عندما يصبح القتل سياسة يومية، وعندما يتحول الناس إلى متاريس، وعندما يقلد المقتول القاتل، تدخل «الثورة» في العبث، ويتحول «النظام» إلى ميليشيا ويصير الناس خرافا للذبح.
لا صباحات محايدة في سوريا. لا مساءات دمشقية بعد الآن. لا قدرة على تذوّق ملذات النهار. الوجبة اليومية تبدأ بحصاد عدد القتلى أمس، وانتظارات منسوب الدم طوال الساعات، وقد أثقلت دقائقها بتوقع الفواجع.
ولا وقت أبداً للتفاؤل. وحدهم الشهداء الذين لا نعرف أسماءهم يتجددون على دفعات. شهداء الأمس يتصلون بشهداء اليوم، ويدلون على شهداء الغد. فقط الأسماء تتغير… درعا لا تزال على حالها من القَتْلَين: قتل النظام والقتل المضاد. حمص فرغت من أناس، لم يعودوا إليها بعد… وقد لن… ادلب على قارعة دمها تنزف، ريف دمشق يتوجس، حلب تخاف، جسر الشغور ينتظر، ودمشق تتوقع «باب الحارة الدامية».
أمس انفجرت دمشق وتوغلت في أدغال العنف.
النظام، بسيرته القديمة، ومساره الجديد، لا جديد فيه. إنه قديم جداً، متمرّس في ممارسة القبضة، مؤمن بفوهات البنادق ولا يخشى المزيد… «الثورة» بسيرتها الجديدة، اغتالتها بنادقها، سقطت في رشوة الانتقام، استدرجت العنف إلى عقر عقلها وقلبها، وزينت شعاراتها بأسماء الله الحسنى وذيّلتها بأسماء القتلى، وباتت «القاعدة» أو من يتشبه بها، مقبرة متنقلة.
من زمان، بعض مَن في لبنان، نبّه السوريين، أشقاءهم في السراء والضراء عن جد، أشقاءهم في «الخبز والملح» بجدارة الوفاء، اخوانهم في مقاومة اسرائيل… من زمان، نبه البعض السوريين: «حذار السلاح»، «احسبوها»، كي لا تدخلوا نفق «اللبننة». وها قد دخلت سوريا نفقها، ولا ضوء أبداً في نهاياته المتمادية، ولا قدرة لأحد على أن يتراجع إلى بوابته التي فتحت منذ أكثر من عام.
لم يسمعوا صوت العقل. أفتوا بأن القتل حلال سياسي، لاستبقاء السلطة أو للإطاحة بها.
لا وقت لديك لتنحاز أكثر. المعسكران يخوضان معركة بلا أفق. «الثورة» في أحد أطرافها المتعسكرة، باتت تمارس «الجزارة». قد يكون اسمها «القاعدة»، أو قد لا يكون هذا لقبها. لكن فعلها من فصيلة «بن لادن». «الثورة» الناطقة سلماً وتظاهراً نظيفاً، تراجعت، وللنظام يد في ذلك، وللعنف المسلح يدان في ذلك أيضاً.
لا وقت حتى لمواساة أحد، من دون عتب وتأنيب ضمير. تتصل بعلي حيدر، رئيس الحزب السوري القومي الاجتماعي، لتعزيته بمصرع واستشهاد فلذة كبده. تحزن عليه، لأن رصاصاً ملعونا، «مؤمنا» بالطبع، قد غدر به وهو أعزل إلا من انتمائه لوطنه ولفلسطين. ثم، تتصل بالمناضل فايز سارة لتسأله عن ولديه، وقد اختطفهما القمع السلطوي من بيتهما، وهما أعزلان إلا من وفاء للوطن وأهله.. وللحرية فيه. وتحار بعد ذلك، ماذا تقول لهما، ولا تجد في جعبتك إلا ما كنت تقوله إبان «المقتلة» الكبرى في لبنان، عندما كان السلاح قد غدا إلها بصورة مسخ. في لبنان، منحوتات خالدة من القتل. والقتل ليس أعمى أبداً: انه يصيب المقتول، والمقتول معروف. والهدف، قتل السياسة ودفن الأماكن. واضح اليوم، ان لا أحد ينتصر.. إلا على حياة الآمنين والأبرياء.
على أن في هذه المقتلة غرابة، لا كلام يتصل بالمأساة. كل الكلام يعقد قرانه فقط على الاتهام. كل طرف يتهم «عدوه». فلا خصومة عندما يبلغ القتل النحر الجماعي. كل الكلام يتصل بالتوظيف. حتى العالم «الحساس»، لم يذرف دمعة واحدة؟
وحدهم الأهل والأقرباء والأصدقاء يبكون أحباءهم وأولادهم وبناتهم وعجائزهم… وحدهم يتناوبون على أحزان ودموع… وحدهم يعرفون طعم القبضة القاتلة، وقنبلة «الثورة» المقلدة فنون «القاعدة».
لم تعد تثيرنا التصريحات. لم نعد نصدق أحداً. سوريا وحدها، بلا نظامها، وبلا «ثورتها» المنزلقة إلى الحتف، تثير فينا الرغبة في الحزن والرغبة في ممارسة الحداد والرغبة في أن نحبها، على أمل أن تترجل عن «صليب» النظام و«أهلة» «القاعدة»، ومن صَمَت عنها من «الثورة».
منذ أكثر من ربع قرن كتب زكريا تامر «دمشق الحرائق» هل أرهص بما حدث بالأمس؟