دولة مدنية تحمي حقوق المواطنين لا دولة دينية ترعى مصالح المؤمنين

ثمة أحاديث كثيرة وجدل واسع اليوم عن إقامة دولة دينية تحت مسمى الدولة الإسلامية. هذا الكلام أبسط ما يقال فيه أنه كلام حق يراد به باطل، فهو ينم عن جهل كبير بقيم الإسلام ومقاصده ، وبتاريخ الشعوب الإسلامية والدول التي أسستها أجيال المسلمين بدءا بدولة المدينة التي أقامها رسول الله الكريم. فالدول التاريخية المتتابعة التي ولدتها الحضارة الإسلامية لم تكن دولا دينية بل مدنية استبطنت قيم الإسلام ولكنها تفاعلت مع مكوناتها الإنسانية واستفادت من مساهمات أفرادها على اختلاف مشاربهم الدينية والطائفية والقومية، ولم تسع لفرض مذهب ديني أو سياسي أو كلامي.

الذين يتحدثون اليوم عن إقامة دولة إسلامية تفرض الأحكام الفقيهة التفصيلية على المجتمع يسعون إلى إقامة دولة دينية ذات آفاق ضيقة لا دولة تحترم مبادئ الإسلام ومقاصد الشريعة. الدولة التي أقامها الرعيل الأول من المسلمين تحت أنظار رسول الله وسمعه، صلوات الله وسلامه عليه، لم تكون دولة دينية بل كانت دولة مدنية بامتياز.. دولة المدينة المنورة. صحيفة المدينة التي شكلت الميثاق السياسي لسكان يثرب حددت مبادئ النظام السياسي الجديد الذي حكم مدينة الأنوار أولا قبل أن يتحول إلى نموذج تاريخي أسس لمجتمع تعددي يحترم حقوق الناس في العيش وفق الرسالة السماوية التي آمنوا بها. فقد أكدت صحيفة المدينة مبدأ حق المشاركة السياسية لجميع مكونات المدينة من مهاجرين وأنصار، ومن مسلمين ويهود، فشددت على أن من التزم ميثاق المدينة “من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصرين عليهم.” وأكدت على حق اليهود في ممارسة دينهم دون خوف، حالهم في ذلك حال المسلمين ولتعلن أن “لليهود دينهم وللمسلمين دينهم”.

على من يتحدث اليوم عن إقامة نظام سياسي إسلامي أن يدرك بأن الدولة في نموذج الأنوار المدني الذي كرسته صحيفة المدينة لا يمكن أن يقام وفق شعارات ومظاهر ومسميات تاريخية، بل من خلال قيم الإسلام ومبادئه وتصوراته، وهي كلها تصورات تسعى إلى تحقيق عزة الإنسان والدفاع عن كرامته وحفظ حقوقه. ولقد كرست، أنا كاتب هذه السطور، خلال العقدين الماضيين الكثير من الوقت والجهد لبحث العلاقة بين السياسية والإسلام وألفت العديد من الكتب لعل أبرزها كتاب “العقيدة والسياسة” الذي صدر في 1998 وتابعت في بحثي هذا محددات الدولة في الإسلام وفق نصوص الكتاب والخبرة التاريخية للمسلمين. كما أتبعت ذلك الكتاب بكتاب آخر تحت عنوان “الحرية والمواطنة والإسلام السياسي” صدر قبل شهرين. وانتهيت في أبحاثي إلى أن الرؤية القرآنية والنموذج الرسالي والخبرة التاريخية تؤكد جميعا الطبيعة المدنية للدولة باعتبارها حاضنة لكل مكونات المجتمع الدينية والقومية، ومنافحة عن حقوق مواطنيها على اختلاف مشاربهم. وانتهت دراساتي إلى أن مدار الدولة في الرؤية الإسلامية تحقيق المصلحة العامة وحماية الحقوق وإقامة العدل واحترام التعدد الديني والقومي لجميع أفرادها. ويبقى دور المؤمنين بقيم الإسلام التعاون مع أصحاب الإرادات الخيرة والقيم السامية والسعي لنشر الرحمة والقسط بين الناس، كل الناس، وتطوير المؤسسات العامة التي تحفظ مصالح الناس وحقوقهم.

