لافروق كبيرة بين بنيات الشعوب العربية , ولا فروق كبيرة بين ديكتاتورياتها , وبالتالي لافروق تذكر بين الحلول لمشاكلها , أقرب الدول العربية الى بعضها البعض هي العراق وسوريا ,هناك انظمة جمهورية (شكليا) وهناك كان البعث والتوريث , ثم الطائفية , والصراعات الفئوية , التي انحدرت من المستوى القومي الى المستوى المذهبي الشخصي العائلي العشائري , كما أنه لافرق كبير بين الوضع الدولي بالنسبة للعراق وسوريا , كانت العقوبات , التي انهكت الشعب العراقيوالشعب السوري , كل ذلك تكلل في العراق بالغزو عام 2003 , وبغزو سوريا المتعدد دوليا, المستقبل يبدو معتما وداكن السواد .
سوريا تعاني , كأي دولة خاضعة للديكتاتورية المزمنة من فقدان قيم . وامتلاك قيما أخرى , وما فقدته سوريا بشكل رئيسي هي قيم “المواطنة” وما كسبته هي قيم شوهت وجه المجتمع السوري وممارساته , ما خسسرت سوريا هو دين المواطنة المدني , وما كسبته هو دين الانتماءات الفئوية الطائفية.
الدولة ترتكز بشكل رئيسي على المواطنة , التي تقوم على أساس ائتلاف مجموعة بشرية متعددة الأطياف دينيا وعرقيا وقوميا ..الخ ثم دمج كل ذلك في كيان سياسي وجغرافي واحد , وبذلك تستحق تسميتها دولة ,الدولة السورية فقدت هذه المقومات , وذلك لانها انحدرت من مستوى الجامع لكل الفئات , الى مسنوى المفرق للفئات عن بعضها البعض , لم تعد هناك من طريقة لتعامل الفئات مع بعضها البعض الا طريقة “السيطرة” , أي ان فئة يجب أن “تسيطر” على فئة أخرى , وذلك لمنع الفئة الثانية من “السيطرة ” على ألاولى , ثم ان السلطة جددت نمطا قديما , هو نمط التقسيم الطائفي للمجتمع , الذي يحجر ويكلس فئاته , ويجعل من الحروب بين هذه الفئات أي الحروب الأهلية, أمرا لامناص منه , فالحروب الأهلية تصبح حتمية عندما تتقلص خيارات المواطن الى خيارين ..اما قاتل أو مقتول ,ولا يريد احد أن يكون مقتولا , لذا يتحول الجميع الى قتلة , والى القتال , وها نحن في هذه الحالة منذ سنين .
لاتوجد دوافع للدفاع عن وطن تحول الى موطن , والفرق بين الوطن والموطن , هو كالفرق بين البيت والفندق , فعلاقة الانسان ببيته , هي غير علاقته بفندقه , وتحت ظل الديكتاتوريات يتحول الوطن الى موطن (في أحسن الأحوال) , وتصبح علاقة الانسان بالموطن علاقة هشة تقتصر على تبادل بعض المصالح الهامشية , لاروح بها ولا قدسية لها , هي علاقة محدودة زمنيا , لاعمق بها , ولا تشابه بها بين مصير المواطن ومصير الموطن , لكل مصيره , وهذا هو الفرق بين الموطن والوطن , فللمواطن والوطن مصير مشترك , وفكرة المصير المشترك هي الفكرة التي دمرتها الديكتاتوريات أولا , فالمواطن لايريد مصيرا مشتركا مع الديكتاتور , الذي يختذل الوطن بشخصه أو بحزبه أو عائلته أو جماعته أو عشيرته , والغربة الأكبر بين الوطن والمواطن تحدث عند اختذال الوطن بالشخص , لأن الاشكال الأخرى للاختذال بالعشيرة أو بالحزب تعتبر اشكالا راقية بالنسبة للاختذال بالشخص , ماهو موجود عندنا في سوريا هو من أخطر وأعتى وأضر أشكال الاختذال , ومن هنا فان تغرب المواطن عن وطنه هو من أشده .
الانظمة الشمولية والديكتاتورية القائمة على الحزب الواحد أو الشخص الواحد , والتي تختصر البلاد بأكملها تاريخيا وقانونيا وسياسيا بتاريخ وقانون وسياسة الشخص , هي انتهاك لقضية المواطنة , انتهاك يحول الوطن في أحسن الأحوال الى مكان للسكن والمساكنة , لايمكن تقبل اختذال الوطن بكامله ثقافيا واجتماعيا وسياسيا بالشخص , الفلسفة والتاريخ والسياسة لها منبع واحد هو أقوال الرئيس , وحتى نوبات الضحك التي انتابت الرئاسة الكريمة في العديد من الحالات كانت نوعا من العظمة الرئاسية , التي استحقت دائما اطلاق العنان لنوبات التصفيق , كلما ضحك صفق القطيع , وهل يمكن اعتماد الوطن كهوية للمواطنة عندما يتحول أمر الوطن الى مهزلة تهريجية من هذا النوع , الضحك المضحكلم لم يكن الكارثة الأكبر , الكارثة الأعظم والأكبر كانت في اغتيال الحريات واغتيال الحقوق الاساسية للمواطن واشاعة التمييز القومي والديني في المجتمع وما يتبعه من تعصب وعنصرية وما يتلوه من صراعات وكراهية وزعزعة للسلم الأهلي , وما يعقبه من تعريض البلاد الى مخاطر الحروب الأهلية ,
لقد كان من الممكن تجنب كل ذلك , وكان من الممكن بناء دولة مدنية ديموقراطية حرة تحت سقف من العدالة الاجتماعية والشرعية الداخلية والخارجية , وكان من الممكن ان تصبح هوية السوري “مفخرة” في العالم وقدوة لشعوب الأرض , الا أن البعث وقياداته والرئاسات والعائلات والأصوليات لم تدرك ذلك على مدى قرن وخاصة نصفه الأخير ,ولم يكن بمقدورها التعلم ولاتحليل الأحداث واستنباط الخبرات الايجابية منها , فهمها الوحيد كان الاثراء المادي , فكل شيئ يدور في الموطن حول المليارات وسرقتها , وحول الطرق التي تسمح لهذا أو ذاك باقتناصها , والنتيجة هي كما يرى من فقد البصر كارثة فقدنا كل شيئ حتى الكرامة وتحول وطننا الى موطن , يا للعار