غرائبيّات الإعلام السوري

وزير الاعلام يطالب المعارضة بالظهور على التلفزيون… ولا أحد مهتم بموت الصحافيين واعتقالهم ,

قبل يومين، وفي محاولة استغرقت قرابة الساعة للوصول من ساحة السبع بحرات في العاصمة دمشق إلى أحد مناطق ريف دمشق، وهو الطريق الذي كان يستغرق قرابة 25 دقيقة سابقاً، حاولنا أنا ووالدتي قطع الوقت بالحديث مع السائق. الذي صادف أنّه من قاطني منطقة ‘نهر عيشة’، هذا ما نوّه به وهو يتحدّث عن حال الشارع الذي تسكنه الدبابات اليوم، وعن حال الحارات الخلفية لهذا الأوتوستراد الدولي.
من هنا تشجّعت وسألت السائق الذي يعمل مديراً لمدرسة ابتدائية، ومرشداً في الوحدة الإرشادية الخاصة بتطوير مناهج التعليم، وسائقاً في وقت بعد الظهر، – والكلام هنا له – سألته عن حادثة وفاة الصحفي ‘مصعب العودة الله’، وهو صحفي في القسم الرياضي لصحيفة ‘تشرين’ الحكومية، كانت المواقع المؤيدة للثورة السورية والناشطين قد تناقلوا أنّ منزله القائم في منطقة ‘نهر عيشة’ تعرّض للاقتحام وأنه أُعِدمَ رمياً بالرصاص بتاريخ 22/08/2012.
من جهته أجابني السائق الذي يخصص وقته لسماع قنوات الإعلام الرسمية أنّه يُحكى أنّ إطلاق نار كان في المنطقة وأنّ ‘مصعب’ خرج ليتفرّج، فأصيب. (بس ماحدا بيعرف مين قوصو). حاولت أن أضبط اتساع حدقتي العين، وبلعت ريقي بصعوبة، في الواقع أشعلت سيجارة وأنا في سيارة أجرة!! فكيف لشخص أن يُصدق أنّ مواطناً يقطن في منطقة تقيم بها الدبابات وتتعرّض للقصف وعمليات الكر والفر منذ قرابة الشهر، سوف يخرج ليتأكد أو يتفرّج على إطلاق نار من رشاش أو بندقية؟!!
إننا هنا لا نتحدث عن صحفي أجنبي تسلل إلى الداخل السوري، ولا نتحدث عن مواطن صحفي، بل نتحدّث عن صحفي يعمل مع طاقم الإعلام الحكومي، أو على الأقل شكلياً هو كذلك، وعليه عاودتني الذاكرة إلى الصحفي ‘شكري أبو برغل’ الذي قتل فعلاً عندما كان يحاول النظر من نافذة منزله في ‘داريا’ ليرى ما سبب الأصوات التي يسمعها وتشبه إطلاق النار، وذلك بتاريخ 2/01/2012. يومها أصدر اتحاد الصحفيين السوريين بياناً بالتعزية، ونعته الشاشات السورية، وحضر مسؤولون لتقديم العزاء اللائق وفي مقدمتهم وزير الإعلام السابق عدنان محمود.. فلماذا لم يحظ مصعب العودة الله باحتفاءٍ رسميٍ مماثل إن كان سبب وفاته مماثلا؟! هل السبب شخصي مرتبط بنشاط مصعب الإعلامي خارج إطار عمله كصحفي رياضي؟ أم أنّ الحكومة السورية بجهاتها الإعلامية غير متفرّغة حالياً للاهتمام بمثل هذه التفاصيل؟
الأمر الذي أعادني إلى مفارقة التعاطي مع حادثة وفاة الصحفية اليابانية ‘ميكا ياماموتو’ ما بين الجهات السورية الرسمية وما بين الناشطين السوريين. كانت ‘ميكا ياماموتو’ البالغة من العمر 45 عاماً تعمل مراسلة حربية لوكالة ‘جابان برس’ في طوكيو. قتلت بطلق ناري اثناء تغطيتها للأحداث في حلب بتاريخ 20/08/2012، حيث كانت تتحرّك برفقة عناصر من الجيش الحر، وتمّت إصابتها أثناء الاشتباك بين القوات الحكومية والجيش الحر.
