من دمر سوريا؟البعثيون أم الأصوليون!

         على شاطىء بحر بانياس، الذي يحتلّه تلوّث المصفاة القاتل، التي لا نعرف حتى الآن السر الكامن خلف بنائها في منطقة سكنيّة للغاية، وقصور عبد الحليم خدّام، نائب رئيس الجمهوريّة السوري، وعزّ الدين ناصر، رئيس ما يسمّى بالاتحاد العمّالي العام السوري، وعلي زيّود، أحد المحافظين السوريين السابقين، من الذين سارت بأخبارهم الركبان، كان ثمّة صياد سمك تجاوز الستين من العمر، يندب حظه التعيس، فباب الرزق مغلق بالكامل اليوم، وهو مضطر للذهاب إلى بلدة بانياس لشراء سمك لرئيس المخفر، الذي لن يصدّق، لو بلع له المصحف – كما قال – أنّه لم يصطد اليوم سمكة واحدة؛ ورئيس المخفر، المرتبط بسلسلة متصاعدة من الفاسدين، يفرض على الصيّاد الفقير إعطاءه نصف ما يصطاد، وإلاّ؟ فالرائد بحاجة إلى حصّة، والمقدّم بحاجة إلى حصّة، والعقيد بحاجة إلى حصّة..!
بانياس، البلدة السوريّة القابعة بين مدينتي طرطوس واللاذقيّة، اختصار مريع تبسيطي للانهيار الذي نعيشه في سوريّا، على كافّة الصعد: التلوّث الكارثي يقتل أهل المنطقة ببطء مدروس ويقضي على كافة إمكانيّات التنشيط السياحي، العمل الأفضل لمنطقة مذهّبة الجمال؛ الطائفيّة تقسم البلدة إلى جنوبي سنّي وشمالي علوي تلحق به بعض البيوت المسيحيّة، والتناقض بين الطرفين أقرب ما يكون إلى صدام الحضارات؛ في القسم السنّي تقبع قصور السيّد عبد الحليم خدّام الذي اشتهر بأنه من أكثر مهاجمي أمريكا السوريين عنفاً، حين كان أبناؤه – وسمعتهم في اللوج – يقومون بافتتاح أحد أشهر المطاعم الأمريكيّة في سوريا، والذي أغلق لاحقاً بفضيحة ولا حكايا مدام كلود؛ عبد الحليم خدّام، الذي زرت قبل سنوات بيت عائلته للتعزية في حادث وفاة وكان المنزل أكثر من بسيط، هو واحد من أغنى أغنياء الشرق الآن، وأولاده يبيضون مشاريعاً رابحة لا تبدأ بالمطاعم ولا تنتهي بالسلاح، دون حسيب ولا رقيب، لأنّ أيّ مواطن في سوريّا مطعون في شهادته وكفاءته العقليّة حين يمسّ بالنقد الحواريين، آل البيت، الذين لا يطالهم الباطل، بقوّة التبعّث، لا من فوق ولا من تحت؛ وفي القسم العلوي يصادفنا قصر علي زيّود، الذي كان واحداً من أشهر القياديين في سوريّا، والذي لم يبق أحد في منطقة ريف دمشق حصراً إلاّ ونالته أشياء من مآثره الكريمة؛ وقصر عزّ الدين ناصر ، الذي قيل لي من قبل البانياسيين، إنّه أُنجز في عام، في حين أنّ مشفى المدينة ما يزال يصرخ منذ عشرين عاماً طلباً للتحسين، والمسئولون لا همّ لهم غير ترويج الحكمة الصينيّة عن القرود الثلاثة: لا أسمع، لا أرى، لا أتكلّم!
فقر مدقع من جهة، وغنى هو الأفحش في المنطقة من جهة أخرى! طائفيّة تفتت سوريّا إلى شعوب وقبائل متناحرة! فساد هائل يبدأ من الشرطي فرئيس المخفر فمدير الناحية فمدير المنطقة..! تلوّث مخيف في البيئة والأنفس ومنظومات القوانين والشرائع! وإذا كانت القبضة الأمنيّة الحديديّة، التي تراخت الآن كثيراً بفعل عوامل الحت والتعرية من الداخل والخارج، الصمغ الموشك على التبخّر الذي يلضم حبات السبحة السوريّة في خيط أقرب إلى الاهتراء اليوم من أي وقت آخر، فإنّ الانهيار الذي نراه، كزرقاء اليمامة، قادماً بلا ريب، يشعر به ويخشاه كلّ مواطن سوري، لكن بعضهم ما يزال يؤمن بفضائل التأجيل: وتأجيل الموت لا يمنعه!
لم يعد في وسعنا، كنبوئيين يعجنهم صمت التشاؤم، غير أن نقرأ بسذاجة أطفال الفقراء أوراق النعوة السوداء، تحمل إلى أحزاننا أخبار موت وطن الحرف والأبجديّة، أخبار سقوط أعمدة تدمر واحتراق كنيسة حنانيا وسرقة ألواح إيبلا، أخبار تمزّق أجسادنا وتوزّع شظاياها بين شرق العالم وغربه!
ماذا فعلتم بنا؟ من رمانا بكلّ هذه السكاكين، المزيّنة بشعارات فارغة، وعلامات فارقة فارغة، ونقوش تتعب العين فارغة؟ من ذبحنا، في غفلة من الزمان والمكان، من الوريد إلى الوريد؟ من أقام هذا الجنّاز الصامت المتواصل للحظات فرحنا الهاربة؟ من اعتقل صيرورتنا وأوقف دهشة فرح أطفالنا في سجن صحراوي مجدب؟ من أصدر هذا القرار التاريخي بمنعنا عن الصراخ وأعيننا تقتلع وألسنتنا تقطع؟
البيضة أم الدجاجة؟ سؤال نعلكه على الدوام، منذ أكثر من ربع قرن! هل الأخوان المسلمون، الذين نشروا إرهابهم وأسسه المعرفيّة في كلّ بيت سنّي سوري منذ أن وجدوا، هم المسئولون عن قتل سوريّا، بكل طوائفها؟ هل البعثيّون، الذين أقفلوا كلّ الأبواق، باستثناء تلك التي تغنّي لهم، وقمعوا كلّ الأخيار أو هجّروهم أو قتلوهم، في ظلّ شعارات واهية كاذبة اخترعت أصلاً للحفاظ على المكاسب والدفاع عن الفساد، هم الذين جعلوا وطن آرام على شفا حفرة من النار لم ينقذه منها أحد؟ إذا سألت بعثيّاً عن سبب هذا الاستبداد، علّة كلّ العلل، الذي استشرى في سوريّا منذ عام 1963؛ فسوف يقول: الأصوليّون، والأخوان أولهم، هم السبب؛ فحين أراد هؤلاء التغيير بقوّة الإرهاب وفي ظل العلم الطائفي، لم يكن أمامنا، كبعثيين، سوى استخدام كلّ ما هو متاح للدفاع عن الوطن ووحدته وتماسكه، ومن ذلك الاستبداد! وإذا سألت أخوانيّاً عن مصدر هذه الرمال المتحرّكة، التي نسحب نحو أعماقها باستمرار، مغلقي الأعين، ضائعي الإرادة؛ فسوف يقول: الاستبداد البعثي! وإذا حاولت مناقشته بأنّ الأخوان هم الذين أعطوا البعثيين الذريعة كي يكونوا استبداديين من الطبقة الأولى؛ فسوف يجيبك بأن الظواهر الطائفيّة العلويّة السلبيّة، وأبرزها سرايا الدفاع لصاحبها رفعت الأسد، كانت السبب الذي ولد ردّات الفعل الطائفيّة السنيّة وغير السنيّة، وأوصل البلد بالتالي إلى هذه السويّة من الانهيار على كافة الأصعدة. لكن الواقع يقول، إنّ العقل التكفيري الأخواني، الذي لا يستوعب حتى الآن – كلّ ما يقوله الأخوان حاليّاً عن ثقافة قبول الآخر لا يعدو كونه أحد أشكال التقيّة السياسيّة ذات المرتكز الديني – وجود آخر مخالف في الرأي أو العقيدة، باستثناء على طريقة أهل الذمّة، هو الذي خلق في اللاوعي الجمعي العلوي هذا الشعور برغبة التوحّد طائفيّاً لمقاومة خطر الإزالة الدائم، خاصّة وأنّ ذواكر بعضهم غير المثقوبة ما تزال تحمل شيئاً من بعض ممارسات عثمانيّة بحقهم، تحت رايات التكفير الديني، لا تخلو من رائحة الإبادة الجماعيّة.
إنها الحلقة المفرغة التي أوصلت سوريّا إلى مستوى من الدوار لم تعرفه من قبل. جاء حزب البعث إلى السلطة، شاهراً سيف العداء للبورجوازيّة السوريّة الناشئة، التي حاولت مع تسلّمها حكم البلد من الفرنسيين، خلق جو ليبرالي ديمقراطي معقول، وفق فهم أولئك شبه البدئي لليبراليّة والديمقراطيّة؛ لكن الأهم هو أنّ حزب البعث، إضافة إلى تشخيصه للحقد البروليتاري عموماً على البورجوازيّة، فقد كان المنفس أيضاً لحقد الطوائف الصغيرة على السنّة، الذين أطبقوا على رقبة سوريّا منذ أيام معاوية وحتى عام 1963، باستثناءات تاريخيّة لا تكاد تذكر. وباستثناء مسيحيي المدن السوريّة، فقد كان أبناء الطوائف الصغيرة،الذين ركبوا موجة التبعّث لأهداف كثيرة، من سكّان الريف الذين يفتقدون عموماً للفهم البورجوازي لمعنى أن تكون حاكماً، فكانت النتيجة أن تمّ ترييف المدينة، بالمعنى السلبي للكلمة، عوضاً عن تحضير الريف. – وعلى رأس هؤلاء كان العلويّون.
العلويّون كما عرفتهم، وأدّعي أنّ ذلك لم يكن سطحيّاً، لهم من الميزات السلبيّة ما يجعل وصولهم إلى مطلق سلطة لا تنقصه المخاطر الكثيرة، رغم أن إيجابيّاتهم، التي توقفنا عند بعضها في مقالات لنا، ليست غير واضحة؛ ومن أبرز السلبيّات العلويّة ذات البعد الإرثي التقليدي، ما يلي:
1 ـ كباقي السوريين عموماً، ولأسباب لسنا بمعرض شرحها الآن، العلويّون طائفيّون، إلاّ من رحم ربّك، وطائفيّتهم التي ما تزال تؤذي مسامعنا تعرف أبرز تجلّياتها في إمساكهم القوي بمحاور الأجهزة الأمنيّة، التي هي الحاكم الفعلي للبلد؛ ومن بين خمسة شعب أمنيّة هي العسكري والدولة والسياسي والجوّي والجنائي، لا يمسك السنّة، الغالبيّة، إلاّ برئاسة أمن الدولة، الذي يسيطر العلويّون على فرعه الهام، أي، الداخلي؛ أمّا بقيّة الطوائف، وأحدّد هنا المسيحيين، الذين يوازون العلويين كتعداد ديموغرافي ويتفوقون عليهم، بما لا يقارن، علميّاً وثقافيّاً، فمستبعدون بالكامل تقريباً عن المحاور الأمنيّة الهامّة. وطبعاً، لا يعقل أن تكون الصدفة المسئولة وحدها عن هذا الاحتلال العلوي لمراكز القرار الأمني!
2 ـ إضافة إلى الطائفيّة التي تكاد تكون هويّة سوريّة عامّة، جاء العلويّون معهم إلى الحكم بشيء كاد أن ينقرض من دنيا البورجوازيّة السوريّة اسمه العشائريّة المناطقيّة. ولمن لا يعلم، فالعلويّون مقسّمون عشائريّاً ليس دون حدّة، إضافة إلى انقسامهم المناطقي: علويّو جبلة ومحيطها مقدّمون على علويي طرطوس، الذين هم بدورهم مقدّمون على علويي حماة، المقدّمين على علويي حمص، أسفل السفح السلطوي العلوي!
3 ـ باستثناء الطبقة الاقطاعيّة العلويّة، كآل الكنج مثلاً، والتي كان اقترابها من السلطة شبه نادر، فالعلويّون يمتازون عموماً بنوع من القساوة الاستثنائيّة، التي فرضت عليهم نتيجة ظروف العزلة والقهر والبيئة، يصعب أن تجدها عند غيرهم من السوريين، باستثناء الأصوليين السنّة، الذين يؤدلجون قساوتهم بطريقة تبدو أية مقاربة عقلانيّة معها مسألة أقرب إلى العبث. وقد كان الشعب السوري الدافع الوحيد لضريبة التقاء حجري رحى القساوتين: العلويّة والأصوليّة السنيّة.
4 ـ وبسبب البنيان الأبوي-البطريركي العشائري للتركيبة العلويّة، فقد كان من الصعب أن تعرف المؤسّسات التي حاولوا توطيد أركانها أي شكل ديمقراطي، وكان الاستبداد بالتالي الفرز الطبيعي تماماً لبنيان كهذا. وإذا ما حاولنا الاستناد إلى بعض الوثائق النادرة التي صوّرت بخجل أسلوب التعامل المؤسّساتي السوري العلوي، مثل كتاب مصطفى طلاس الأخير، حول الأشهر الثلاثة التي هزّت سوريّا، فسوف نكتشف بقليل من الجهد أن الاستبداد هو المعيار في التعامل بين كل رئيس ومرؤوس، على كافة الصعد. وهذا الأمر يتعلّق، كما أشرنا باستمرار، بالطبيعة لا بعقيدة أو أيديولوجيا مكتسبة. الأسلوب الأبوي البطريركي هذا ذاته، هو الذي استبعد المرأة عن أي بنيان سياسي جدّي، فصارت دمشق بالتالي عاصمة التطرّف القبيسي الديني من جهة، ومدينة عشرات ألوف العاهرات، من جهة أخرى: والإثنان وجهان لعملة واحدة – تشييء الأنوثة.
5 ـ ولأن العلويين انتموا على الدوام عموماً إلى بيئة بسيطة معزولة عن الثقافة الحقّة، فقد افتقد النظام الذي وضعوا أسسه الفيلسوف المؤدلج، عالم النفس المؤثّر، وعالم الاجتماع المراقب للحركيّة البشريّة؛ واستبدل هؤلاء بشعراء فطريين، أو كتّاب أغنية بسيطة، أو قصصيّين بدائيين؛ بل إن فيروز، التي كانت يوماً الضمير السوري الذي لا يعرف التعب، استبدلت بنوع من الإصرار المملّ بظواهر ريفيّة من نمط فؤاد فقرو وعلي الديك.
6 ـ الأخطر من كل ما سبق هو أنّ العلويين، الذين عانوا على الدوام من سيف التكفير السنّي والطعن في الأسلمة، اختاروا المزاودة على الأصوليّة السنيّة في التأسلم، فدخل البلد كله في “رالي” أصولي جعل من حلب كابول بلاد الشام ومن دمشق أهم مسرح للتنافس العلني بين التيّارات الأصوليّة، في حين يسعى العالم كلّه إلى معالجة هذا النوع من الخلل الفكري، بما يمتلكه من أساليب.
هل ثمة أمل؟ سؤال يطرح نفسه بقوّة هائلة، في حين يحاول كلّ سوري البحث له عن فسحة حلم في الغد الذي قد لا يكون أفضل من اليوم. اعتقادنا المطلق أن الأبواب كلّها مسدودة، والأمل الوحيد الباقي لدينا كسوريين، لا في العير ولا في النفير، هو الهجرة إلى وطن يحترمنا كي نحترمه؛ إلى وطن نمتلك فيه ذواتنا كي نستطيع الدفاع عنها؛ إلى وطن لنا فيه بيت وأهل وصوت، لا بقعة من الأرض اختارتنا لتتاجر بنا وتشيئنا وترفع في وجهنا العصا الغليظة كلما أردنا التنفس بالطريقة غير التقليديّة.
الفساد الذي زحف إلى نفوس الجميع، بدءاً بشرطي المرور، يغلق الباب على أيّة لحظة أمل بنظافة يمكن أن تعيد إلى الوجه السوري شيئاً من براءته التي افتقدها بتصاعد تدريجي منذ إحدى وأربعين سنة. الاستبداد – وتوابعه – يجعل من المستحيل على السوري العادي أن يحلم بلقمة غير مغمّسة بدم الرذيلة، لأنه لا يستطيع “أن يعيش” إذا أصرّ على أن يكون شريفاً، فـ 97 بالمئة من دخل سوريّا يذهب إلى 3 بالمئة من شعبها، وإذا حاولت أن تسأل أو تطلب تفسيراً لذلك فهنالك ألوف التهم الجاهزة: بدءاً بقميص عثمان الإسرائيلي وانتهاء بثوب إيّاد علاّوي الأمريكي! الانتهازيّة- الوصوليّة التي تميّز جيل طلائع البعث وشبيبة الثورة والتي تجعل واحدهم على استعداد لفعل أي شيء في سبيل الانتماء إلى طبقة الثلاثة في المئة! الطائفيّة التي تأكل الأخضر واليابس، والتي تجعل من حياتنا، كمواطنين لا ننتمي لغير الوطن، ضرباً من الغباء الأعزل! الأصوليّة التي نمّاها العلويون كي يرفعوا عن أعناقهم نير التكفير، والتي تجبرنا، كليبراليين علمانيين، على مدّ أصابعنا إلى أعناقنا كلّ صباح كي نتلمس إذا ما كان قد بقي فيها شيء من نبض وحياة!
الأصوليّون والبعثيّون: وجهان لعملة واحدة اسمها الفساد والاستبداد. إنهم مثل الأعمى والمشلول: كلّ بحاجة للآخر إذا أراد أن يمشي. الأصوليّون والبعثيّون، كلّ يبرّر وجود الآخر ويقويّه: الأصوليّون بحاجة إلى الاستبداد البعثي، الذي يقمع الجميع عدا الأصوليين؛ والبعثيّون بحاجة إلى الأصوليين كي يبرّروا استبدادهم وبالتالي فسادهم ومنعهم كافة أشكال النقد أو الشفافية أو الديمقراطيّة. وما دام الطرفان يحتكران حق الحب والحياة والكلمة في الوطن الأقدم، لن يكون هنالك جواب على سؤال: أين نهاية النفق المظلم؟

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *