشيعة) في بعض مدن الجزيرة السورية كالحسكة على ما أذكر, وخلال الأحداث الدموية التي تشهدها سوريا رأينا كما رأى غيرنا كيف احتفى المسلحون بتدمير حسينية في جسر الشغور وهي مدينة مسلمة سُنّية(كانت قبل نحو مائة عام مُسلمة علوية عن بكرة أبيها), الجميع أدان –وأنا أحدهم- تخريب الحسينية, لكن بعد “جلاء السكرة وحضور الفكرة” كما يقال, ينبغي أن نواجه أنفسنا لنسأل عن مبرر وجودها في منطقة لا وجود فيها لأي مسلم شيعي؟! نعم, يجب طرح هذا السؤال -وإن تأخرنا في طرحه كثيراً- وعدم الاكتفاء بالإدانة لهدمها كما يفعل الأستاذ الكبير غسان بن جدو. بكلمة أخرى لنبتعد قليلاً عن عادتنا أي “رؤية نصف الكأس الفارغ” فقط, أو “لا تقربوا الصلاة.. ” إبّان تناولنا لهذه القضيّة الغاية في الحساسية.
لم تقتصر المسألة على عدد من الحسينيات والحوزات هنا وهناك, بل صار بعض الشارع المسلم السُنّي (حتى العلماني منه) يحدثك عن تشييع بعض قرى الغوطة بريف دمشق ومناطق في درعا (شخصياً لم أسأل عن أسماء تلك القرى), غير أنّ المؤكد أن تلك المساعي غير الحميدة واللا وطنيّة “أثمرت” عن تشييع نسبة وافرة من سكّان محافظة الرقة وغالبية قرية علويّة على مقربة من القصير اسمها “حسيبة”, ومن الجدير التسجيل هنا إنّ أول انتقام دموي جماعي قام به الإرهاب الوهابي المسلّح في سوريا كان ضد قرية حسيبة سابقة الذكر, فالمعروف أن الإرهابيين هاجموها في شهر آذار 2012 وقتلوا نحو المائتين من سكّانها! كأنهم أرادوا بذلك إيصال رسالة سياسية إلى طهران, وهي في الوقت ذاته رسالة موجّهة للداخل السوري. في السياق ذاته رأينا مصير مدينة الرقة التي باتت في قبضة جبهة النصرة(الجناح العسكري للوهابية والصهيونية) وما أُشيع عن تفجير مقام الصحابي عمار بن ياسر لا يمكن تفسيره إلا من هذه الزاوية, أي زاوية الحقد الوهابي الدفين الذي كان من شأن النشاط الإيراني المتمادي أن ساعد وسارع في انفجار ذلك الحقد بعنف يدفع الآن الشعب السوري فاتورته من دماء أبنائه, في حين كان يمكن أن تكون الأمور غير ذلك لو كان بعض المسؤولين السياسيين السوريين يتحلى ببعد نظر.
هنا ينبغي القول: إننا نعلم أن المذهب الوهابي الإرهابي لا يقيم وزناً لقبر أي صحابي, فمن صلب عقيدته نبش القبور وقد شاهدنا مؤخراً ماذا فعلوا بآثار مكة الإسلاميّة, بهذا المعنى باتت المقامات المقدّسة في سوريا على مختلف ديانات ومذاهب أصحابها مهددة بالتدمير فعلاً, لكن من الواجب القول إن الإسلام السُنّي السوري هو من حمى تلك المقامات والمقدسات على اختلاف مسمياتها طوال فترة وجودها, والنشاط الإيراني السابق للأزمة السورية(البعض يصرّ على اعتباره استفزازاً) هو ما جعل تلك المقامات في موضع لا تحسد عليه من قبل إرهابيي جبهة النصرة ومشتقاتها راهناً؛ ولا أستبعد أن يكون “الاستفزاز” الإيراني الذي عنيته هو ما دفع ببعض مجرمي جبهة النصرة لنبش قبر الصحابي حجر بن عدي (ر) في ضواحي عدرا بريف دمشق كما شاهدنا! في هذا الجانب, كتب أحد الثورجيين, مقالاً عن مقام السيدة سكينة في داريا, أفاد فيه كيف إن إيران حولّت المنطقة المحيطة بالمقام بذريعة المقام إلى مستعمرة إيرانية, وستفعل ذلك في كل منطقة سوريّة تزعم أنّ لها فيها مُقدّساً بحسب تعبيره, وتجدر الإشارة هنا إلى كتاب بائس لكن له دلالته حمل عنوان “البعث الشيعي”, كُتب ذلك كله قبل دخول سوريا في هذا النفق المظلم.
يشدد الرئيس السوري بشار الأسد على السيادة السورية قراراً وتوجهاً, ونحن كالملايين غيرنا نشدّ على أياديه في هذا الجانب, لكن يمكن هنا أن نطرح سؤالاً نرجو أن يتقبلّه المعنيون بالأمر بمنتهى الإحساس بالمسؤولية وبعيداً عن التصيّد في المياه العكرة أو التجاذبات الضيقة: طالما إن بمقدور إيران أن تبني حوزة أو مسجداً أو أن تهتم بأي مقام في سوريا بذريعة أنّه مقدس إسلامي شيعي, تُرى هل تستطيع وزارة الأوقاف السوريّة قبالة ذلك إشادة جامع وسط طهران يحمل اسم الصحابي الجليل عمر بن الخطاب أو عثمان بن عفان رضوان الله عليهما؟ السؤال مشروعٌ هنا! (شخصياً, لا أعلم إن كان يوجد جامع في ظهران باسم الخليفة الراشدي الأول والثاني والثالث أم لا, وسأكون سعيداً جدّ إن كان يوجد ذلك, لكن المؤكد أنّك تجد في سوريا جوامع سنيّة كثيرة باسم علي بن أبي طالب وفاطمة الزهراء والحسن والحسين وعمار بن ياسر والمقداد بن الأسود الكندي وسلمان الفارسي وعلي زين العابدين وجعفر الصادق (ع).. الخ)
السؤال ذاته, وبخصوص “الاستفزاز” الإيراني لمشاعر بعض مكونات الشعب السوري, لمسه المواطن السوري في الساحل السوري من خلال افتتاح (سابقاً) حوزات في بعض قرى الساحل أُغلقت تحت ضغط المجتمع المحلي, ومجمع الرسول الأعظم في مدينة اللاذقية يُشرف عليه رجل دين مسلم شيعي من بلدة الفوعة(3) بإدلب بمعاونة طاقم شيعي مع أنّه يوجد رجال دين كثر من الطائفة الإسلامية العلوية في اللاذقية وبمقدورهم الإشراف على ذلك المجمع(يحدثنا بعض من يتلقى العلوم في ذلك المجمع أنّه يتم كثيراً –فيه- الغمز من قناة العلويين بطريقة لا تحترم مشاعرهم وشعائرهم وبمقدورهم إحراج الغامز بالأسلوب نفسه لكنهم يترفعون عن ذلك). والسؤال الذي طرحه رجال دين من مسلمين علويين وسُنّة كثر –علانية وهمساً- ما هو مبرر وجود هذا المجمع في مدينة لا وجود للإسلام الشيعي فيها! ووجود المجمع يُذكرهم ببعثات التبشير المسيحية/الأوربية التي أشرف عليها الغرب في قرون سابقة, عدا عن كونه يعطي انطباعاً بأنّ إسلامنا خاطئ في حين هم وحدهم على صواب!. يكتسب السؤال/الهاجس مشروعيته من خلال منع الكثيرين في النظام أن يقيم المسلمون العلويون أي كليّة شريعة خاصة بهم حتّى في أماكن تواجدهم, الذريعة السخيفة التي يتلطى خلفها المانعون هي أنّهم لا يريدون أن يثيروا حساسيات مذهبية! والمعروف أن لدّى المسلمين العلويين تراثاً ضخماً يحق لهم المحافظة عليه, فشعراء صوفيون فطاحل كالمنتجب العاني(4) والمكزون السنجاري وأدبيات كبار رجالهم كأبناء شعبة الحراني(أحدهم صاحب الكتاب الشهير “تحف العقول”) يحق لهم—للعلويين- أن يُحافظوا عليها ويدرّسونها لأبنائهم وفق مناهج حديثة تتناسب والعصر, فغني عن البيان أن ليس من مصلحة أصحاب كلّيات الشريعة الأخرى من خارج الطائفة الإسلامية العلوية الاهتمام بذلك التراث وهذا حقها (هل في مصلحة مجمع الرسول الأعظم الكائن في اللاذقية تدريس طلّابه كتاب “المسلمون العلويون في مواجهة التجني”؟ للدكتور الشاعر الشيخ أحمد علي حسن؟ السؤال برسم القيمين على ذلك المجمع ومن يقف خلفهم), كما هو حق الطائفة الإسلامية العلوية على الدولة أن تعاملها كما تعامل بقية أتباع الملل والمذاهب في سوريا في هذا الجانب بموجب الدستور الحالي ومادته الثالثة على الأقل! فكاذب من يقول إنّ كلَّ العلويين معنيون بالانتماء إلى حزب البعث أو الحزب الشيوعي أو رابطة العمل الشيوعي أو الحزب السوري القومي … الخ, أو الانخراط في العمل السياسي بكافة أوجهه.
طبعاً, كثير من رجال الدين العلويين يتحملّون مسؤولية عدم وجود مثل هذه الكليّات, إذ نسبة كبيرة من رجال دينهم تحولوا بمرور الزمن إلى جباة ضرائب وأبواق للسلطة وأصحاب النفوذ والجاه, ولا يعنيهم مستقبل طائفتهم قدر ما يعنيهم اللهاث خلف وجاهات فارغة وزعامات عشائرية سخيفة وما شابه من مطالب نفعية ضيقة(5) .
وبما أن الشيء بالشيء يُذكر, لا بأس أن نفيد هنا, أن علويي حلب, وهم مسلمون علويون من سكّانها الأصليين غير المهجرّين من لواء اسكندرون السليب, عندما عزموا منذ نحو الثلاث سنوات على ترميم مقام مفتي حلب وفقيهها وإمامها في عهد الدولة الحمدانية وسيف دولتها, أعني السيد أبي عبد الله الحسين بن حمدان الخصيبي الكائن في ثكنة هنانو, منعهم المسؤول عن الثكنة بطريقة فظة وغير لائقة (كان المسؤول عن الثكنة من إحدى قرى جبلة في الساحل السوري) بذريعة أن تصرفّهم طائفي! مع أن عزمهم ذاك كان بدواع وطنية باعتبار أن السيد أبي عبد الله الحسين بن حمدان الخصيبي أحد رموز مدينتهم وليس بدواع مذهبية ضيقة .. ياعفو الله, دفعة واحدة اتهمهم بالطائفية لمجرد تفكيرهم ترميم ضريح من كان إمام حلب وفقيهها في عصرها الذهبي الذي لم تشهد مثيله عبر تاريخها العريق!.. المسؤول ذاته لا يجرؤ على مسائلة المسلمين الشيعة لاهتمامهم بمنطقة صغيرة في حلب تسمّى “المشهد” يقال أن فيها “نقطة” دم من رأس سيدنا الحسين بن علي (ع), باتت في السنوات القليلة الماضية مزاراً للإيرانيين! ولا يجرؤ على مساءلة المسلمين الإسماعليين ولا الموحدين الدروز ولا أي فئة مسيحية.. الخ, وإنه لأمر يدعو للغرابة هو استسهال الجميع وفي مقدمتهم أجهزة النظام استيطاء حائط الطائفة الإسلامية العلوية وأبنائها! وأخشى أن يكون الكثير من مشايخ المسلمين العلويين سعداء بهذا الاستيطاء.ثمة قول كثير في هذا الجانب لكن أكتفي بهذا القدر باعتبار أن الظرف لا يتحمّل المزيد؛ وإن كنتُ أؤمن أنّك لن تجد أذناً صاغية, لكن ينبغي أن نذكّر من يعنيهم الأمر أن الرئيس بشار الأسد أجاب في إحدى حواراته الصحفية السابقة لحمام الدم السوري بقليل عن سؤال مفاده: “كيف اتفق نظامه العلماني مع نظام إيران الديني ؟” أجاب حينها بما معناه أن العلاقات السياسية بين الدول تبنى على المصالح.. وهذا حق, لكن السؤال أين كانت مصلحة سوريا في ما ذكرناه في مجمل ما كتبناه أعلاه -ناهيك عما نعرفه ونترفع عن ذكره- نعرفه وتتفق غالبيتنا عليه؟
وأختم هذا الجزء بسؤال: أليس بوسع الجمهورية الإسلامية الإيرانية الحفاظ على مصالحها في المياه الدافئة دون العمل الحثيث على حملات التبشير المذهبي التي أدت إلى احتقان تقاطع مع مشروع شرق أوسطي جديد؟ وأياً, يكن ذلك المولود الشرق الأوسطي الجديد, بيد أنّ الحقيقة المؤكدة أنّه يولد من دماء السوريين, وفي مقدمتهم الطائفة الإسلامية العلويّة التي ما تزال مكسر عصا من قبل الجميع!
الهوامش:
1-هل هي مصادفة أن تكون بموازاة المظاهرات الأولى التي خرجت في درعا بداية الأزمة هاتفة: “واحد واحد واحد.. الشعب السوري واحد” مظاهرات أخرى موازية لها في الفترة نفسها تُندد بحزب الله وإيران؟!
2-يمكن رصد أصداء النشاط الإيراني الذي عنيناه في المناظرة التي جرت بين الشيخ يوسف القرضاوي وبين رئيس تشخيص مصلحة النظام الإيراني هاشمي رفسنجاني في شباط 2007 عبر فضائية الجزيرة. بالرغم من أن تلك المناظرة التي أتت لاحتواء انفجار سُنّي- شيعي متوقع, كانت باهتة, لكن بدا فيها القرضاوي أكثر جدية من رفسنجاني الذي كان يتحاشى الإجابة على معظم الأسئلة الجدية متذرعاً بإسرائيل! يمكن للمهتم العودة إليها من خلال محرك البحث غوغل.
3-حدّثني أحد كبار رجال الدين المسلمين العلويين في اللاذقية أنّه قال للسفير الإيراني في دمشق عام 2009م إنّ مساعيهم واستفزازاتهم تسعى إلى خلق فتنة في المنطقة (يقصد اللاذقية), وأشهد أنّ هذا الرأي وصل إلى قيادات عليا في سوريا.
أستطيع سرد عشرات الحوادث التي كان يعمد فيها مشايخ مسلمون شيعة قادمون من إيران والعراق إلى اللاذقية (في إطار حملات التبشير المذهبي) لاستفزاز مشاعر المسلمين العلويين بطريقة فظة ومنفرة, وشخصياً لي تفسيري الخاص حول تلك الفظاظة أذكره في غير مكان.
غني عن البيان أن رجال الدين المسلمين الشيعة في سوريا, لهم حضورهم وكلمتهم مطاعة لدى أجهزة النظام, مثلاً القائم على أمر مجمع الرسول الأعظم في اللاذقية أكثر أهمية من جميع مسؤولي تلك المحافظة مع أنّه متهم بالسعي إلى إذكاء نار الفتنة, في حين إذا أراد رجل الدين المسلم العلوي الظهور في وسائل الإعلام “الوطنية” سرعان ما يتهرّب ذلك الإعلام منه “تحاشياً” لاتهامه بالمذهبية, طبعاً أقل ما يمكن أن يقال في إعلام “صح النوم” إنّه إعلام تغلب عليه التفاهة!
4- المنتجب العاني, من أعلام القرن الرابع الهجري, كان معاصراً للأمير علي بن بدران أمير حلب أحد ورثة الدولة الحمدانية, وثمة قصة رائعة جرت بين الاثنين تستحق أن تكون مسلسلاً تلفزيونياً أو عملاً روائياً, لا يتسع المجال لذكرها, وقل الأمر ذاته في “تغريبة الشيخ علي الصويري” . نفيد هنا إن مقام علي بن بدران موجود في بلدة الرميلان على مقربة من القامشلي, وكان الشيخ حسين سعود (أحد رموز المسلمين العلويين في القرن الماضي) قام على نفقته الخاصة ببناء قبة فوق الضريح مطلع عام 2000, مع التأكيد إن اهتمام الشيخ سعود بالضريح المذكور تم من دون أي استفزاز للسكّان الأصليين للمنطقة, وهم بطبيعة الحال من صان ضريح الأمير ابن بدران مئات السنين.
5-تلمس بعض الجوانب السلبية لغياب تلك الكليّات والمعاهد الخاصة بالطائفة الإسلامية العلويّة والمفترض أن تُعنى بتدريس الشريعة ونشر الفضيلة والأخلاق مُخرّجة رجال دين متنورين ومثقفين يفهمون الشريعة ويُرغبون بالطريقة, أسوة بغيرهم من أتباع الملل الأخرى, نقول إنّ بعض الجوانب السلبية لذلك الغياب المتعمّد والقهري هي أن امتلأت الطائفة –مع الأسف- بشيوخ جهلة بعضهم يعمل ليل نهار لتكريس العشائرية والكراهية انطلاقاً من سياسة “فرّق تسد”, لا بل إنّ بعض من أعني من جهلة لا يحرّم سرقة أموال الدولة(ومع ذلك تراه زعيماً بارزاً بالمعنى العشائري!), وبعضهم دجّال ينسب لنفسه كرامات ويفتن الناس بعضها ببعض, واللافت أنّ أمثال هؤلاء الشيوخ الجهلة والمخربين لهم شعبيّات واسعة ويزورهم أطباء وقضاة ومحامون وضباط كبار.. الخ!
والمؤكد أن الضغط الذي مارسه ويمارسه النظام طوال عقود على الطائفة الإسلاميّة العلويّة من خلال منعها من نيل استحقاقاتها المغتصبة, بذريعة أنّه لا يريد أن يقدم صورة للآخرين أنّه نظام طائفيّ, كانت نتائجه عكسية, بمعنى أنّ الشكوك لدّى متهمينه بالطائفيّة تعززت وتكرّست من خلال تقديمه صورة أنّه يهيمن على الطائفة! ولعمري إنّك هنا لا تستطيع لوم من أساء الظن بك.
أضيف هنا: إن عدم وجود كليّات خاصة بالطائفة الإسلامية العلويّة يُشرف عليها المجلس الإسلامي العلوي في سوريا والمهجر تحت رعاية وزارة الأوقاف السوريّة.. كليّات تخرّج رجال دين متنورين, كانت إحدى نتائجه أن باتت الطائفة الإسلامية العلويّة “مكسر عصا” من قبل الجميع مع الأسف, حتى في نظر رجالات نكنّ لهم عميق الاحترام كالشيخ الفاضل ماهر حمود إمام جامع القدس في صيدا, والمفكّر العربي الإسلامي يحيى أبو زكريا, وأرجو أن أكون مخطئاً.
إيضاحات وإضاءات أخرى وقول في أحقاد المعارضة السوريّةانشغلت إيران بعد نجاح ثورتها الإسلامية في تقوية نفسها وتطوير إمكاناتها العلمية حتى باتت دولة إقليمية عظمى على الصعد العسكرية والتكنولوجية والاقتصادية وتكاد تدخل النادي النووي, وانتقلت من دور وضيع في عهد الشاه رضا بهلوي يقتصر على مجرد شرطي أمريكا في الخليج إلى دولة مهابة الجانب بعد الثورة.
قبالة انشغال إيران في عهد ثورتها بتطوير ذاتها, ظلت مشيخات الخليج الوهابي منشغلة بملذاتها الدنيوية, وقد اُختصرت تلك المفارقة بأن أطلق بعض الظرفاء على إيران دولة نووية فيما أطلقوا على المشيخات الوهابية بالدول المنوية. نعم, ففي الوقت الذي كانت إيران تخلق ذاتها, كان أمراء الخليج الوهابي مازالوا –كعادتهم- مشغولين بنهدي هيفاء وهبي ومؤخرة نانسي عجرم والنسخ الشبيهة لهن من قبلُ ومن بعدُ, وكانوا يغدقون ملايين الدولارات ومازالوا على إعلام “هشك بشك”.
بكلمة أخرى, باتت إيران بعد الثورة دولة ناهضة بقواها الذاتية, وقد زاد الحصار الغربي المزمن عليها من قوتها ومنعتها, وتسارعت خطوات تطورها بالاعتماد على كفاءات شعبها ومقدراتها التي سخرتها لهذا النهوض, وعقب سقوط العراق نيسان 2003 ووجود فراغ في المنطقة كان بوسع إيران الناهضة ملؤه على نقيض مشيخات النفط الوهابي الذي ساءها الدور الإيراني, فما كان من تلك المشيخات سوى إرسال فرق الموت الممثلة بأبي مصعب الزرقاوي وعصاباته وما شابهها (للأمانة: فرق الموت تلك لم تكن حكرا على المتطرفين من السُنّة بل شاركهم فيها بعض متطرفي الشيعة الذين لم يعجز خيالهم عن اختراع مواز لجبهة النصرة في العراق).
الفائض الإيراني الذي تجسّد في اندفاعة الجمهورية الإسلامية الإيرانية لملئ الفراغ بعد سقوط بغداد وهي اندفاعة(إن جاز التعبير) أقلقت مشيخات الخليج التي خافت على “أمنها” القومي (عودوا بالذاكرة إلى بدايات الحديث عن هلال شيعي), وهو خوف ازداد مع تزايد الارتباط العضوي بين إيران وسوريا مع التأكيد أن القرار الداخلي السوري اهتزّ لصالح طهران, وأعتقد أني كنت قد استفضت في الحديث عن هذا الجانب في القسم الأول من هذا البوح, فكان لا بد لتلك المشيخات أن تتجه نحو الشحن المذهبي الذي تجيده وخصصت له إمبراطوريات إعلامية عملت عليها طوال سنوات. وغني عن البيان أن هذا كله تقاطع مع مطامع الغرب ومشروعه التآمري على المنطقة وفي مقدمتها سوريا.
كانت سوريا تُتهم بارتمائها في الحضن الفارسي على حساب “المصالح” العربية, والمقصود بالمصالح هنا إن الوجود الإيراني يشكل تهديداً للمشيخات الوهابية (ولدور مصر عربياً قبل رحيل مبارك ببضع سنوات) وفق رؤية تلك المشيخات, فكان لا بدّ لسوريا من قرع باب الجار التركي كي تخفف عن نفسها تهمة المذهبية من خلال علاقتها المميزة مع طهران؛ وثمة سبب آخر لطرق باب اسطنبول كائن في تخفيف وطأة الحصار الغربي الجائر عن سوريا عقب مقتل رفيق الحريري رئيس وزراء لبنان الأسبق في شباط 2005, فكانت تركيا بوابة سوريا إلى أوربا, ولن يطل الزمن حتى تندلع الأزمة في سوريا التي “يكتشف” إعلامها فجأة كالعادة إن تلك العلاقات مع تركيا أضرت بالاقتصاد السوري وكانت على حسابه وهي أحد أسباب الأزمة.. طبعاً إعلام “صح النوم” ليس بمقدوره اكتشاف أي شيء حتى لحظة كتابة هذه السطور وبعدها, إلا بعد فوات الأوان باعتباره إعلاماً مرتبط عضوياً بالنظام السياسي السوري ولا أستثني “المستقل” منه, بدليل إن مثل هذه المكاشفة من المحال أن ترى طريقها للنور في ذلك الإعلام بمختلف مشتقاته المرئية والمسموعة والمقروءة (خذ مثالاً عن هذا الإعلام: أرسل المجلس الإسلامي العلوي في سوريا والمهجر برقية تعزية باستشهاد الإعلامية يارا عباس فرفض مدير “الاخبارية” السورية نشرها متذرعاً أن لها “صبغة” طائفية!, و”شام أف أم” المستقلة لا تختلف عن الإخبارية في هذا المنحى, علماً أنهم لا يتحسسون من ذكر كلمة مسيحي أو سني أو شيعي ودرزي واسماعيلي في إعلامهم!).
قول في المعارضة السورية
لا نكون هتكنا سراً حال قلنا إنّ المعارضة السورية الخارجية ومعظم الداخلية ليست أسيرة أحقادها فقط, بل هي مرتهنة للخارج.. الخارج الأمريكي والأوربي والخليجي الوهابي والتركي وبعضها الإسرائيلي.. بمعنى أن قرارها ليس بيدها, وهي ساهمت مساهمة فعّالة ومبكرة في سفك دم الشعب السوري الذي تتهم النظام به وتحمله كاذبة وحده وزر هذا الدم.
وبمعزل عمن يتحمّل وزر الدم السوري, وبمنأى عن كون المعارضة السورية الخارجية وبعض الداخلية مغلولة القرار وهي معارضة للإيجار, نقول بمعزل عن كل هذا, إذا ما كانت هي صادقة فعلاً في حرصها على ما تبقى من دم السوريين, فلتأتي إلى مؤتمر جيف2 ولتطرح ما تشاء بما في ذلك مخاوفها من إيران وحزب الله, أليس ذلك أفضل من بقاء صنبور الدم مفتوحاً على مسرح العبث؟ .
أسجّل هنا إن هذه المعارضة المنساقة خلف أحقادها, تكرر أخطاء السبعينات والثمانينات, لكن بشكل مضخم لا بل غير مسبوق بضخامته.. أخطاء السبعينات, عندما ترك جمال الأتاسي الجبهة كونه كان يعيش وهماً, مع أنّ كان بمقدوره أن يفعل الكثير وهو في الجبهة لصالح سوريا الوطن شعباً وسياسة..
فداحة خطأ المعارضة المأجورة اليوم, هو كائن في رفضها للحوار منذ البدايات, وقد كانت مطالب محقة كثيرة للسوريين ستتحقق فيما لو قبلوا الحوار وهذا ما صرّح به كثيرون في المعارضة كهيثم مناع ومن حلفاء النظام كحزب الله بلسان أمينه العام في خطاب 25 أيار الجاري, لكنهم عاشوا وهماً آخر (عزز منه عمالتهم المزمنة للغرب وللأنظمة “الديمقراطية” لدى الوهابيين في مشيخات الخليج) مفاده إن النظام السوري أسابيع قليلة ويسقط, وقد أوهمهم الكثير من مثقفيهم الدببة والبهايم –في الأشهر الأولى للأزمة- كميشيل كيلو إن إيران وحزب الله بدءا يتخليان عن النظام, والدبّ ذاته (أعني كيلو) انساق مع أحقاده ليوهم المعارضة بالمزيد المتمثل أن روسيا ليس بمقدورها الصمود أمام أمريكا.. الخ, والبقية معروفة.
أختم لأقول: إن الأحقاد لا تبني سياسة بل تدمر أوطان.. والحقد –كما قال عبد الكريم زهور لأكرم الحوراني: “الحقد موجّه خاطئ في السياسة يا أكرم”.