وما زال التقسيم وهما!

يتزايد الحديث في أوساط مختلفة عن احتمالات التقسيم في سوريا كنتيجة للحرب الأهلية وتفكك الدولة. هناك أكثر من طرف يضع في حساباته مثل هذا الخيار. في الخارطة السياسية والديمغرافية والجغرافية السورية أكثر من عنصر يذهب بخيال الجماعات في هذا الاتجاه. وهناك قوى لا تجد مكاناً لها للتأثير في مجريات الحياة السورية إلا عن طريق مخاطبة الهويات ما قبل الوطنية وتغذية مخاوفها وطموحاتها.
في سوريا اليوم، واقعياً، منطقة كردية متروكة لإدارتها الذاتية، ومنطقة شمالية ذات طابع سني تشمل محافظات عدة خارج سيطرة النظام، وهي التي تتعرض لأشد وأعنف الحملات العسكرية، ومنطقة ساحلية ذات أكثرية علوية شبه مستقرة، وأخرى درزية في جنوب سوريا مترددة وحذرة. وهناك تجمعات مسيحية وازنة في بعض المحافظات من دون أن تطبع أي منطقة معينة بطابعها.
لم تفرز سوريا على أساس طائفي ومذهبي بعد، برغم وجود مناخ عام يجعل من البيئة السنية الأكثر حضوراً في المعارضة والبيئة العامة للأقليات أكثر حذراً وتحفظاً تجاه مرحلة التغيير ومستقبلها ومستقبل النظام والسلطة.
لكن ذلك كله لا يشكل مساراً حتمياً للتقسيم الذي يعني الانفصال التام عن الدولة الأم أو بلورة مشاريع لإنشاء دويلات طائفية ومذهبية. نستدل على ذلك من تجربتنا اللبنانية ومن التجربة العراقية. تستطيع الطوائف أن تخلق فوضى كيانية وأن تخلق انكماشاً في حضور الجماعات وحتى أن تحقق فرزاً سكانياً، لكنها لا تستطيع أن تنشئ دولاً. ما ينشئ الدول في مجتمعات تتجاذبها الصراعات الخارجية هي الدول الكبرى، سواء من خلال اقتسام النفوذ والتسويات أو الحروب. لا يستطيع الأكراد، برغم هويتهم القومية الصريحة وجغرافيتهم شبه الصافية وإدارتهم الذاتية في العراق وضعف الدولة المركزية، أن ينشئوا دولة مستقلة بمعزل عن مصالح جيرانهم، ولا سيما تركيا وإيران والدول الكبرى. ولم يبلغ الصراع السني الشيعي على السلطة في مناطق التوتر في أكثر من بلد حد البحث عن خيارات انفصالية تؤدي إلى نشوء دول حتى حين ترعى نزاعاتها دول إقليمية فاعلة. خلال عقود من الحروب الأهلية في المشرق العربي، لبنان والعراق وسوريا، لم يظهر أن هدف السياسات الدولية هو إعادة النظر بالجغرافيا السياسية للكيانات القائمة، بل الهدف إعادة تكوين أنظمتها السياسية والسيطرة على خياراتها. في تقسيمات سايكس ـ بيكو لم تنجح فكرة الأقليات التي تعاملت معها السياسات الأوروبية. وفي الحروب المعاصرة لا تنحاز الدول الكبرى لخيارات مسبقة لدعم الأقليات أو الأكثريات بل هي تستخدم التوتر في ما بينها لإعادة تكوين المشهد الإقليمي الواسع. لا الأكراد ولا الأقباط ولا الموارنة والمسيحيون ولا الشيعة والعلويون والدروز هم أصحاب الحظوة في السياسة الغربية اليوم. هذه الجماعات مجرد قوى يحرّضها المناخ السياسي لتغيير الأنظمة كي تبحث عن موقع لها أو دور أو عن مستقبل آمن. وفي كل الساحات العربية يرعى الغرب تيار الإسلام السياسي «السني» الأكثري ويريده أن يشكل القاعدة الشعبية الأوسع للأنظمة السياسية التي ستنشأ بعد هذا المخاض.
من الطبيعي أن لا نسأل اليوم عن مقوّمات الدويلات المذهبية الاقتصادية والاجتماعية حين يكون صراع الوجود هو المسيطر والنزاع المسلح هو الشكل الرئيسي في السياسة. لكن مثل هذا السؤال هو الذي يقر في نهاية المطاف حظوظ الكثير من الكيانات السياسية. وفي بلد كسوريا أو لبنان تشكل حركات الانفصال انتحاراً سياسياً، وقد خبرتها الجماعات اللبنانية التي عادت بعد انكماشها إلى الشراكة في الدولة المركزية.
خلال الحرب اللبنانية كان الخارج يدغدغ طموح الجماعات لكي تقاوم وترفض الحلول السياسية لكي يظل قادراً على استخدام الساحة السياسية لأهداف أكبر. ولطالما رسم الخارج منذ اللحظات الأولى للحرب الخطوط الحمر، مرة للقوى المحلية ومرة للقوى الإقليمية. لكن هذا الغرب بالذات لم يكن يبحث عن قطعة أو جماعة واحدة ليضع مصالحه في عهدتها. على العكس هو الذي يرعى كل الجماعات ويسوقها إلى أن تكون تحت السيطرة والتحكم. لقد صار الحديث عن مشاريع التقسيم، منذ أن اندلعت أزمة النظام العربي الرسمي وتفجّرت مشكلاته الإقليمية والداخلية، مجرد مادة لمقاومة التغيير الجذري ومحاولة لإنهاك هذه المجتمعات، مرة بسلطة الاستبداد ومرة بسلطة الخارج الذي يريد احتواء المنطقة وإعادة بناء مقومات سيطرته عليها. لكن المؤكد أن الجماعات لا تستطيع أن تقرر مصير دولها وكياناتها ولا مصائرها الخاصة خارج شبكة المصالح والمنازعات الداخلية والخارجية. فالطوائف تنشر الفوضى والدول الكبرى وحدها تقرر إعادة تجميع المنطقة وفق منظومة واحدة. وليس التقسيم حتى الآن إلا وهماً.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *