الطّائفيّة: بين حكومة (عدس) وتوريث الأسد!

في تاريخ الأمم جميعاً حروبٌ قاسيةٌ وعراكٌ وحشيُ نشب بين المختلفين دينياً أو مذهبياً أو عرقياً. ولعل الحروب الأهلية الطويلة التي جرت في أوروبا منذ قرونٍ – ليست ببعد قرون الاختلاف المذهبي في بلادنا- مثالٌ واضحٌ يعرفه كلُ من قرأ التاريخ، لكن تلك الأمم استطاعت تجاوز الأحقاد ومشاعر الكراهية عندما دخلت العصر الحديث، عصر تقديس الحريات الفردية والعامة وأشاعت بمجتمعاتها ليس فقط ثقافة الاعتراف بالآخر، وإنما أيضاً التحليل الموضوعي السياسي والاقتصادي الذي كَمُنَ خلف تلك النزاعات مما ساعد شعوبها على فهم أعمق لتلك الظاهرة، وبالتالي تجاوزها بقطيعة معرفية لا تنكر وجودها، بل تعتبرها جزءاً من التاريخ وتجاربه الحاضنةِ للتطور الإنساني.
ونحن كغيرنا من الأمم والشعوب، شَهِدَ تاريخنا خلافات دينية ركبت ظروفاً سياسية واقتصادية وربما عنصرية أيضاً، ولأنّ الأنظمة المتعاقبة على بلاد الشام بخاصةٍ كانت –غالباً- تتبنى ما يُعرَفُ تاريخياً باسم (المذهب السنيّ) تحوّل أبناءُ المذاهب الأخرى إلى أقليّات انزوتْ في مناطقَ أغلقتها على نفسها، تاركةً للفقر والجهل والعزلة أن تفعل بها ما تفعل من تراكمٍ لمشاعر المظلومية والكراهية الملفوفةِ بكثيرٍ من الأوهام والأساطير.
حاول الاستعمار الأوروبي – في بداية العصر الحديث- اختراق المجتمع العربي من خلال تلك الاختلافات وربطها سياسياً بأطماعه، ففرضت أوروبا مبكرةً على الدولة العثمانية مناطقَ نفوذٍ لها بحجة حماية المسيحيين، وأرسلتْ البعثات التعليمية والصحية والتبشيرية لتحقيق ذلك الهدف، ثم تنافستْ فيما بينها لتقاسم الطوائف، فهذه لفرنسا وتلك لإنكلترا ولم تبتعد روسيا القيصريّة عن ذلك عندما تظاهرت بحماية إحداها أيضاً.
أدركتْ طلائع عصر النهضة العربية القومية تلك المشكلة، وانتبهتْ لنتائجها الكارثية على الأمة والمجتمع، فقدّمتْ الفكر القومي كفكر جامعٍ للطوائف وبشّرتْ به شريحةُ المثقفين الجدد وشرائح متعددة من البرجوازية الصاعدة إلى أن توصلتْ في خِضّمِ نضالها من أجل استقلال سوريا إلى شعار: الدين لله والوطن للجميع.
تجاوبت طلائع تلك الطوائف بأعداد ملحوظة مع هذه الدعوة وخاض المجتمع السوري بمكوناته المختلفة معارك الاستقلال، وخُيّلَ للشعب السوري أنه انتقل من تكوينٍ مشرّذمٍ طائفياً وقبلياً إلى جزءٍ من أمة واحدة متماسكة سواءٌ أكانت عربيةً أم سورية.
شهدتْ المرحلة الأولى للاستقلال نهوضاً شعبياً ديمقراطياً على الرغم من الانقلابات العسكرية المتتابعة، وحققت أحزاب العلمانية من قومية (عربية أو سورية) وأحزاب اليسار (وأهمها الشيوعية) والأحزاب الليبرالية (الوطني والشّعب) تقدماً كبيراً في قيادة المجتمع نحو تجاوز خلافات التاريخ متطلعةً إلى مستقبلٍ ترفرف على أفراده جميعاً روح العدالة والمساواة والتقدم، وشُرّعتْ أبواب التعليم والعمل والمناصب العليا في الجيش للمواطنين بدون أي اعتبار لخلفياتهم الطائفية، وعمل جمهورٌ عريض من الطوائف على تفكيك جُدُر الغيتوات التي كانوا يحتمون خلفها، ونشطت آلة الاندماج الاجتماعي واطمأنّت سوريا إلى وحدة مجتمعها، وظنّتْ الأحزاب (السّابقة) أنها حققت هدفها في محو الطائفية، وبناء المجتمع السوري الحديث. وكان من النادر أن تسمع صوتاً طائفياً، حتى إذا وُجِدَ فإن آلاف الأصوات من طوائف المجتمع المختلفة ترد عليه وتستنكره وتفنده.
بعد ثورة الثامن من آذار 1963 والتي جاءت أساساً بالدرجة الأولى- لإعادة الوحدة السورية المصرية – قام الضباط البعثيون بتصفية الوحدويين (الناصريين)، وقد كان معظم الضباط الوحدويين من السنّة، بينما كان الضباط البعثيّون – في معظمهم- من الطوائف الأخرى، وبدأ يشيع في المجتمع مصطلح (حكومة عدس) إشارة إلى (علوي، درزي، اسماعيلي) وليس المقصود بالحكومة هنا (الوزارة)، وإنما قيادات الجيش وأجهزة الأمن، والقيادة القطرية لحزب البعث، الّذين كانوا أصحاب السلطة الحقيقية في البلاد. تطورت الأمور حتى أوائل السبعينات عندما قام الرّئيس حافظ الأسد ب(حركته التصحيحية) المشهورة وقاد سوريا منفرداً بعد أن صفّى رفاقه من الدروز (سليم حاطوم) والاسماعيليين (عبد الكريم الجندي) بل من العلويين المنافسين (كصلاح جديد ومحمد عمران).
لم تكن للرّئيس الأسد أية قاعدة شعبية أو اجتماعية يعتمد عليها عندما وصل إلى سدة الرئاسة، ومع أنه طرح الديمقراطية كمبررٍ لحركته وفتح باباً منها خلال العام الأول لحكمه حتى قَبِله المجتمع السوري والطائفة السنية تحديداً، بل رحّبتْ به مدينة حماة ¹ ترحيباً ملفتاً للنظر، فأبناء المجتمع السوري كانوا لا يزالون يتفيّؤون ظلال الشجرة القومية التي زرعتها مرحلة النضال من أجل الاستقلال وما تلاها.
كان تفكير حافظ الأسد الاستراتيجي (كما ظهر بعد حينٍ من رئاسته) تحويل سوريا إلى مَلَكية وراثية تقوم على الاستبداد المطلق، فبحثَ عن القاعدة الشعبية التي تحمي عرشه، والتي يمكن أن تقاتل من أجله حتى الموت، وبخاصةٍ أنه يعلم علم اليقين أن المجتمع السوري بما وصل إليه من تطور مدنيّ، لا يمكن أن يقبل طائعاً مشروعه للاحتفاظ الدائم بالحكم، وتمكينه من السلطة المطلقة لاغياً بذلك الأصوات الأخرى جميعها.
من هنا بدأ حافظ الأسد بحملة الرِدّة الطائفية مثيراً بمبالغةٍ وتجييش كلَّ ما في التاريخ القديم من مآسٍ مذهبيّة، عارضاً إياها بديماغوجية المستبدّين، مُغرقاً بعض أبنائها بمكرمات مناصب السلطة، لتعميق الاختلاف بينها وبين المكونات الأخرى للمجتمع. وهكذا من أجل استمراره وأبنائه في حكم سوريا، أعاد المجتمع السوري إلى العصور التاريخية المظلمة، وأخرجه من العصر الحديث بعد أن تعب أبناؤه المناضلون في الوصول إلى عتبة الحداثة.
وقفت طلائع تلك الطائفة من مثقفيها وشبابها الذين تربوا تربية نهضوية حقيقية موقفاً واضحاً ضد تلك السياسة، وتشبّثوا بمجتمعهم الموحّد، ورأوا أن تمزيقه لا يحقق تقدماً أو مصلحة لأيّة طائفة منه، وأبرزوا حالة الفقر والتخلف التي ما تزال تعمّ معظم قراهم، ووضحوا أن ما قدمه الأسد للطائفة ليس أكثر من وظائف الأمن والخدمات، ليكونوا درع سلطته وحماتها.
كان اضطهاد الأسد لهذه الطّلائع أشدّ وأقسى من أي اضطهاد لفئات المجتمع الأخرى، إذ كان اضطهاداً مُركّباً فهو باسم القانون الذي فصّله حسب طموحه وخططه، وهو اضطهاد اجتماعيّ عندما أثار جمهور طائفتهم عليهم، وهو اضطهاد الطوائف الأخرى لهم بسبب ردود الفعل على سياسته (والتي كانت من جنس الفعل).
