لقد كان واضحا منذ التعرف على نصوص الدستور الجديد انه لاجديد به , ذلك لأن النصوص الدستورية فاقدة المفعولية منذ أكثر من أربعين عاما , وأول من خرج عن القانون وعن الدستور كانت السلطة ورجالها , الذين طبقوا دساتير نزواتهم ومصالحهم وبما يتناسب مع مصالحهم المادية .
لقد طلب من الشعب الحكم على جودة الدستور في استفتاء , والفترة الزمنية التي اعطيت للشعب للدراسة والتمحص كانت اسبوعين , ولا أعرف سببا ايجابيا لهذه العجلة ولا أريد التطرف في اتهام السلطة بأنها بذلك تمارس نوعا من “التمريقة”, كما انها بذلك تتجاهل عمدا وجود مؤسسات سياسية , أي احزاب , وهذه الأحزاب لها رأي بموضوع الدستور , وهذا الرأي هو حصيلة نقاش داخلي , لايمكن له أن يتم خلال اسبوعين , وبعد ذلك يلتزم اعضاء الحزب بموقف معين , السلطة لاتشعر غريزيا بوجود مؤسسات , ولا تشعر غريزيا بضرورة النقاش , لأن السلطة بحد ذاتها ليست مؤسسة , وانما شخص , والشخص لايناقش , وانما يأمر , والدستور الذي نحن بصدده هو وسيلة “نظرية” لتنظيم العلاقة بين الحكم الذي هو الحاكم فقط وبين الشعب , الذي هو الفرد فقط , لاتوجد مؤسسات على أي مستوى .
الدستور الجديد يريد التنويه الى أنه يوجد حزب يسمى حزب البعث , لذا شدد الدستور في مقدمته على الانتماء العربي وعلى تحقيق الوحدة العربية الشاملة , والتذكير بصيغة خشبية مكررة ألوف المرات بدور سيوريا الاقليمي وبمخاطر الامبريالية والصهيونية , والتذكير بأن سوريا هي قلب العروبة النابض ووجه المواجهة مع العدو الصهيوني …كلاما شبعناه ولم يعد له أي فائدة أو معنى , بل أضرار جمة .. اذ ان تحديد الانتماء السوري بالعروبة هو أمر غير مقبول من قبل العديد من فئات الشعب السوري , خاصة الأكراد , وهذا التشديد والتحديد سيكون له عواقب وخيمة , لأنه عنصري بامتياز ويلغي انتماء الآخر , الدستور الجديد لم يقتدر على التخلص من أخطبوط العنصرية , الذي قادالبلاد سابقا الى المهالك , ومهما حاول الدستور ترقيع هذه النقطة ..مثلا عن طريق تقديم الكفالات باحترام التنوع الثقافي (القومية الكردية ليست نوع ثقافي ) وغير ذلك من الفذلكات , سوف لن يفلح في تغطية العورة العنصرية , التي كان بامكانه تجاوزها باعلان سوريا على انها سورية فقط , وفي سوريا توجد قوميات متعددة ومتساوية في الحقوق والواجبات , وما هي الجدوى من اغتصاب القوميات الأخرى عن طريق الغائها وعدم الاعتراف بها ؟ , وهل سيصبح الكردي أو الآشوري “عربي” بمجرد اعلان عروبته دستوريا ؟ قلة عقل ! وقلة خبرة وقلة ادراك ثم عدم التعلم من خبرات سابقة .
ثم مايخص العنصرية على المستوى الديني فالدستور الجديد رائد في ممارسة العنصرية الدينية , وذلك كدستور عام 1973 , حيث المادة الثالثة االتي لم تتغير , والتي تنص على أن دين رئيس الدولىة هو الاسلام وأن الفقه الاسلامي هو مصدر رئيسي للتشريع , ثم وضع الأحوال الشخصية بيد المشايخ والخوارنة , وبذلك تلبننت الأحوال الشخصية وتطيفت وتشرذمت الى مئات من الأعراف والتقاليد التي تتبعها كل طائفة من الطوائف ,ان الدستور الجديد بهذه الشرذمة يلغي وجود الدولة , ويرسخ وجود العشائر والطوائف , ويلغي المساواة بين البشر , فالمسيحية ترث كما يرث المسيحي , اما المسلمة فلا ترث كما يرث المسلم .. وهذا أمر دستوري في دولة ..يا للسخرية !!!.
ثم ان الدستور الجديد لايسمح بترخيص أحزاب على أساس ديني أو عرقي أو قبلي أو مهني أو فئوي ..الخ , ومن يحكم على ذلك ؟ انه وزير الداخلية ولجنة معينة من رئيس الجمهورية , أي ان السلطة أولا تستطيع رفض ترخيص أي حزب لاتريده , وثانيا هل تتوفر هذه الشروط في الأحزاب التي تعتبرها السلطة مرخصة حكما , وهي أحزاب الجبهة الوطنية ؟؟, وكيف يستقيم دستوريا منع تأسيس حزب على أساس مهني , بينما ينص الدستور على التقسيم المهني لأعضاء مجلس الشعب ,بين عمال وفلاحين ومستقلين ..الخ ؟؟.
أما عن المادة الثامنة ..فالموضوع أكثر تهريجية , لقد ألغيت المادة الثامنة بما يخص الحزب , الا أن الصلاحيات التي يتمتع بها الرئيس دستوريا هي بمثابة مادة ثامنة للرئيس , الذي بيده كل شيئ , واذا كان الغاء المادة الثامنة حقيقة , فلماذا يصطف طلاب المدارس يوميا في المناطق التي تسيطر عليها السلطة للهتاف بشعار البعث , وحدة ..حرية ..اشنراكية , ومع أنه لاوجود لمفردة “الاشتراكية ” في الدستور الجديد , وهل تخلى الجيش عن عقائديته البعثية أو حتى عنصريته الطائفية أو العشائرية أو العائلية ؟؟ وما هي صبغة منظمات “الشبيبة ” في المدارس ,هل الشبيبة بعثية ؟؟, أو انه توجد شبيبة سورية قومية أو شيوعية ؟؟, وهل يوجد مدير مدرسة واحدة في سوريا لاينتمي , ولو كان شكليا الى حزب البعث ؟؟ , وهل يمكن تعيين حتى زبال دون موافقة شعبة الحزب ؟؟.
صلاحيات رئيس الجمهورية المطلقة لاتسمح له الا أن يحكم “كفرد” , انها صلاحيات تلغي أي امكانية لدسترة الحياة السياسية في البلاد , حيث لا حدود لصلاحيات رئيس الجمهورية , وهذا يعني على أن الضروة الوحيدة لاحداث “مؤسسة ” رئاسة , هي “هواية الرئيس ” واحداث المؤسسة ليس فرض عليه , , ومن هنا يجب القول على ان الدستور يوجب ويفرض “الفردية” وبالتالي الديكتاتورية ,والديموقراطية في دستور من هذا النوع هي خيار شخصي للرئيس , وليس اجبار له ,والرئيس اضافة الى ذلك يملك سلطة التشريع كمجلس الشعب , ولا يمكن نقض تشريع يصدره الرئيس الا بأكثرية ثلثي الأعضاء , وعند حدوث ذلك يأمر الرئيس بحل المجلس , وللرئيس الحق في تحويل أي قضية يعتبرها مهمة الى “استفتاء” وذلك بدون رأي مجلس الشعب , والرئيس ليس مسؤولا عن الأعمال التي يقوم بها مباشرة الا في حال الخيانة العظمى , كما أن الرئيس ليس مسؤولا عن الأعمال التي يقوم بها بشكل غير مباشر , أي عن طريق الفريق الذي يعمل تحت امرته , فهو القائد العام للقوات المسلحة , يعطي الأوامر , الا أنه غير مسؤول عن أعمال هذه القوات المسلحة , كيف ذلك بربكم ؟.
الحديث عن الدستور لاينتهي , الا أنه من الضروري التذكير بحقيقة مؤلمة , وهي ان المواطن السوري لم يشعر لحد الآن الا بتفاقم المشاكل المزمنة .. لاحريات ولا ديموقراطيات ولا رخاء ولا مساواة ..وبالتالبي لا اصلاحات !