الزنزانة أم التابوت ,الخيار السوري المر!
” ليس النظام ديمقراطياً “: لا نعتقد أن هذه الحقيقة المرة خافية على أحد. – كان أمامك أحد خيارين: إما أن تفكّر وتعمل كما يريد الكبار الحكماء، وقد رأينا بأم العين نتائج حكمتهم، أو أن تقصى عن كامل صنوف العيش الحقيقي، كما حصل معنا.
حين كتبنا عام 2003 عن ضرورة إلغاء المادة 8 من الدستور، وكنّا نرى كزرقاء اليمامة النتائج الكارثية التي كان لا بد أن تأتي كعواقب لهذه المادة، كان عبد الحليم خدّام، المعارض ” الشرس ” اليوم، أشرس من عارض إلغاء تلك المادة. لم تكن المشكلة في أن يعارض عبد الحليم خدّام إلغاء المادة 8، بل في اعتقاد النظام أن رجلاً كهذا جدير بالثقة كسياسي خبير رؤيوي! – وما تزال حالة خدّام سارية المفعول على كثير من الرموز التي لا تخلو من غباء فطري، وأميّة مزمنة!
لا معرفة في سوريّا! تلك هي الحقيقة الأكثر مرارة في بلد الحرف. النظام وحده المسئول. فهو إما ترك مفاتيح المعرفة بأيدي طغمة من البعثيين-الوهابيين المنافقين، من أمثال علي عقلة عرسان، فترك المعرفيون الحقيقيون الوطن بلا رجعة، أو اعتكفوا في زوايا النسيان، خشية الاصطدام مع العقليات النفاقية التي اجتاحت الوطن كالوباء؛ أو تحالف مع الاستبداد الديني الذي انقلب في معظمه عليه، فأدخل العقل في زنزانة الماضي في زمن يعيش المستقبل.
إن القتل الغرائزي الطائفي المنتشر في سوريا اليوم، يعني أول ما يعني أن لا ثقافة حقيقية في سوريا؛ وأن ما روّج له البعثيون من معرفة لم يكن غير ” نفاق معرفي ” لا علاقة له بواقع الفرد أو ضميره. فالشعارات الثقافية التي أقحمها البعث في الواقع السوري لم تكن أكثر من ثقافة شعارات لا طائل منها.
إن أسوأ الحقائق المعرفيّة التي تفشّت في الوطن كالطاعون، هي اعتقاد البعث أن إغماض العينين وقت الظهيرة في تموز يعني أن الشمس قد غربت. لقد اعتقد البعثيون، بنوع من الخداع الذاتي-الموضوعي، أن عدم الحديث عن الطائفية، الفساد، الاستبداد، التخلّف، الانفجار السكاني، العشوائيات، التطرف الديني: يعني أن تلك الظواهر غير موجودة. وكان أهم ما في الحراك السوري المتواصل منذ 16 شهراً، هو كشفه الحاد عن أمراض سوريا المزمنة. – وكشفه بالتالي عن عمق الخداع الذي مارسه البعثيون، بقصد أو دون قصد، حتى وصلنا إلى هذا العمق من تدمير الذات.
الشعب السوري، بالتالي، هو أبعد الشعوب عن الديمقراطية المعرفية، وهو الأقرب إلى الغرائزية المعادية للعقل. وهي حالة طبيعية إذا ما عرفنا مدى العدائية لكل ما هو ثقافة حقيقية في سوريا منذ استيلاء البعث على السلطة عام
1963. ورغم كل تحذيراتنا على مدى سنوات من هذا الوضع غير الطبيعي ولا الأخلاقي، فإن أحداً لم يشأ أن يقرأ أو يفهم.
الحق يقال، إن النظام كان إقصائياً لكنه لم يكن إلغائياً، بالمعنى المادي للكلمة. النظام كان يبعدنا عن كل المفاصل الهامة؛ كان عبد الحليم خدّام يرسلنا خطفاً إلى السجن؛ كان مصطفى طلاس يحاول إغواءنا كي لا نهاجم فساده وفساد أولاده؛ لكننا لم نتعرض لخطر الموت الحقيقي، باستثناء حادث أوحد على أيدي غازي كنعان وقت كان رئيس الأمن العسكري في حمص.
إن أسوأ سمات المعارضة – كالأخوان المسلمين على سبيل المثال – هي الانتهازية المقرفة. فالأخوان المسلمون، في مرحلة سابقة، كانوا على استعداد لأن يضعوا أيديهم في يد واحد من أفسد رجال سوريا وأكثرهم تمسكاً بالعقلية الاستبدادية، كعبد الحليم خدّام؛ وهو ما تحاول المعارضة الحالية فعله مع سليل من
أفسد الجيش والحياة العسكرية في الوطن، وأقصد هنا مناف ابن مصطفى طلاس. والكرنفال الهيستيري الذي رافق انشقاق السفير السوري في بغداد، والذي جاء موقفه بعد تشكيل الحكومة الجديدة ومرور 16 شهراً على الحراك، لأنه لم يحصل على منصب سبق وإن وعد به، يسير في الطريق ذاته. ليست المشكلة في أن يهرب انتهازي إلى موضع يمكنه من انتهازية أكبر: المشكلة هي أن نجعل من هذا اللص ” جان-دارك ” المعارضة؛ رغم أن ضميره نام أكثر من 550 يوماً قبل أن يصحو على أسماء أعضاء الحكومة الجديدة.
لا حلول توافقية في الأخلاق. وهؤلاء الذين سرقوا الوطن عبر الموالاة، من غير الأخلاقي أن يعودوا لسرقته زمن المعارضة. وكنا كتبنا زمن الهدوء، ” سادتنا في الجاهلية، سادتنا في الإسلام “.
حين ننتقل من الموالاة إلى المعارضة، فإننا ننتقل عضوياً من ثقافة الإقصاء إلى ثقافة الإلغاء. لقد أظهرت الحوادث المتتالية أن تقليد الإلغاء بحق الآخر المخالف هو أهم ما ورثته المعارضة السورية ذات الوجه السلفي عن أسلافها. فقد رأينا كيف يقتل الآخر بدم بارد؛ كيف يرمون بمعارضيهم من شرفات المنازل؛ كيف يفتي لهم شيوخهم بالقتل أو الحرق: باختصار، انتقلنا من الزنزانة إلى التابوت!
يعترف المعارضون أن هنالك مدناً وبلدات وقرى موالية؛ ويرفضون الحوار مع النظام بغية الوصول إلى حل – هل ثمة تابوتية أكثر من هذه؟ نضيف إلى ذلك حديث أساطينهم المثقفين، من أمثال هيثم المالح ورضوان زيادة، بعد مجزرة التريمسة، الذي تفوح منه رائحة الطائفية المقرفة.
إذا كان حكيم البيت يتقيأ زبالة الطائفية: ماذا نتوقع أن يأكل الدهماء؟