ليس عابراً الاستعراض الاحتفالي اليومي لاغتيال العقل في سوريا. لم يعد الأمر مجرد نسق سلطوي استنسخته أطياف واسعة من المعارضة نتيجة تطبّعها مع سلوك النظام أو استيرادها نماذج فكرية موتورة من الخارج. لقد تجاوز الأمر ذلك بأن أضيفت إليه طقوس تشبه نعي فاقد الإدراك لحظة الجنون لفقيده. وما الفقيد في هذه الحال إلا السلوك العاقل، بحده الأدنى، وفق ما استقر عليه الاجتماع البشري على مراحل. لو كان ميشيل فوكو حياً، لربما هاله المشهد برمته. ومن يدري، فلربما أضاف إلى كتابه حول «الجنون والحضارة» فصلاً جديداً، يبرز فيه المدى الذي بلغه تحلل الفواصل بين سوية العقل واختلاله، فضلاً عن فهم المجتمعات المعنية بالشأن السوري لهذا التحلل، سواء داخل بلاد الشام أم خارجها. والتداخل المذكور بين الفعل العاقل ونقيضه في سوريا بات يأخذ أشكالاً مختلفة. فهو، كما في معظم حالات اللامنطق، تمظهر على شكل مساحة تراجيدية واسعة، تخللتها محطات تبدو أقرب إلى الكوميديا السوداء التي تفيد في مضاعفة حال الهذيان، أو في إعادة تعريف معناه على مستوى الفرد القاتل والجماعات المتناحرة على حد سواء.
قبل أيام، قررت جهات سورية مسؤولة استضافة فتى مصري كان قد تمكن في زمن قياسي من التحول إلى أيقونة للتندر والسخرية في بلاده على أقل تقدير. «أحمد سبايدر»، أو الظاهرة المسفة لكل عاقل تجاوز المراهقة أو يكاد، ظهر على شاشة التلفزيون السوري والتقط صوراً مع وزير الإعلام وحاضر في كلية الحقوق في جامعة دمشق. قُدم الفتى المعجزة بفانلته البراقة بصفته محللاً سياسياً. وحُلل الأمر (أي جُعل حلالاً) لمجرد أن طفل الانبعاث أو Renaissance وقف إلى جانب «البعث» و«حماة الديار». ليس غريباً، قد يقول قائل، هذا السلوك، لا على الإعلام الرسمي ولا على القيمين عليه، إنما العجب في استغرابه كما الحال في هذا المقال. والقول هذا يصح لولا أن رصد السلوك بصورته الاحتفالية هذه يفيد في تقديم زاوية للمسألة السورية تبرز الكثير من مظاهر العبث الفاقع، الآخذة بالتمأسس على مستويي الوعي والسلوك. وهي مظاهر بدأت تسود مساحة الحدث بكليته، سواء في الإعلام الفضائي ورديفه الافتراضي أو في الميدان. ولا يفهم في هذا المجال إن كانت السلطة في سوريا تتقصد، من خلال اعتمادها هذا الأسلوب، الاستمرار في إبقاء العقل ضامراً لتبقى كلمة الأمن هي العليا، أم أن القضية تتصل برغبتها بتسخيف الحدث السوري برمته بقصد تسهيل ابتلاعه. ولا يعود سهل الجزم هنا بمدى وعي أجهزتها بهذا السلوك من عدمه، على اعتبار أن موروثها لهذه الناحية بنيوي صعب الفكاك عنه أصلاً، وهو ميكانيكي أكثر منه فعل إدراك واعٍ. لكن الأسباب، حتى لو تنوعت، لا تنفي وحدة النتيجة. فالسلطة، في أردأ أدوارها، تحتاج إلى فتى عنكبوت وأكثر لينسج على منوالها، بما يعينها على اغتيال العقل يومياً وعلى اجتراح مساحة أوسع للعبث.
وفي مقابل «الفكاهة» البائسة هذه، يبرز الميدان بكل دمويته انعكاساً تراجيدياً لغياب العقل. آكل لحوم البشر، أو «كانيبال»، شكل ذروة جديدة في مسار الجنون الراهن في الشريط الذي يأكل فيه جثة جندي نظامي. وقد ظهر نمط من التبرير لدى أطيافٍ معارضة ولو على استحياء، يشبه ذاك الخاص بالسلطة حيال جرائم موصوفة، فعَد العمل جزءاً من التسلسل السببي بين الفعل وردة الفعل. وأغفل هذا النمط أن الدائرة السببية باتت، بعد مرور عامين، مفرغة لا مجال لكسرها ولا للحكم عليها وفق معايير واضحة. علماً أن الرجل في مقابلته مع «التايم» قدم رواية برر من خلالها حال الجنون الذي وصل إليه. وهي رواية قد تفهم من زاوية نفسية (مرضية) إذا ما فندت علمياً. فهو، كما قال، لم يقدر على استيعاب أن الجندي القتيل يحمل هاتفاً جوالاً يحوي مشاهد تعدٍ واغتصاب سجلت أثناء واحدة من «غزواته». وسواء صح هذا الكلام أم كان محض خيال لتسويق التبرير، فالنتيجة برزت واحدة: «كانيبال» مصرٌّ على قتل «الأغيار» فرداً فرداً. قالها من دون مواربة. وبدا أكثر إصراراً على أكل أكبدتهم. وقوله هذا، رغم تطرفه المسرحي، بدا أكثر تعبيراً عن كبد الحقيقة من أي شيء آخر. فالحقيقة، عارية تماماً، تفيد بسيادة جموح آخذ بالتمدد. والجموح بات يقدم بشكل احتفالي للجمهور، الخصم منه والمؤيد، وبتزايد مطرد. لم يعد إخفاء الدليل على فظاعة ما مقصداً. صحيح أن الأمر لم يكن كذلك على مدى السنتين المنصرمتين، لكن التطبع مع الطقوس المصاحبة للفعل الغريزي واعتيادها أصبح أكثر جلاء. ولم تعد تنفع محاولات المجتهدين إغفال الأمر أو التستر عليه. حصل هذا في أعقاب مجزرة بانياس. التشفي الذي أُفرغ على صفحات الفضاء الافتراضي كان مرعباً. والمفارقة أنه جاء مشابهاً لما أفرزته أوساط معارضة إثر القصف الإسرائيلي لجبل قاسيون. سبقت ذلك محطات بالغة الرمزية والدلالة أيضاً. جز رؤوس الموالين للنظام كان واحداً من طقوس الغريزة المتفلتة. إلقاء البراميل المتفجرة فوق مجاميع معارضة وتوثيق الفعل أثناء القيام به شكل طقساً آخر.
ليس الاستعراض الاحتفالي بطقوس مماثلة أمراً جديداً بأي حال من الأحوال. ولا حاجة للعودة بالذاكرة بعيداً ولا لتعديل كبير في مكان التقصي للتثبت من ذلك. فالتجربتان العراقية واللبنانية ماثلتان في الأذهان. غير أن ما يميز الحالة السورية استنفادها أدوات توثيق ووسائل إعلام وتواصل لم تكن متوافرة في حقب سابقة. التعقل ونقيضه اليوم، يعاد تعريفهما ويعيدان تعريف المجتمع المحيط بسرعة قياسية. ثمة سيولة هائلة تتيح هدم الحواجز وإعادة بنائها بين المنطق واللامنطق، بشكل شبه يومي، ولو أن الأمور دائماً ما تعود لتستقر على الفهم الشائع للنقيضين كلما هدأت الأحوال نسبياً. «الجنون والحضارة» اليوم يعرَفان في حروب الفضاءات الافتراضية والمرئية. ينهلان من التعاطي الرسمي السوري معناهما ويضيفان إليه من عشوائية القوى المتقاتلة على الأرض وعبثيتها. الفصل بين التعقل ونقيضه في المسألة السورية أزمة فعل يومي بمثل ما هي أزمة تعقيب على الفعل ومحاولاتِ فهم الحلقات المتحكمة بمساره. وإن كان الهذيان أصبح جزءاً من دورة الإقناع والتبرير بل وتثبيت قواعد لعبة الدم وتسويغها، فثمة ما يرجح أن القضية السورية جذابة لمزيد من الجنون لمجرد دوامها من دون أفق. وثمة ما يشي بأن مقبل الأيام يحمل تلاعباً أكبر بحدود العقل، وإعادة تعريف أوسع لهذه الحدود، وتقبلاً أكبر لما تحمله إعادة التعريف هذه.