طرابلس..وجود مهمش ودور متناقض !

قيل قديماً إن هواء المدينة يجعل المرء حراً. مصدر هذه الحرية هو الكثافة السكانية التي تجعل مستحيلاً على كل امرئ أن يعرف كل امرئ آخر، كما في الريف. غربة الفرد في المدينة تحرره. علاقات الريف حيث يعرف الجميع بعضهم تقيد سكانه، تقيد حريتهم. شفافية السلوك في الريف تقيد الحرية. اختلاط الفضيلة بالرذيلة في المدينة يولد كثافة باعثة على الحرية، وإلى حد ما على التهذيب في العلاقات.
لكنه لا بد للحرية في المدينة من رأس يحركها وقاعدة تستند إليها، وإلا تحولت الكثافة السكانية وحرياتها إلى عشوائية. لذلك لا بد للمدينة من صنائع وزراعات وخدمات تشكل قاعدة اقتصادية اجتماعية يستند إليها الناس في معاشهم؛ لا بد للمدينة من حوض زراعي خارجها، وعدد من الحرف والصناعات بداخلها، وعدد كبير من الذين يقومون لهؤلاء وهؤلاء ممن يريدون المتعة أو العمل.
ولا بد من رأس يحرك المدينة. الرأس هو ما يسمى النخب الاقتصادية (البورجوازية) والثقافية (المثقفون) والسياسية (السلطة بجميع أشكالها). تتركز السلطة في المدينة على ما حولها، إلى حد ما تقطتع المدينة الفوائض مما ينتج حولها. على ما تقتطعه المدينة من إنتاج الريف وإنتاجها يعيش أعيان المدينة وسلطاتها. والتبادل داخل المدينة، وبينها وبين الريف يوفر دخلاً للمدينة؛ ناهيك بالتجارة طويلة المدى.
عندما تفقد المدينة رأسها وقاعدتها تصبح جسماً هشاً، كالبالون على الأمواج تتقاذفه الرياح. طرابلس مدينة فقدت مقوماتها الاقتصادية، فقدت صناعتها وحرفها وزراعتها وخدماتها منذ عقود من السنين. ونخبها الاقتصادية تعيش خارجها؛ بالأحرى ما تدخره هذه النخب في المصارف يثمر خارج المدينة. ونخبها الثقافية تهمشت بعد أن تحولت المدينة إلى كثافة سكانية عشوائية.
تتحول حريات المدينة إلى عشوائية عندما تفقد المدينة رأسها وقاعدتها. تكثر البطالة، يشتد الفقر، يفقد العقل قدرته على التفكير؛ تصير مدينة مفرغة من وظائفها الاقتصادية والاجتماعية التي كانت سبب وجودها. يصير الوجود من دون معنى. ما دام النظام قد حوّل الناس والفقراء والعاطلين إلى مهمشين لا حيلة لهم إلا تسول المعونات والاحتماء وراء هذا الزعيم أو ذاك في سبيل تأمين استمرارية العيش فاقد المغزى.
ما دام الإنسان، ساكن المدينة العشوائية، قد فقد المغزى في المدينة، فإنه لا بد أن يطلب هذا المغزى في مكان غير الأرض. في مكان متسام يطل من السماء، وهو السبب في وجود الكون واستمراره. حياة صغيرة على سطح الكوكب لا بد لها من عزاء كوني، حتى ولو كان وهمياً. بين السياسة والدين، ما نفقده في السياسة (في الاقتصاد السياسي الاجتماعي، ولا سياسة إلا إذا كان جوهرها الاقتصاد، وبالتالي تطور المجتمع) نعوضه بالدين، بالأوهام حول الدين أو ما نعتبر أن هو الدين. التعويض عن الواقع بالأوهام أمر طبيعي. ليس لهؤلاء الناس شيء يستندون إليه سوى أوهامهم. أفقدهم النظام كل ما هو مادي وروحي.
تجمعت في طرابلس وسكانها كل سلبيات الطوائف والمناطق الأخرى في لبنان. هي النظام الذي أفقد لبنان مقوماته الاقتصادية، هي الطائفة الإسلامية الأخرى التي يعتقد الكثيرون أنها شبه مغلقة (يقولون دولة ضمن دولة)؛ هي الطائفة الأخرى المحبطة التي لا تعرف كيف تسترد سيطرتها؛ هي الامتداد العمراني الممتد على طول الساحل اللبناني من دون هوية ريفية أو مدينية (عمران لا هو بالريف ولا بالمدينة)؛ هي قوى عاملة مهاجرة (لمن استطاع) وبورجوازية أموالها في الخارج ومثقفوها عقلهم في الخارج؛ هي فقر منتشر على أطراف المناطق والطوائف الأخرى، لكنه يضرب في عمق هذه المدينة؛ هي المدينة التي لم تعد مدينة؛ هي الوطن الذي لم يعد وطناً، هي الحرب الأهلية لا بين طائفة وطائفة، ولا بين متراس ومتراس، بل بين الجماعات الصغيرة التي تحمل كل منها في الداخل ضدها، والتي تنقلب ضد من سلحها لدواع قصيرة المدى سواء كانت إيديولوجية أم مالية. في هذه المدينة الكل ضد الكل، بانتظار قرار من الخارج. فقدت مقوماتها الداخلية. طبيعي أن تعتمد على عوامل وموارد خارجية. أليس الوطن العربي كله، أو بعضه، يعتمد على عوامل وموارد خارجية؟ النفط، وهو المورد الأكبر، يعتمد على شركات خارجية لإدرار منافعه؛ وما أقلها بالنسبة للمحليين من الشعوب العربية.
مأساة طرابلس هي مأساة لبنان، لكنها مكثفة في المدينة أكثر مما في غيرها.
في حرب التحرير الوطنية من أجل الجنوب، تفرج باقي لبنان. لكن ظاهرة التحرر الوطني كانت ظاهرة معزولة في وطن عربي تحكم أقطاره أنظمة الاستبداد. ما عاد باستطاعة قطر أن يكون معزولاً عن الحراك (الثورة) العربي، وما عادت طرابلس تستطيع أن تكون معزولة عن لبنان، وما عادت بقية لبنان تستطيع أن تتفرج على طرابلس. كان تحرير الجنوب مناسبة لتوحيد لبنان، وإن مؤقتاً؛ ما يجري في طرابلس، والشمال عامة سوف تكون له نتائج معاكسة إن بقي لبنان متفرجاً. في طرابلس ثورة، ثورة معكوسة. أنتجت الثورات العربية مجتمعات مفتوحة؛ ما يحدث في طرابلس يؤدي إلى التقوقع، إلى مجتمع يحكمه استبداد من نوع آخر، استبداد تمارسه جماعة عشوائية بدلاً من فرد يستأثر بالسلطة.
ينقسم اللبنانيون إلى فريقين: فريق يرفع راية الإسلام السياسي السني، وفريق يرفع راية الإسلامو فوبيا، أي الخوف من الإسلام. هي حالة تتعدى الطائفية في خطورتها. كان للطائفية قواعد في السلوك والكذب والنفاق. الحالة الجديدة ليس فيها شيء من ذلك. هي حالة إما غالب أو مغلوب. يرضى أصحاب الإسلامو فوبيا بالطائفية ويخافون من الإسلام السياسي، فهل هناك فرق بين الاثنين؟
يفترض أصحاب الإسلام السياسي علاقة محددة بين الدين والسياسة. عندهم تخضع السياسة لاعتبارات الدين، وينتهون إلى افتراض توحد الاعتبارات الدينية لوضعها تحت جناحهم. هم، باسم الدين؛ ينطقون باسم الشريعة. الشريعة معطى من الله. إذن فهم الذين ينطقون باسم الله كما يظنون. أما أصحاب الطائفية فهم لا يهتمون بالنقاش العام حول الدين والدولة؛ ما يهم فقط هو حصة الطائفة، أو أصحاب المذهب، من مغانم الدولة. أصحاب الإسلام السياسي يريدون الدولة كلها لهم، أما أصحاب الطائفية فهم يريدون حصتهم من الدولة على قدر حجمهم، أو أكثر أو أقل. يستطيع الطائفيون التعايش مع الطوائف الأخرى. ولو على زغل، أما أصحاب الإسلام السياسي فهم لا يستطيعون إلا إخضاع أتباع الطوائف الأخرى. تنتهي الطائفية إلى ديمقراطية زائفة، أما الإسلام السياسي فهو ينتهي إلى فاشية بالضرورة. في كل منهما يتلاشى الفرد وقيمته نظرياً وعلمياً. في كل منهما تكون الأولوية للجماعة الفرد.
ما يحدث في طرابلس والشمال، وربما في مناطق أخرى من لبنان، هو تحويل الطائفية السنية إلى إسلام سياسي على جزء من الوطن، على الأقل. هذه ليست المحاولة الأولى، بل سبق إليها «التوحيد» في النصف الأول من ثمانينيات القرن الماضي.
خطورة الأمر هي استحالة التوفيق بين الإسلام السياسي والتسويات الطائفية، وقد كان اتفاق الطائف واحداً منها. التعدد الطائفي الديني في لبنان يجعل الإسلام السياسي أمراً مستحيلاً أو خطراً على الوطن وأهل السنة.
بينما يرتاح أتباع الطوائف والمذاهب الأخرى إلى طائفيتهم، يعاني أهل السنة من تناقض داخلي عميق نتيجة هذا الصراع بين الإسلام السياسي والطائفية السنية في الداخل.
هذا التناقض، بالإضافة إلى تجريد المدينة من مقومات وجودها كمدينة، يمكن أن يعرض الجميع لأخطار كبرى.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *