طائفية خطاب “اللاطائفية” , مهزلة سوريا المتجددة

 ربما لا يختلف عاقلين في سورية على الممارسات الطائفية للنظام السوري عبر عقود طويلة من حال الطوارئ واستيلاء الأجهزة الأمنية على حياتنا. وقد يختلفوا على مدى وعمق وسمات هذه الممارسات، وليس على وجودها. لكن مفاجأة سورية اليوم، بالأحرى مفاجأة “نخبتها ومعارضتها” التي ادعت دائما “اللاطائفية” ما لم تدع العلمانية! هي خطابها الذي ينز طائفية بألف وجه ووجه، والقائم كليا على أن كل سلوك لأي سوري أو سورية، لا يطابق تصوراتهم “الديمقراطية”، هو مستند حكما إلى نزعة هذا الشخص “الطائفية”! ففقط من “يركع ويبوس” صكوك غفران “الثورة” هم اللاطائفيون حتى إن قتلوا على الهوية، فيما كل الباقين هم طائفيون بالضرورة حتى “إن لم يعوا ذلك”!
مناسبة هذا الحديث دخول ميشيل كيلو المأساوي على هذا الخط، بعد أن دخل من الأيام الأولى للأحداث “العلماني” العتيد، عضو مؤتمر الخيانة في إنطاليا: غسان المفلح! والكاتبة العظيمة روزا ياسين حسن التي اكتشفت أن كل أصدقائها الذين لا يوافقونها الرأي، وصدف أن ولدوا لآباء من “الأقليات”، يعبرون عن انتماءهم الأقلاوي رغما عن أنفوهم! ثم تبعتها صاحبة المواقف الخلابة، والجبانة بنفس الوقت، سمر يزبك، وهي تؤكد أن كل من لا يقف مع “الثوار” اليوم هو خائف من النظام أو ممالئ له أو أحمق.. داعية “الطائفة العلوية” إلى الخروج من أسرها التاريخي لتنضم إلى قافلة الثوار العظماء، أو تكون جبانة ورعديدة! وطبعا لا يخلو الأمر من الطائفيين أصلا مهما تزيوا بأشكال وألوان، مثل ياسين الحاج صالح، والدغيم، والسيد.. وغيرهم من شبيحة المعارضة الذين باتوا مكشوفين حتى للفضائيات التي مجدتهم قبل أن تكتشف أنها مصت دماءهم تماما، ولم يعودوا نافعين في معركتها الخسيسة.
مأساة اليوم أن ينضم ميشيل كيلو إلى هذا الخطاب!
ففي مقالته في السفير “دعوة المسيحية إلى العقل” يؤكد ميشيل دون أن يرف له جفن مواطنة، اتهامه لكل سوري صدف ولادته لأب مسيحي، أنه مسيحي غارق في ذيليته للنظام القمعي الوحشي القاتل! بل وخرج عن عباءة قبيلته “العربية/الإسلامية” التي باتت تفصل وتقاس عند عاهل الوهابية “عبد الناتو” بعد أن كانت تفصل عند خدام والشقفة والبيانوني والعبدة وغيرهم..
بل إن ميشيل، الذي انسحب من أحد النقاشات بوجه مشمئز لأن أحدا ما (كاتب هذه الكلمات) أصر على نقاش الوضع القائم، وليس على نقاش “كيفية الضغط على النظام” فيما كان هو، ميشيل، ولؤي حسين يؤكدون أن لا نقاش سوى على كيفية الضغط على النظام، لنفاجأ بعد أقل من 72 ساعة بخبر النقاشات الدائرة بين كل منهما (ميشيل ولؤي) مع بثينة شعبان، كما لو كانت نقاشات “أصدقاء في مقهى الروضة”.. ميشيل هذا، يختم مقالته بفتوى دينية بامتياز، وجهادية بامتياز، إذ يقول حرفيا:
“باختصار شديد: إما أن تغير الكنيسة مواقفها وتعود ثانية إلى كنف مجتمعها العربي / الإسلامي، أو أن يؤسس العلمانيون كنيسة مدنية تأخذ المسيحيين إلى حيث يجب أن يكونوا، مواطنين حريتهم جزء من حرية مجتمعهم وفي خدمتها. وللعلم، فإن التاريخ لن ولا يجوز أن يرحم أحدا: كنسيا كان أم علمانيا، إن هو وقف جانبا، أو رقص على جثث من يموتون من أجل حريته!”

فإذا! ميشيل اللاطائفي لا يرى سوريين ولدوا لآباء مسيحيين أو مسلمين او.. بل يرى فقط “مسيحيين” و”مسلمين” و…..

وميشيل اللاطائفي، وللاعنفي، يؤكد أنه لا يعترف بأي شخص سوري ولد لمسيحي إلا أن يكون معه، أو هو تابع “لرأس كنيسة ما”!

وميشيل اللاطائفي، وداعي الحرية والديمقراطية، يهدد بأن التاريخ (أي: قادة الثورة القادمة بعد أن يصيروا سلطة الموت الجديدة) بمحاسبة كل من لم ينضم إلى ثورتهم التي باعوها هم، أول من باعها، لتجار الدين والسلاح والمخربين، تاركن الشباب المنتفض وحيدا في الساحة، دون أن يمدوه حتى “بكأس شاي”!

ولا ينسى ميشيل طبعا، شأن الآخرين، أن يغلف حقيقة استيلاء الظلامية والإجرام على “الثورة”، بعد أن لم يعد بإمكانه أو إمكان غيره انكار ذلك، فيلجأ إلى المواربة باتهام كل من لم يوقع “صك غفران الثورة” بأنه سبب في استيلاء هؤلاء عليها!

للأسف الشديد، هذه هي النخبة التي وصفت مرات أنها لم تسقط فحسب، بل تحولت إلى شريك كامل الشراكة في العنف والموت الأسود والظلامية التي تحاصر سورية اليوم. فهم لا يختلفون بشعرة عن ضباط أمن مجرمون قتلوا المدنيين دون أن يرف لهم جفن. ولا يختلفون عن وهابيين وسلفيين قتلوا الناس بمتعة وتشفي، ولا عن مجرمين زعران وتجار سلاح لا قيمة عندهم لغير الفوضى…..

هذه النخبة، هي التي خانت فعلا شباب وشابات سورية.. خانتهم بدفعهم إلى الموت فيما هي قاعدة تشرب الويسكي وماء زمزم والماء المقدس.. وخانتهم بدفعها البلد إلى المزيد من العنف بإغماض عينيها عنه، وخانتهم بالتحريض المكشوف والصريح على الطائفية تحت ستار محاربة الطائفية!!

لذلك، لا مفر من الدعوة مجددا لشباب وشابات سورية، معارضة وموالاة وخط ثالث ورابع وخامس.. أن يرموا خلفهم كل الوجوه التي أثبتت استنزافها نفسها واستمراءها القتل والموت خدمة لتصوراتها المريضة، سواء لعبت ألعابها باسم الأمن والاستقرار، أو باسم الحرية والديمقراطية، أو بأي اسم آخر..

هذه هي الحقيقة المرة. جيل كامل قد سقط بعد أن كشفته أزمة لم تمر سورية بمثلها في تاريخها كله. وحان الوقت لتبوأ الشباب موقع النخبة، فيعبرون عن صوتهم هم بأنفسهم، دون تردد، ودون خوف من أساطير “مثقف” أو “مناضل” أو ما شابه.. فكلها ألقاب لا تساوي الحبر الذي كتبت به..

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *