اعترف، مؤخرا جداً،ً السيد عمران الزعبي، وزير ما يسمى بالإعلام السوري، بوجود قوائم أمنية بعثية فاشية، يصدرها ما يسمى بمكتب الأمن القومي، يمنع بموجبها الآلاف من النشطاء، والكتاب والإعلاميين وأصحاب الرأي الحر والمستقل السوريين من الظهور والكتابة في ما يسمى بوسائل الإعلام السوري المملوكة حصرياً للنظام الحاكم، وقال إن الحظر القائم قد زال، وصار، ويا للبشرى الكبرى، بإمكان هؤلاء المنبوذين، من الظهور على ما يسمى بالشاشات الرسمية والوطنية، بعد أن تحول هذا الإعلام، وعلى نحو نمطي مقرف ومقزز، إلى مرتع لجوقة، بعينها، من الطبـّالين والزمـّارين والردادين والهتيفة والأبواق المرتزقة من دول الجوار المسماة بالعربية. لا بل إن الحظر عليهم كان يشمل كل تلك القنوات “اللبنانية” التي “يمون” عليها جهاز أمن الدولة السورية، الذي يشرف على ويدير ما يسمى بالإعلام السوري، ومكتب الأمن القومي، التي -أي القنوات- احتلتها أيضاً ذات جوقة الطبالين والزمارين والدبـّيكة التي اجتاحت ما يعرف بالإعلام السوري. وفي الحقيقة لا يمكن التأكد حتى الآن من مدى مصداقية القرار وكلام السيد الوزير، وفيما إذا كان ما يسمى بالإعلام السوري، و”مشتقاته” اللبنانية (1) من أن يفتح على “البحري” وعلى الآخر للأصوات المعارضة الشريفة والنزيهة الغائبة عن الإعلام في سوريا وما هي الآليات والشروط لتحقيق ذلك كما نراه في بعض الإعلام العالمي والعالمي حيث نرى برامج “التوك شو” وحوارات الرأي والرأي الآخر التي تطرق وتخرق كل التابوهات.
وكثيراً ما أتعرض، والقضية ليست شخصية وتحمل طابعاً عاماً يتلمسه الجميع، وعلى نحو يومي تقريباً إلى السؤال التالي، ومن قبل أصدقاء ومعارف من مشارب شتى داخل وخارج سوريا: “أستاذ ليش ما منشوفك وما بتكتب في ما يسمى بوسائل الإعلام السوري؟” وأنا الذي لم يبق إعلام تقريباً إلا وظهرت فيه باستثناء الإعلام السوري والإعلام الإسرائيلي، وذلك فضل كبير منه عز وجل، فكان جوابي على الدوام: الإعلام السوري إعلام خاص فاشي عروبي عنصري ومحتكر تاريخياً لفئة بعينها، ويدار من قبل جهاز أمن الدولة السوري الذي لا نروق له كثيراً، والأهم أن هناك قوائم أمنية فاشية يصدرها ما يسمى بمكتب الأمن القومي بسوريا، والذي تعرض مؤخراً للتفجير، وقتل رئيسه السابق جنرال الرعب الشهير هشام الاختيار في التفجير، وعهدت رئاسته إلى الجنرال علي المملوك لاحقاً، وينوبه الجنرال عبد الفتاح قدسية، ومهمة هذا الجهاز، ليس الحفاظ على ما يسمى بالأمن القومي، على ما ظهر وبدا، بقدر اكتشاف ومعرفة وفلترة كل من يشك بولائه لفكر البعث الفاشي الحاكم منذ العام 1963، وهي ممارسة ألترا فاشية عرفتها كل الدول الفاشية والنازية التي مجدت الإيديولوجيا ومسخت الإنسان، وتحولت البلاد بموجبها إلى إقطاعة أمنية مغلقة ومطلقة يديرها جنرالات أمنيون فاشيون، لا يسألون عما يفعلون، يملكون مصائر وأقدار الناس ويتلاعبون بلقمة عيش ملايين من شبان سوريا، ويبسطون الرزق لهذا ويمنعونه عن ذاك، يرفعون الجاهل والوضيع والخائن إلى عنان السماء (حجاب، خدام، طلاس، غزال، والفريق السرسري النيوليبرالي الشهير الذي أهلك الملايين..)، ويخسفون الأرض بالشرفاء والوطنيين وأصحاب الرأي الحر والمستقلين. ولذا صار الانتماء لما يسمى بحزب العربي الاشتراكي جواز مرور وعبور إلى نعيم وجنة السلطة وعطاءاتها لكل اللصوص والعابثين الطامعين واللاهثين وراء منصب ومكسب وامتياز، ومن هنا حفل هذا الحزب، وانضوى تحت جناحيه، كل التيارات السلفية والقومية والدينية والناصرية والوصولية والانتهازية، التي كان هدفها النيل والتكسب من الكعكة السورية، وبهذا أصبحت سوريا مرتعاً للصوت القومي العروبي العنصري الفاشي السلفي البدوي الذي يتباهي به أصحابه، على الطالعة والنازلة، في مجتمع تعددي متنوع فسيفائي، يستفزون بموجبه شرائح واسعة وأطيافاً غير محددة من مكونات الشعب السوري غير آبهين بعواطفهم ومشاعرهم القومية، والإثنية، والفكرية والعقائدية، وهذه لعمري واحدة من أحط وأشنع الممارسات الفاشية في التاريخين القديم والحديث. وليس يشق على المرء، ويؤلمه، أكثر من بوق فاشي بعثي قومجي أرعن طائش ومجنون، وهو يتغنى ويتلذذ بتمجيد العرب والعروبة، التي أصبحت كالعلكة في أفواههم، وتحديداً في هذه الأيام المرعبة الظلماء، حيث يأتيك كل الموت والقتل وينزف الدم السوري الزكي البريء، بسبب أولئك العرب، وإجرامهم، وعروبتهم الطوباوية الفارغة. إنه استفزاز صادم، جارح وغير مبرر، وكل ذلك لأن هؤلاء القوميين والعروبيين يسيطرون ويديروم ما يسمى بالإعلام السوري ويمتلكون مصير وقرار هذا البلد العظيم.
والفاشية، وبمنتهى الاختزال والتبسيط، ووفق منظورنا المتواضع، هي تقديس وتمجيد الإيديولوجيا وطوطمتها مقابل مسخ وتقزيم الإنسان وسحقه أمامها. وفي الحقيقة إن بركات ونـِعم هذه الممارسة والحظر الفاشي لم يقتصر على صعيد الإعلام ورموزه ونشطائه، وحسب، بل كان يمتد إلى مناح حياتية أخرى كحق العمل، وحق السفر، وكأن سوريا الحضارة والتاريخ باتت مزرعة خاصة لأئمة البعث الفاشي، الذي يطال كل من لا يدين بالولاء لفكر الحزب القائد إلى التهلكة (هكذا كان اسمه)، وكل من لم يكن عضواً في هذا الحزب العروبي الفاشي العنصري الذي كان يمجد تاريخ وثقافة أولئك البدو الغزاة الأعراب الذين دمروا الحضارة والمجتمع السوري القديم، ويحاول بعثها من جديد تحت مسمى الرسالة الخالدة في القتل واغتصاب ومصادرة الحريات، نقول كل من لم يكن عضواً فيه كان يحرم من حقوق المواطنة الأساسية وأهمها حق العمل المنصوص عنه في الميثاق العالمي لحقوق الإنسان، وهذه هي الفاشية بعينها وبأكمل تمظهراتها. وإلى اليوم، هناك عشرات الآلاف من النشطاء، والكتاب، والإعلاميين، والماركسيين واليساريين الذين لوحقوا وطوردوا وحوصروا واضطهدوا وسجنوا في سوريا بسبب أفكارهم وانتماءاتهم السياسية والحزبية، لم تسوّ أوضاعهم الإنسانية والوظيفية والمعيشية، ولم ترد لهم حقوق المواطنة، وما زالوا، مع عائلاتهم وأبنائهم عرضة للمجهول والضياع ولممارسات لإقصاء، والتمييز، والتجويع والإفقار والإذلال بسبب تلك القوائم، فيما نسمع يومياً عن أن السلطات و”الجهات المختصة”، أي “أجهزة الأمن” ما غيرها، قد قامت بتسوية أوضاع المئات من الفارين من الجندية والسلفيين والوهابيين والقتلة والمجرمين الذين تآمروا على الوطن، وحملوا السلاح في وجه الدولة، وهددوا الأمن القومي(2)، الذي يديره علي مملوك، وبما لم يهدده قط أولئك النشطاء والكتاب والإعلاميين واليساريين والماركسيين والوطنيين السوريين الشرفاء الموضوعين على قوائم علي مملوك السوداء وسلفه هشام الاختيار.(3)
وقد طالت هذه الممارسات الألترا-فاشية Ultra-Fascist كل من لم يطبـّل ويزمـّر ويمجـّد لفكر الرسالة الخالدة، أو خرج عن قطيعها، وهذا ما حرم الملايين من السوريين من حقوقهم الأساسية، وهجـّروا وشردوا في أربع أطراف الأرض ومنافيها، وقطعت أرزاقهم وحوربوا في لقمة عيشهم وضيـّق عليهم، وعجت بهم أرصفة العالم وموانئه، وصاروا لاجئين متطفلين جياع اذلاء طالبي لجوء ومساعدات إنسانية في عواصم كثيرة، بعد أن أجبروا على هجر أوطانهم وأرض آبائهم وأجدادهم السوريين العظماء الأباة طلباً للقمة المخزية وبحثاً عن الأمن والاستقرار وهرباً من تلك الممارسات الفاشية العنصرية الفظة بحقهم، في واحدة من أكبر عمليات الترانسفير الفظيعة والرهيبة والمرعبة في التاريخ(4) طلباً للرزق والعمل والتمتع بأبسط الحقوق الآدمية التي حرموا منها في بلاد البعث الفاشي والرسالة الخالدة، التي تريد إعادة أمجاد إمبراطورية الغزو والسبي والاغتصاب البائدة. وبات هؤلاء المهاجرون اليوم يشكلون مصدر قلق وصداع ووجع رأس لذات جهاز الأمن القومي الذي هجـّرهم، ذات يوم، وصاروا لوبي ضغط حقيقي وقوة معارضة في الخارج تؤرق البلد، وتسيء له، إعلامياً على الأقل، وكل ذلك بفضل كل تلك الممارسات الفاشية والغبية الإقصائية الطائشة التي اتبعها بعض الفاشيين الجهلة والأميين والفاشلين في التعاطي مع قضايا إنسانية ووطنية وحقوقية وإنسانية،(5) وباتت تهدد بزوال وتفتت الكيان والوطن السوري، الذي أراده الفاشيست البعثيون بلون، وطعم، ونغمة، ونكهة بدوية عروبية عنصرية وفاشية إقصائية واحدة.
انتهت، عملياً، كل الأحزاب والأفكار الفاشية إلى حروب مدمرة وكوارث ومآس دموية وحقيقية شاملة، ومعها كل رموزها المرعبة، وذهبت بقضها وقضيضها إلى مزابل التاريخ، حيث مقرها ومكانها الطبيعي، وفكر البعث الفاشي السلفي البدوي العنصري، ليس منها استثاء، بكل تأكيد.
(1)- قامت مذيعة مسكينة ومغلوب على أمرها، تابعة لإحدى القنوات اللبنانية التي “يمون” عليها جهاز أمن الدولة السوري، بإجراء مقابلة معي حين كنت أحضر أحد المؤتمرات، وبعد لأي وجهد وإلحاح، وكنت قد قلت لها وأنا مدرك لواقع الحال كوني غير عروبي وغير “مئيوم”، بأن هذه المقابلة التي اعجبت بها المذيعة جدا، لن تبث ولن تجد النور في تلك القناة “المئيومة” ، وهذا ما كان بالفعل.
(2)- تم تغيير وتسمية هذا الجهاز باسم الأمن الوطني بعد التفجير الذي تعرض له في 18/07/2012، ومقتل رئيسه الجنرال الأمني المرعب هشام الاختيار، الذي كان يحتفظ بملفات أمنية لعشرات الآلاف من النشطاء والكتاب والإعلاميين السوريين، وطبعاً ملفاته لم تشمل رياض حجاب، ولا نواف الفارس، أو مناف طلاس، وإياد غزال، وبقية شلة حسب الله المعروفة، واقتصرت فقط، وكانت موجهة بالتحديد ضد شرفاء وفقراء سوريا الأبرياء المساكين الذي بدا لاحقاً أنهم لم يشكلوا أي خطر على أمنه القومي ولم يكونوا مصدر أي تهديد للوطن بل على العكس ترفعوا وكابروا وتناسوا الآلام وآزروا سوريا الحبيبة في محنتها ونذكر منهم وعلى سبيل الذكر، مع الاحترام والتقدير للجميع، فاتح جاموس، وعادل نعيسة، وبسام القاضي، ونزار نيوف، وغيرهم الكثيرين، وطبعاً العبد الفقير لله، ممن يتصدرون قوائم الاختيار والمملوك السوداء الذي تبين –أي القوائم- أنها محض كيدية وشخصانية ومزاجية وفارغة وتافهة ولا قيمة عملية وحقيقية لها علي الإطلاق.
(3)- من الجور والظلم الشديدين، والعسف القاتل، وعدم الحكمة المهلكة، والطيش والجنون المطلق، أن يتحكم جنرال واحد شبه أمي وجاهل وأرعن بلقمة عيش ومصائر وأقدار وحياة 23 مليون سوري ويتسلط على رقابهم بشكل مطلق من دون وجود أية مرجعية قانونية وشرعية وآلية تحكمه وتتحكم بنزواته وطيشه ورعونته ومن دون إخضاعه لأي نوع من المساءلة والمراجعة ما يفتح المجالات لكثير من الخطايا والتجاوزات والانتهاكات وربما الجرائم بحق الإنسانية وهذه قمة الفاشية. يجب ألا يستمر هذا النمط الفاشي المهلك تحت أي مبرر ويجب أن يعهد به للجنة من الحكماء المدنيين والأكاديميين الكبار المنتخبين في مجلس الشعب تسمى بلجنة الأمن الوطني، وكل ذلك حباً بسوريا وضماناً لبقائها كوطن لجميع السوريين.
(4)- يقال والعهدة على التقديرات، ومن دون وجود إحصائية موثقة يمكن الركون إليها، بوجود حوالي 25 مليوناً من السوريين خارج سوريا، هاربين من جنة البعث على مدى خمسين عاماً، وهو ما يعادل تقريباً عدد سكان سوريا، وهذه سابقة فريدة في التاريخ أن يكون عدد المهجرّين والمهاجرين، يوازي عدد السكان في البلد الأصلي، وهذا ما عنيناه بأكبر عملية ترانسفير في التاريخ.
(5)- لم يقل لنا جنرالات مكتب الأمن القومي الأشاوس كيف سيعيش رعاياهم في مزرعة البعث بكرامة وأمان وهم محرومون من أبسط الحقوق الآدمية ومطاردون في لقمة عيشهم، ومضيـّق عليهم، وفيما إذا كان ينبغي لومهم لو تحولوا إلى معارضين و”عملاء وخونة” ومشكوك في ولائهم على حد تعبيرهم؟ أفهمونا يا رعاكم الله.
نضال نعيسة