في الوقت الذي رسم لها بعض الناشطين صوراً تناقلتها مختلف صفحات الموقع الاجتماعي ‘الفيس بوك’، وخصّص لها ناشطو صفحة ‘طوابع الثورة السورية’ طابعاً خاصاً باسمها الذي نقشوه باللغتين العربية واليابانية، وحمل الرقم 387.، كذلك تناقل الناشطون آخر تقرير أعدّته من حلب، وكتب آخرون بثلاث لغات هي العربية واليابانية والإنكليزية الكلمات التالية:
(بالعربية: في 20 آب 2012 توفيت الصحفية ميكا ياماموتو في مدينة حلب شمال سوريا أثناء تغطيتها لاشتباكات مسلحة. قام جيش النظام باستهداف الصحفية اليابانية وعدد من الصحفيين الأجانب عمداً. ناضلت الصحفية من أجل السوريين وضحت بحياتها في سبيل إيصال ما يحصل في سوريا للعالم. اليوم الجالية السورية تلقت الخبر بالكثير من الألم والحزن، وهي وباسم الشعب السوري تتقدم بأحر التعازي لعائلة وأصدقاء الصحفية وكذلك للصحفيين الأحرار ممثلين ب (جابان بريس)’.
في مقابل كل هذا النشاط العفوي من ناشطين سوريين، قال نائب وزير الخارجية السوري فيصل المقداد للصحافيين تعليقاً على مقتل ‘ياماموتو’: (نعبّر عن أسفنا لموت اي انسان، لكن أن يدخلوا ‘البلاد’ بشكل غير مشروع ويحمّلوا الحكومة الــسورية مســؤولية ذلك، فهذا عملياً عمى ومواقف غير مسـؤولة). واضاف المقداد: (نحن ننقل للحكومة اليابانية ولأهل الصحافية تعازينا. لكن عندما يتصرف الصحافي بطريقة غير مسؤولة فعليه أن يتوقع مواجهة كل هذه الاحتمالات الصعبة)، والكلام للسيد المقداد بحسب ما نشرته صحيفة ‘السفير’ اللبنانية في عددها الصادر بتاريخ 24/08/2012 برقم (12265).
نحن لا نتحدّث عن المواطنين الصحفيين الذين قتلوا خلال هذه الأيام العشر من شهر آب، حيث يُفضّل الكثيرون، وخاصة في الغرب، التشكيك في الصور والأخبار التي ينقلونها، نظراً إلى عدم مهنيتهم، وانحيازهم المُسبق إلى أحد طرفي الصراع، وعدم حصولهم على الخبرة الكافية. نحن هنا نتحدّث عن صحفيين مهنيين، دفعوا حياتهم ثمناً لمحاولة نقل حقيقة ما يجري، والعالم يكتفي بمقولات تساؤل حول الرواية التي يُفضّل أن يصدقها لما جرى وأدى إلى مقتل هذا الصحفي أو ذاك!!!
أحدث البشائر التي هلّت علينا من جانب الإعلام السوري، الذي أثبت انّه متفرّغ لمتابعة القضايا الإعلامية، ولكن على ما يبدو أنه لا يريد أن يتحدّث بشأن مقتل الصحفي ‘مصعب العودة الله’، هو ما نشره موقع ‘شام برس’ المُقرّب من الخطاب الإعلامي الرسمي حول دعوة وزير الإعلام السوري عمران الزعبي لشخصيّات المعارضة السورية الى الظهور على الشاشة السورية، مؤكداً بأنّ الحظر المفروض في العهد السابق بشأن من يظهر على الشاشة قد أُلغي. هذا بحسب اللقاء الذي أجراه السيد الزعبي مع صحيفة ‘الاندبندنت’ البريطانية، حيث قال: ‘أوجّه دعوة مفتوحة للمعارضة السورية للظهور على الشاشة السورية، وكانت هناك بعض العقليات التي أصبحت معتادة جداً على القواعد القديمة، واستغرق الأمر بعض الوقت لدفعها نحو المزيد من الانفتاح والحرية’.
مُضيفاً: ‘أنا واحد من المؤمنين بالحرية والانفتاح.. ولا يمكن إخفاء أي شيء ولا يوجد أي مبرر لذلك، فقد اعتاد الناس على الوقائع الحقيقية الآن، وصار كل شيء يتعلق بعكس ما يحدث في الشارع على الشاشة، ولديهم في الوقت الحاضر الكثير من الخيارات على القنوات التلفزيونية’.
هنا لا بُد وأن يشعر المرء بصفعة على وجهه، ففي الوقت الذي قتل فيه صحفي يعمل في مؤسسة حكومية، وتمّ شبه غض النظر عن هذه الواقعة، وفي الوقت الذي قتلت فيه صحفية أجنبية، وفي الوقت الذي لا يزال أربعة من شباب ‘المركز السوري للإعلام وحرية التعبير’ قيد الاختفاء القسريّ منذ ما يزيد عن مئتي يوم، وهم هاني الزيتاني، وعبد الرحمن حمادة، والمدوّن حسين غرير، ومنصور العمري، بالإضافة إلى رئيس المركز السيد مازن درويش الذي أفاد رد المخابرات الجويّة لطلب القضاء العسكري إحضار السيد درويش للشهادة في الدعوى المرفوعة بحق سبعة عاملين في المركز وزائرة بأنّه: (يتم تحضيره من اجل تحويله إلى محكمة ميدانية عسكرية) وهي محكمة جلساتها سريّة، لا يحق فيها للمتهم بمحامٍ للدفاع عنه، أحكامها فوريّة التنفيذ، قطعيّة، تصل إلى الإعدام، وفي الوقت الذي ترددّت فيه انباء عن أنّ الكاتب الكردي السوري ‘حسين عيسو’ مُهدد بنفس المحكمة، علماً أنّه معتقل منذ 3/09/2011 بعد أن داهمت قوى المخابرات الجوية منزله في مدينة الحسكة، ولا انباء عنه حتى اللحظة، علماً أنّه يُعاني من وضع صحي خطير إذ تمّ اعتقاله ولم يكن قد مضى وقت طويل على العمل الجراحي الذي أُجريَ له في القلب، وفي الوقت الذي قتل فيه بحسب ‘رابطة الصحفيين السوريين’ 65 صحفياً وناشطاً إعلامياً حتى نهاية شهر آب 2012، وكانت الرابطة قد أعلنت أنّ تسعة صحفيين ونشطاء إعلاميين قتلوا في شهر ‘آب’ فقط، في وسط كل هذا يؤكد السيد وزير الإعلام السوري: (أنّ الكذب هو أسوأ شيء للتلفزيون)، ويُضيف: (نحن لا نريد إعلاماً كاذباً، والفرق بيننا وبين وسائل الإعلام الأجنبية.. هو أنّنا نقول الحقيقة بطريقة غير متطورة، بينما تجيد هي تسويق أكاذيبها)، هذا الحديث الذي أورده سيادة الوزير في سياق دعوته المفتوحة للمعارضين السوريين بالظهور على شاشات الإعلام الرسمي، فهل من متردد بقبول الدعوة؟؟ هل من مُشكك باستقلاليّة الإعلام السوري؟؟ هل يوجد أي مجال للشك في مستوى حريّة الكلمة والرأي والتعبير في سوريا؟؟.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *