شكلت الانتخابات النيابية الاخيرة في سوريا تأكيدا اضافيا على حالة الانكار التي يعيشها النظام السوري ويريد ان يقنع بها العالم. جرت العملية الانتخابية بطريقة يراد لها ان تبدو طبيعة، فصرّح وزير الداخلية ان «لا مشكلة حتى الآن باستثناء بعض الامور التي تحصل في أي جو انتخابي». لم يقل الوزير في أي أجواء انتخابية، وأية بلدان، يجري ما يشبه «بعض الامور» تلك. ولكن هذه عيّنات عنها: قصف الاحياء بالمدفعية في عدد من المدن، لا اقل من ٣٠ قتيلا في يوم الاقتراع، اعتقالات بالعشرات بل المئات، مقاطعة شعبية واسعة واعتصامات وإضرابات وتظاهرات للمعارضة على مدار البلد. يجري كل هذا في ظل وقف لإطلاق النار يحبو نحو نهاية شهره الاول. ولا يكفي القول ان السلطات السورية لم تطبق القسم الاكبر من إجراءاته.
في أولى وظائفها، حققت الانتخابات المرجو منها: التمديد لبضعة اسابيع لحملة الحسم العسكرية الامنية التي يشنها النظام ضد الثورة الشعبية، باسم «الحرب (الدائمة) ضد المجموعات الارهابية المسلحة». وفّرت الاغطية العربية والاممية مهلة جديدة للحسم الذي يبشّر به النظام وانصاره، في الداخل والخارج، ولا حسم.
مهما يكن، خاضت هذا «الجو الانتخابي» سبعة من اصل تسعة احزاب مرخصة جديدة بالاضافة الى أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية، لصاحبها حزب البعث العربي الاشتراكي، التي شكلت «لوائح الوحدة الوطنية» في فئتي العمال والفلاحين اضافة الى تحالفها مع ٢٣ مرشحا من فئة المستقلّين. لم يفدنا وزير الداخلية السوري بالكيفية التي بها تثبتت وزارته من ان الاحزاب المرخصة لا تقوم على أساس ديني او طائفي او مناطقي او مهني، حسب قانون الاحزاب ومنطوق الدستور. ولكن ليس معروفا ان لتلك الاحزاب صلة ما بالمعارضة للنظام بأي درجة من درجاتها.
في انتظار صدور النتائج، والمعروف ان حزب البعث سوف يحصد فيها غالبية مقاعد مجلس الشعب، يفيد التذكير بموقع المجلس من النظام السياسي السوري بناء على الدستور الجديد الذي أقرّه الاستفتاء في شباط الماضي. بعد اعلان اسماء الفائزين، سوف يصدر رئيس الجمهورية مرسوما يدعو فيه أعضاء مجلس الشعب الى الانعقاد. للمرسوم قيمة رمزية وفعلية. كأنما الاقتراع الشعبي لا يكفي لمحض اعضاء مجلس الشعب الشرعية، لا بد من تكريس عضويتهم والشرعية بواسطة ختم الحاكم الاوحد.
حقيقة الامر ان مجلس الشعب زائدة من الزوائد في نظام رئاسي فردي شبه مطلق. على عكس اي تقليد ديمقراطي يقضي بأن تنبثق السلطة التنفيذية عن السلطة التشريعية، وتكون مسؤولة تجاهه، ويحق للبرلمان المنتخب محاسبة الحكومة ونزع الثقة عنها، أفرادا وهيئة، لا علاقة لمجلس الشعب بتشكيل الوزارة. الرئيس هو من يعين الوزراء ورئيسهم. وكل ما يستطيعه المجلس في مجال المحاسبة نقاش أداء الحكومة وحجب الثقة عن وزراء أفراد فيها. ومع ان الدستور يعيّن لرئيس الوزراء دور «الاشراف» على عمل الوزراء (بالمفرد وليس بالجمع) الا ان رئيس الدولة يتابع عملهم عن طريق تقارير خطية يرفعونها اليه عن نشاطهم وهو الذي يقيلهم فرادى ورئيسا وهيئة. والى هذا كله، يملك رئيس الدولة سلطات تشريعية الى جانب سلطاته التنفيذية شبه المطلقة، إذ يملك الحق في اصدار القوانين (وهي عادة من صلاحيات السلطات التشريعية حصرا ) خلال عطلة مجلس الشعب كما خلال دوراته العادية. ولا يمكن لمجلس الشعب نقض قانون من القوانين التي يصدرها الرئيس الا بتصويت ثلثي اعضائه. وليس معروفا ان العلاقة بين رئيس الدولة ومجلس الشعب عرفت حادثة نقض من هذا النوع منذ دستور العام ١٩٧٣. الى هذا كله يضاف ان رئيس الدولة معفي دستوريا من اية مساءلة او محاسبة.
تشكل الانتخابات النيابية السورية الخطوة قبل الاخيرة لاستكمال «برنامج الاصلاحات الشامل ». يبقى منه تشكيل الوزارة العتيدة. ولا يستبعد تتويج العملية بإعلان الرئيس استقالته من منصبه كأمين عام لحزب البعث ليصير «رئيسا لكل السوريين».
ماذا يعني ذلك؟ أتمّت «الاصلاحات» تجديد النظام وفرضه كأمر واقع بتأكيد طابعه الفردي شبه المطلق وقاعدته الامنية العسكرية وطغمته الريعية المسيطرة على الاقتصاد، تزيّنه تعددية سياسية شكلية وفي ظل استمرار الاحتكار الرسمي للاعلام وتغييب اية محاسبة عن سنوات الحكم وعن انتهاكات القتل والاعتقال والتعذيب قبل انطلاقة الثورة وبعدها.
وحتى لو افترضنا جدلا ان للاصلاحات جدوى اصلاحية، يثور السؤال عمن طالب بتلك الاصلاحات والى من هي موجهة. تقول الاحصائيات، التي تروجها الاجهزة الموالية للنظام ذاته، ان لا اقل من ٤٠ في المئة من السوريين يعارضون النظام القائم في دمشق. يجب ان يضاف ان هذه الاربعين في المئة لا تعارضه انتخابيا وانما بكافة اشكال ووسائل الضغط والاحتجاج السلمي والعنف المسلّح منذ ١٥ شهرا في مئات مواقع التظاهر والاعتصام والاضراب. وهي تعارضه ايضا بواسطة العنف المسلّح. فأي تنازل يقدّمه النظام للمعارضة السلمية لنقول ان النظام يتنازل في اصلاحاته تلك؟ انه لا يتنازل عن شيء.
جهة ثانية، يصعب التصوّر ان الذين توافدوا الى صناديق الاقتراع، مرشحين او ناخبين، اكترثوا كثيرا لسبعة أحزاب جديدة لا يعرفون عنها الكثير حتى لا نقول انهم لا يعرفون عنها شيئا. ولسنا نحسب ان المقترعين تكاثروا لتزكية قانون للاعلام يؤكد السيطرة الرسمية عليه، يجعل التعددية الاعلامية بمثل استحالة التعددية الحزبية والسياسية، ويستوطن منازلهم بالبروباغاندا. يمنع قانون اعتقال الصحفي، ولكنه يفرض عليه القمع الذاتي، ولكن لا يحمي مدوّنة او مدوّنا من الاعتقال والتعذيب. وهل سوف يرى كثيرون في إلغاء التكريس الدستوري لحزب البعث قائدا للدولة والمجتمع انجازا عظيما وهم يعلمون انه سوف يسيطر على مجلس الشعب والوزارة اضافة الى هيمنته في الجيش واجهزة الامن والادارة والتعليم وسائر مرافق الحياة السورية.
حقيقة الامر ان «الاصلاحات» التي اعتمدت شعارا لردّ النظام على الثورة الشعبية، خدمت لفترة لممالأة الرطانة الغربية عن التعددية والديمقراطية. لكنها لم تنطلِ هذه المرة حتى على الامين العام للامم المتحدة الذي نفى عن الانتخابات اية صفة ديمقراطية. اما باقي ردود فعل القوى الغربية فتوزعت بين التسخيف والتشنيع. ويبدو ان «الاصلاحات» انكفأت الى المرتبة الثانية في حرب النظام ضد ذلك القسم المحتج والثائر من شعبه، فباتت من الزوائد. غلبت الآن الحرب (الدائمة) ضد «المجموعات الارهابية المسلحة» بعد ان اكتشفت السيدة كلينتون اختراق تنظيم «القاعدة» للمعارضة السورية. وتنظيم «القاعدة» لا يكذّب خبرا. يأتيك غبّ الطلب وقد بات تنظيمات لا تنظيما واحدا كل تنظيم منها معلّق بكرعوب دولة ما. فكيف اذا كان النظام المهدد قد استخدم خدمات الجهاديين في «القاعدة» وخارجها، لسنوات طويلة خلال الاحتلال الاميركي للعراق؟
خلاصة القول ان الانتخابات البرلمانية اطلقت رصاصة الرحمة على ما يسمّى الحوار الوطني والعملية السياسية بدلا من ان تمهّد لهذا وذاك. قطعت الطريق على اي حوار بفرض إصلاحاتها معززة بادعاء «شرعية» ودستورية الاستفتاءات والانتخابات. يبدو ان الحرب من اجل الحسم هي البند الوحيد على جدول اعمال النظام. فعلام يتم الحوار؟ حتى ان «المرحلة الانتقالية»، التي تصدّرت محاولات الارتداد على الثورات وانقاذ الانظمة القائمة، لا مكان لها في هذا المجال. كل المعروض على المعارضة، وهو معروض منذ ان بدأت المبادرة الروسية، هو الدخول في بيت الطاعة اسمه حكومة اتحاد وطني يسيطر عليها انصار السلطة. فلا عجب ان ترفض كل اطياف المعارضة الطاعة وبيتها.
والسؤال الآن، ماذا يملك النظام بعد من وسائل المماطلة وشراء الوقت؟
يملك المزيد من العنف. ثم ماذا؟