من هنا نرى أن الأسد الأب ثم الابن من بعده، ومن حولهما من أقرباء وأتباع اضطهَدوا طائفتهم باتجاهات ثلاثة:
الأول: عندما حكموا باسمها واقعياً مختبئين خلف شعارات الوحدة القومية، فحمّلها المجتمع وزر أفعالهم ووقعت أسرى ردود الفعل العدائية.
والثاني: عندما وضعَ الطّائفة في مستنقع الجهل والثأر التاريخي الأعمى الذي كرّسَ العصور الوسطى الأوروبية، ومنع المجتمع كله من الوصول إلى العصرنة والحداثة.
والثالث: – وهو الأشد نكالاً- حين ضحّى بحياة أبنائها ليدافعوا عن عرشه المنهار.
إن التدهور السياسي والاجتماعي والثقافي لأية طائفة هو تدهور للمجتمع كله، لأنه يأتي بإطار تجهيل المجتمع، وتفقيره، وإعادته إلى غابات التخلف التاريخي، إن نظام الأسد زرع بسياسته تلك، الخوف المتبادل بين الطائفة ومجتمعها، وأسقط الحياة المشتركة، والعواطف الوطنية والقيم الوجدانيّة والأخلاقيّة، وأحيا لباس التقليد والتعصب الأعمى، وقاد بذلك مكونات البلد وإمكاناته إلى انحدار لا يُرى قاعه.
وكما أحيتْ قُبلة الفارس- في الأساطير القديمة- الأميرة المسحورة النائمة، أحيتْ قبلات الربيع العربي الأميرة السورية المنهكة بمساعدة بُنْيتها الحضارية العميقة وأصالة شعبها.
عندما عمّت المظاهرات الريف السوري، وشرائح قاع المدن وعندما شمل الحراك معظم برجوازيته الصغيرة وقسماً ملحوظاً من البرجوازية الكبيرة، والكثير من مثقفيه وفنانيه صارخين جميعاً (الشّعب السّوري واحد)، فمعنى ذلك أن مجتمع التخلف بدأ يخلع تخلفه شيئاً فشيئاً من خلال مروره بمطهر الثورة، وأنّه في عكس اتجاه ما أرادتْ له السلطة المستبدة، يضحي ويصبر على مآسيه من أجل التحول إلى طريق التقدم والحداثة.
وحده الانخراط بالحراك الثوري يستطيع أن ينتشل الطائفة والطوائف والمجتمع بكل ما فيه، من هوة الانحدار المخيفة، وحده الحراك المتجه نحو الحرية والعدالة والكرامة، نحو الديمقراطية هو الذي يحل (مشكلة الأقليات) إشكاليّة المواطنين السّوريّين المختلفين دينيّاً أو مذهبيّاً أو قوميّاً… الخ، واضعاً إياها على الطريق الصحيح، طريق القرن الواحد والعشرين.
___________

الطّائفيّة: بين حكومة (عدس) وتوريث الأسد!” comment for

  1. التشبيه مع الحالة الأوربية ممكن , الا أنه توجد فروقات كبيرة بين الشرق والغرب , وبالرغم من عنف الكنسية في القرون الوسطى الأوربية , الا أنه لم يتم اغتيال الفكر والعقل كما اغتيل الفكر والعقل في الشرق , والدليل على ذلك هو نجاح العديد من الحركات التجديدية , فهل يمكن قيام حركة تجديد دينية في الاسلام كالحركة البروستاتينية ,وقد استطاع الكثير من النهضويين والمجددين في الغرب من القيام بعملهم بالرغم من معارضتهم للكنيسة , وفي الشرق فمصير هؤلاء كان السجون والاغتيال
    كل ذلك لايعني على ان الامل مفقود في الشرق وما حصل خلال فترة قصيرة في العديد من الدول يدل على وجود طاقة تغيير كانت كامنة والآن تعصف هذه الطاقة بالتأخر والتآمر والاستبداد ..طار القذافي وطار مبارك والآن جاء دور بشار الأسد وهناك بن علي وعلي عبد الله صالح والبشير ينتظر بعض الشيء والملك عبد الله ايضا شرحهم , ولا داعي لليأس

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *