يمكن القول , على أن الطائفية وليست “الدينية” هي التي تتحكم بالوعي الثقافي العربي منذ ١٤٠٠ سنة , ويمكن القول أيضا على أن الكثير من فئات الشعوب دعمت الحركات القومية في نصف القرن الأخير , آملة الحد من المد الطائفي أو حتى التغلب على وعي طائفي أصبح شبه جماعي ومتجذر في النفوس.
الا أن ماحدث كان مشكلة أكبر, ليس بسبب فشل الحركات القومية فقط في التغلب على طائفية الوعي الجماعية ,وانما لارتشاح الحركات القومية بالوعي الطائفي , حيث تحولت هذه الحركات القومية الى حركات طائفية ذات قالب مدني , اما القلب فقد تحول الى قلب غيبي طائفي بامتياز , والبعث على سبيل المثال , الذي تشرب بالطائفية , وأصبح قناعا لها , مكن الطائفية من النمو , حتى تمكنت من السيطرة عليه وجعلته ملحقا أو ذيلا لها , وحيث ضعفت الطائفية كان هناك من يرى ضرورة اختراعها وتنشيطها من جديد , وذلك لتوظيفها في خدمة الديكتاتوريات .
يستمد النشاط الطائفي قوته بشكل اساسي من وجود الأديان بشكل عام ومطلق , فلولا الأديان لما كانت هناك طائفية دينية , وللأديان مخزون تاريخي عميق, يعتمد في ضخامته على ضخامة الجهل , حيث ان هناك علاقة طردية بين هذه الأحجام , ولما كان الجهل نسبيا من خصائص الانسان التي سوف لن تنقرض , لذا فانه من المتوقع أن تبقى الأديان قائمة , خاصة وان هذه الأديان وافرازاتها الطائفية مفيدة جدا للبعض , الذي يجد بها الوسيلة الجيدة وحتى المثالية في تثبيت اركان تسلط منحط يهدف الى الحصول على الغنائم عن طريق السلب والنهب والافقار والاستبداد , وذلك من أجل البقاء والاستمرار, وخاصة من أجل الاستمرار , لأن الفكر الديني , الذي يؤله , يساعد على تأليه الطاغية , وبالتالي بقاء الطاغية الى ماشاء الله .
الديكتاتوريات المتألهة تحب الطائفية والطوائف , لأنه من الممكن استبدال البنية السياسية الحزبية ببنية أقل تغيرا وأكثر ثباتا , وهي البنية الطائفية , التي تطفو الديكتاتورية (التي أصبحت بحد ذاتها طائفة )على سطحها مستغلة تناقضاتها الأبدية , مما يؤبد أيضا السلطة المتألهة الديكتاتورية , ويمنع نقد هذه السلطة الالهية تقريبا , كما أنه يوفر لهذه السلطة الكثير من العناء في صنع المشاريع وغير ذلك من متطلبات التنمية والتقدم, فالتأخر قضاء وقدر ..انه ارادة الله , التي لايمكن الطعن بها .
لقد تكونت في العالم العربي في نصف القرن الأخير أحزاب سياسية , ذات أفكار وأهداف جيدة, وقد كان على هذه الأحزاب أن تنجح في معركة صعبة مع التفكير الديني المتجذر في النفوس والعقول , الا أن هذه الأحزاب خسرت المعركة لعدة أسباب , من أهمها استسلامها لما يسمى القائد الخالد , وقد ظنت هذه الأحزاب على أنها تستطيع التهام القائد وتجنيده في خدمتها , والعكس كان النتيدجة , لقد التهم القائد الحزب وحوله الى مطية للوصول الى أهدافه الشخصية ,التي من أهمها الاثراء الذي لاشبيه له , والتسلط الأسطوري ثم امتلاك الحزب والسلطة وحتى الدولة وتوريثها أيضا الى ذويه , وذلك بمساعدة عوامل عدة منها النزعة والاستغلال الطائفي , الذي يسمح ويشجع أبدية الفرعون , والنتيجة كانت بقاء القائد , الذي هو بحد ذاته طائفة , واضمحلال الحزب , الذي أصبح ذو قلب طائفي وقالب مدني , فالقلب الطائفي كان ضرورة للاستمرار ومصدر قوة ضاربة , والقالب المدني كان وسيلة لتسويق الدجل الذي سمي “علمانية ” , وهكذا خسرت الشعوب كل شيئ , وربح القائد كل شيئ يريده … انحط مقام الدولة وارتفع مقام القائد , والنتيجة المرة هي مانعيشه الآن في العديد من الدول العربية وفي مقدمة هذه الدول سوريا , التي انحطت بشكل مرعب , وهناك من يقول على أن سوريا تحتاج الى خمسين سنة أخرى من التطوير الايجابي لكي تصل الى مستوى مصر الحالي , ولا أجد في هذه المقولة أي مبالغة .
هناك ظروف خارجية ساعدت على افراغ الأحزاب السياسية من مضامينها المدنية , وبالتالي ساعدت على الطغيان الديني الغيبي , منها مثلا انهيار الاتحاد السوفييتي , ومنها أيضا البترول , الذي ساهم الى حد بعيد في تقوية المشايخ وفي اضعاف التيارات المدنية , التي تواجدت في دول لاتملك بترولا أو غيره من الثروات الطبيعية , وهنا يجب التأكيد على أن هذه العوامل الخارجية ليست أساسية وانما عوامل مساعدة , فالأساس هو العامل الداخلي الذي تجلى بضعف المناعة الفكرية الثقافية , التي سمحت للعوامل الخارجية بالتأثير على الداخل , وسمحت للديكتاتوريات بالنشوء والاستمرار عقود عديدة , وما يحدث الآن هو الثمن التي تدفعه الشعوب بسبب تخاذلها وضعفها.