تاريخ الإسلام ملئ بأمثلة سامقة لعلماء أجلاء بينوا أن شريعة الإسلام لا يمكن أن تفهم على مستوى الحياة العامة إلا من خلال مقاصدها وأغراضها التي تسعى إلى خير الإنسان ورفعته. فابن قيم الجوزي الذي انتمى تاريخيا إلى المدرسة الحنبلية، وهي أكثر المدارس التصاقا بنصوص الشريعة، يقولها واضحة صريحة في الفصل الأول من كتابه “الطرق الحكمية” فيعلن أن السياسة التي تحقق الشرعية هي التي تقوم على مبادئ العدل ولو لم ينص عليها كتاب منزل أو رسول مرسل: “«فإن الله سبحانه أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي قامت به الأرض والسموات. فإن ظهرت أمارات العدل وأسفر وجهه بأي طريق كان فثم شرع الله ودينه. والله سبحانه أعلم وأحكم وأعدل أن يخص طرق العدل وأماراته وأعلامه بشئ ثم ينفي ما هو أظهر منها وأقوى دلالة وأبين أمارة فلا يجعله منها ولا يحكم ، وجودها وقيامها بموجبها…” ويتابع ابن قيم الجوزية بعد أن بين أن العدل هو مدار التشريع وهو مقدم على الاحكام “الشرعية” التي لا تحققه فيقول: “بل قد بين سبحانه بما شرعه من الطرق أن مقصوده العدل بين عباده وقيام الناس بالقسط، فأي طريق استخرج بها العدل والقسط فهي من الدين ليست مخالفة له.»

رسالة الإسلام هي رسالة مكملة للرسالات السماوية التي سبقتها ومجددة لقيم العدل والقسط التي ارسل الله الرسل لإقامتها وتأسيس مجتمع التسامح والتراحم والتعاضد بين الناس. رسالة الإسلام هي التي لخصها القرآن الكريم عندما حدد أهداف المهمة التاريخية التي حملها رسوله الكريم، رسول الرحمة الذي وصفه القرآن فقال “وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين”. وكما أن رحمة الرسول موجهة إلى العالمين وليست مقصورة على المؤمنين، فكذلك الدولة التي يقيمها من يؤمن بتلك الرسالة موجهة بقيمها للناس جميعا لا للمؤمنين أو من ادعى الإيمان ولبس لبوسه.

من يسعى أن تكون دول الربيع العربي رحمة للمسلمين من دون الناس فهو لم يدرك جوهر الرسالة الإسلامية وغاياتها، بل هو يريد أن يوظف تلك الرسالة العلوية لتحقيق مصالح آنية ضيقة له ولمن لف لفه باسم الدين، أو لمن تحرك تحت راية مذهبية أو طائفية أو مليّة ضيقة.

الشرعية السياسية تتحقق من خلال تطبيق المبادئ الكلية التي استحضرتها صحيفة المدينة لا من خلال تطبيق الأحكام الفقهية الخاصة بأتباع الدين الإسلامي. ميثاق المدينة الذي حكم حياة الرسول الكريم وصحبه الميامين لم يتطرق إلى تطبيق الاحكام الإسلامية بالصورة الضيقة التي يدعو إليها بعض المتدينين اليوم ويريد من خلالها تحويل النظام السياسي إلى نظام استبداد ديني يصادر جوهر الدين وروح الإسلام: العدل والمساواة والتعاون والتسامح واحترام التعدد الديني والخيارات الإنسانية وحرية الأمة بعيدا عن إملاءات سلطان مطلق أو دولة مستبدة.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *