من الخطأ اعتبارُ مسيحييّ سوريا أقلية دينية طارئة. على العكس، هم من السكان الأصليين، ولهم تاريخ يسبق الوجود الإسلامي على الأرض السورية. هذا إذا اتفقنا على أخذ وجهة النظر الدينية في تصنيف بنية المجتمع السوري السكانية، مع إبدائنا الحذر والتخوف من ترسيخ وترويج هذه الوجهة دون غيرها. النظام السوري ( بعد انقلاب حزب البعث العسكري) منذ 1963 حتى الآن، لم يكن يوماً حامياً للمسيحيين ولا لغيرهم من طوائف سوريا الدينية، فطبيعة الحكم في سوريا عسكرية مخابراتية، غير دينية ولاطائفية، وهي تعتمد أساساً على التخويف والمحاباة ثمناً للرفض أو الولاء للسلطة. والمجتمع السوري لم يعان من فتن طائفية، وحال المسيحيين كحال غيرهم من السوريين، لم يعانوا من إضطهاد ديني منذ بداية نشوء الدولة السورية بحدودها الراهنة، وحتى خلال فترة الانتداب الفرنسي (1920-1946) وما تلاها. والحقيقة أن الأزمة السورية الحالية ليست ذات منشأ ديني، رغم تولي عائلة الأسد المنحدرة من الطائفة “العلوية” الحكم وانفرادها به منذ 1970 حتى الآن، آخذين بالاعتبار أن غالبية السوريين ينتمون إلى المذهب السني، ولا يشكل هذا الانتماء سبباً للتقوقع أو الانكفاء، مع عدم إغفال أن أكثر السنّة السوريين لا ينظرون إلى أنفسهم كأغلبية دينية. وعلى ذلك، فإن سبب الصراع السياسي في سوريا، وعلى سوريا، لم يكن يوماً بسبب الإنتماء الديني.
ـ1ـالوجود التاريخي للمسيحيين في سوريا:
تعدّ المسيحية ديانة سكان سوريا الأساسية منذ القرن الأول الميلادي. وقد اعتمدت الدولة الأموية بعد دخول المسلمين إلى سوريا وبعد هزيمة الحكم البيزنطي، على مسيحيي سوريا لتعريب إدارة الدولة المتوسعة. وكان لهم حظوة لدى الخلفاء الأمويين. واستطاع المسيحيون التعايش مع الحكم الإسلامي (من القرن السابع حتى القرن الحادي عشر الميلادي)، واعتنق قسم منهم الديانة الإسلامية، لكن أحوالهم ساءت بعد ما سُمِيّ بالحروب الصليبية (نهاية القرن الحادي عشر) إذ وقعوا بين فكَّيْ اتهام؛ فقد اعتبرهم الغزاة مناوئين ويقدمون الدعم للإمارات الإسلامية، واتهمهم المسلمون بالوقوف إلى جانب الغزاة. وساهم ذلك في إنقاص عددهم إلى النصف، سيما أن كثيرين منهم اضطروا إلى الهجرة. زادت أوضاعهم سوءاً أيام حكم المماليك (من نهاية القرن الثاني عشر حتى بداية القرن السادس عشر)، ومالت أوضاعهم إلى التحسن أيام الحكم العثماني والانتداب الفرنسي. كذلك ساهم مسيحيو سوريا مساهمة فاعلة في القرنين التاسع والعشرين في حركة النهضة العربية، والعمل لتحرير بلادهم من الاحتلال العثماني. تناقص عدد المسيحيين في سوريا إلى نحو ثمانية في المئة بعد أن كانوا نحو عشرين في المئة عند الاستقلال عام 1946، ونظراً لكون النظام السياسي السوري “لا دينياً”، فقد منح الدستور للمسيحيين كامل حقوقهم المدنية، ووصل أحد أبرز شخصياتهم الأستاذ فارس الخوري إلى منصب رئاسة مجلس النواب، وبقي منصب رئاسة الجمهورية محصوراً بالمسلم السوري حسب المادة الثالثة من الدستور الحالي. ازدادت هجرة المسيحيين خلال العقود الثلاثة الأخيرة بحثاً عن أوضاع معيشية أفضل في أوروبا وأميركا، وخاصة بعد أحداث العنف في الثمانينات بين السلطة وجماعة الأخوان المسلمين.
ينتمي مسيحيو سوريا إلى مختلف الطوائف، وأكثرهم من الطائفة الارثوذكسية، ويتوزعون على مختلف المدن السورية، من الجنوب وحتى أقصى الشمال الشرقي، وكذلك ينتمون إلى مختلف التيارات والأحزاب السياسية، فمنهم البعثي والناصري والشيوعي (ثمة معارضون وموالون) ومنهم المعارض المستقل، كحال الأستاذ الراحل أنطون مقدسي، والمعارضين المعروفين ميشيل كيلو وجورج صبرا. ولم يعرف عن السلطات في سوريا منعها لبناء الكنائس أو المدارس الدينية، ويقضي قانون الأحوال الشخصية إشراف الكنيسة على معاملات الزواج والطلاق، وأسس اعتماد قواعد توزيع التركات.
ـ2ـ علاقة المسيحيين مع بقية الطوائف:
إن أوضاع معظم المسيحيين في سوريا أقرب إلى الاستقرار منها إلى القلق، فمن الناحية الاقتصادية مثلاً، تندرج الغالبية المسيحية في سوريا ضمن مستوى الفئة الوسطى من الناحية المعيشية. ساهم ذلك، بما يميز الفئات الوسطى الحائزة مستوى جيداً من التعليم وفرص العمل، في تبنيها لرؤى معتدلة ومتوازنة اجتماعياً، وفي خلق تناغم أهلي وثقافي مع بقية مكونات المجتمع السوري .
عدا حوادث 1860، أثناء الحكم العثماني للمنطقة العربية، والتي تم فيها حرق جزء كبير من الحي المسيحي في دمشق، إثر اضطرابات دينية في لبنان امتدت إلى سوريا، فإن مسيحيي سوريا لم يتعرضوا لأي عنف مماثل من قبل الغالبية المسلمة. مع ضرورة ملاحظة أن تلك الأحداث لم تأخذ بعداً طائفياً في بقية أرجاء سوريا. وتعد سوريا من الدول القليلة المتميزة بعدم وجود حساسيات دينية فيها يمكن وصفها بالصراع الطائفي كحال كل من لبنان والعراق، ومصر مؤخراً. إن مستوى اختلاط المسيحيين بالمسلمين وتبادلهم الصداقة وأمكنة العمل وتعايشهم السلمي على مدى قرون طويلة يؤكد ذلك. ورغم مواقف الكنيسة الرسمية التي يعتبرها كثيرون مؤيدة للنظام في صمتها على حوادث قتل المدنيين اليومية في سوريا، منذ منتصف شهر آذار الماضي، فإن سلمية الثورة واستمرار حركة الاحتجاج، لم تصل إلى حد اتهام علني ومباشر للمسيحيين بالوقوف مع النظام. وساهمت تصريحات البطريرك الماروني بشارة الراعي مساهمة سيئة جداً في التخوف على مستقبل المسيحيين في سوريا، ورأى كثيرون أن الراعي لا يحق له التكلم نيابة عن مسيحيي سوريا، وهو بذلك يدفع الصمت المسيحي في سوريا، إلى مستوى التأييد الفعلي للنظام، ويسبغ صفة دينية غير موجودة أصلاً في الوعي الشعبي لعموم المحتجين السوريين.
ـ3ـ موقف الكنائس المسيحية من الاوضاع الحالية:
وكما هو معروف، فإن جميع المؤسسات الدينية السورية، بما فيها المسيحية، تخضع إلى سيطرة وتوجيهات نظام الحكم، ويصعب كثيراً خروج الكنائس بشكل علني بموقف داعم للحركة الاحتجاجية المتنامية. وإذا كان كثيرون من رجال الدين الإسلامي قد وقفوا إلى جانب الثوار، وأشهرهم الشيخ أحمد الصياصنة إمام الجامع العمري في درعا، فقد أخذت الكنائس السورية (الشرقية والغربية والانجيلية) جانب الصمت إزاء ما يجري في بلدها. لكن تصريحات البطريرك الراعي أحرجتها، ما دفعها إلى إصدار بيان مشترك وصفت فيه الأحداث الراهنة على الساحة السورية بأنها: “مؤامرة خارجية على جميع السوريين” وأضافت: ” لن ندع رعايا الكنائس السوريين لاستجرارهم إلى العنف والقتل وتنفيذ إملاءات خارجية كي تصبح سوريا كالعراق ومصر وليبيا”. ويبدو من نص البيان مدى الحرج والالتباس الذي يغطي المناخ الكنسي المسيحي في سوريا، غير أن موقف الكنائس السورية لا يمثل الموقف السياسي لجميع مسيحيي سوريا. هناك قسم غير قليل من المسيحيين يعارضون النظام، لكنهم لا يجرؤون على إعلان ذلك صراحة، وينظر إليهم كأقلية ضمن الأقلية المسيحية الصامتة. وقد دعا مثقفون ومعارضون من بينهم إلى التبرؤ من بيان الكنائس، وعدم اعتبار الكنيسة جهة سياسية تنطق باسم مسيحيي سوريا، وطمأنَ المعارض السوري المعروف ميشل كيلو المسيحيين في سوريا، وذكرهم أن حركة الاحتجاج هي اجتماعية وشعبية وليست دينية، وأن لا دعوات لها ضد مسيحيي سوريا أو غيرهم، ما لم يرتكبوا هم بأنفسهم أخطاء فادحة تجلب عليهم غضب الشعب السوري. ويُؤخَذ على المعارضة السورية عموماً إغفالها أو تناسيها لأهمية المكون المسيحي العريق للشعب السوري، ذلك أن فصل المسيحيين، كمؤمنين ومواطنين لهم واجب وطني وأخلاقي تجاه بلدهم، عن موقف الكنيسة السياسي السيء، أمر بالغ الأهمية، ويخدم تقدّمَ السوريين للخلاص من الحكم الاستبدادي.
ـ ـ مستقبل المسيحيين في سوريا:
لا يصدر السببُ الرئيسي، الذي يخيف مسيحييّ سوريا، عن أحداث الداخل السوري. وليس من المستغرب أن يلجأ النظام الحاكم إلى اختلاق عداوات دينية، بل القيام حتى بتفجيرات،(كما جرى مؤخراً في دمشق وحلب)، تبرر روايته الرسمية عن جماعات إرهابية تقوم بقتل السوريين. إن تقارير دولية ومحلية تؤكد أن حوادث القتل الطائفي في سوريا نادرة جداً، وإن السلمية هي الصفة الغالبة على حركة الاحتجاج، قبل اضطرار السوريين إلى حمل السلاح والانضمام إلى الجيش السوري الحر؛ فالصور ومقاطع الفيديو الكثيرة التي يبثها الناشطون تثبت ذلك، في وقت لم نجد أي صورة ذات مصداقية تثبت أن هناك منحى طائفياً في أحداث سوريا الراهنة. لكن وفي الوقت نفسه، فإن ما جرى ويجري في مصر، وكذلك في لبنان والعراق، يدفع المسيحيين السوريين إلى القلق على مصيرهم في ظل ضبابية الوضع الداخلي في سوريا. نظام الحكم هو الذي يبادر إلى شحن الأقليات الدينية في سوريا بالخوف والقلق، ويقوم بعرض صور عنف قاسية جداً عبر وسائله الإعلامية، لكي يدفع من بقي صامتاً من السوريين إلى تفضيل الحكم الحالي على التغيير الجذري الذي تحاول الانتفاضة تحقيقه.
إن من أهم شعارات المنتفضين السوريين مدنية الدولة والعدالة والمساواة ونبذ العنف والطائفية، بل إن فئات منهم، الأكراد واليساريين خاصة، تشدد في مطالبها على إرساء حكم علماني بشكل صريح، منعاً لأي ميول دينية يمكن أن تحتكر الحياة السياسية السورية في المستقبل. وفي مطلق الاحوال لا يمكن لأي جماعة دينية أن تحكم سوريا بمفردها وتقصي سواها، حتى الغالبية السنية التي يرى الاخوان المسلمون عمقهم الاجتماعي والانتخابي متمركزاً فيها، هي غالبية اجتماعية وليست كتلة موحدة دينياً وسياسياً. وعلى ما سبق، فإن موقف الكنائس المسيحية في سوريا يمكن فهمه في ضوء العنف الشديد الذي تبديه قوات النظام ضد رموز دينية معارضة. والمجتمع السوري في عمومه لا يحمل بذور كراهية تجاه فئات دينية بشكل حصري، بل إنّ ما تحقق للسوريين من إجماع وطني كبير طوال الاشهر الماضية، يدفعنا إلى الاعتقاد بعدم احتمال سقوط سوريا في حرب أهلية أو أي صراع طائفي بين أكثرية وأقلية سواء أكانت دينية أم عرقية.
المستقبل