ميشيل شماس:
قام النظام السياسي في سوريا منذ العام 1973 على مبدأ قيادة حزب البعث العربي الاشتراكي للدولة والمجتمع وتكرّس ذلك في دستور عام 1973 الذي نص في مادته الثامنة : (حزب البعث العربي الاشتراكي هو الحزب القائد في المجتمع والدولة ويقود جبهة وطنية تقدمية تعمل على توحيد طاقات جماهير الشعب ووضعها في خدمة أهداف الأمة العربية).
وكان من الطبيعي وفقاً لهذه المادة أن يكون رئيس الجمهورية بعثياً، ورئيس الحكومة بعثياً، ورئيس مجلس الشعب بعثياً، وأن يكون ضباط الجيش والأمن والشرطة والمحافظين ورؤساء النقابات المهنية والمنظمات الشعبية وعمداء الكليات في الجامعات ومدراء المدارس بعثيين، بالإضافة إلى أن غالبية القضاة والوزراء وأعضاء مجلس الشعب والمدراء العامين في مؤسسات الدولة وشركاتها من البعثيين.. نزولا حتى المخاتير ..الخ
واستمر الأمر على هذا المنوال طيلة أربعين عاماً ، رغم المطالبات المستمرة بضرورة إلغاء هذه المادة ، وإطلاق حرية العمل السياسي في البلاد ، إلا أن هذه المطالبات لم تلق أذاناً صاغية من قبل النظام الحاكم في سورية.
ومع اندلاع ثورات الربيع العربي التي بدأت في تونس فمصر واليمن والبحرين وليبيا تصاعدت وتيرة المطالبة بالإصلاحات السياسية في سورية، قبل أن تنتقل عدوى الاحتجاجات إلى سورية إلا أن المسؤولين في الدولة اعتبروا أنه من غير الممكن أن تنتقل تلك الاحتجاجات إلى سورية باعتبار أن سورية ليست تونس وليست مصر ، لكونها محصنة بفعل موقفها الممانع لإسرائيل وأمريكا.
إلا أن الاحتجاجات سرعان ما انتقلت إلى سوريا بعد هروب زين العابدين بن علي من تونس وتنحي مبارك عن الرئاسة في مصر، فاندلعت المظاهرات المناهضة للنظام في أواسط آذار من العام الماضي بدءاً من العاصمة دمشق ثم انتقلت إلى درعا فحمص ثم إلى بقية المدن السورية..
وعلى وقع استمرار الاحتجاجات والتظاهرات التي شملت مختلف المدن السورية، أخذ النظام يطلق الوعود في تحقيق الإصلاحات السياسية فأعلن عن إلغاء حالة الطوارئ، وأصدر قانون ينظم التظاهر وقانون للأحزاب السياسية وقانون للانتخابات ، وأخر للإعلام.. كما أعلن عن استعداده عن تعديل الدستور وحتى إلغاء المادة الثامنة من الدستور، إلا أن كل ذلك لم يوقف الاحتجاجات التي ارتفعت وتيرتها وارتفع سقفها إلى حد المطالبة بإسقاط النظام بكامل رموزه وترافق ذلك مع سقوط عشرات الآلاف من الضحايا بين شهيد وجريح واعتقال عشرات الآلاف من السوريات والسوريين.
أمام هذا الواقع كان لابد للنظام السوري من الإعلان رسمياً عن تشكيل لجنة رئاسية لصياغة مسودة دستور جديد للبلاد ، وأنجزت اللجنة مشروع الدستور الجديد، وفعلا تم إلغاء نص المادة الثامنة من الدستور التي كانت تحصر قيادة الدولة والمجتمع بحزب البعث واستبدل بالنص التالي:
(( 1- يقوم النظام السياسي للدولة على مبدأ التعددية السياسية، وتتم ممارسة السلطة ديمقراطياً عبر الاقتراع. 2- تسهم الأحزاب السياسية المرخصة والتجمعات الانتخابية في الحياة السياسية الوطنية، وعليها احترام مبادئ السيادة الوطنية والديمقراطية. 3- ينظم القانون الأحكام والإجراءات الخاصة بتكوين الأحزاب السياسية. 4-لا يجوز مباشرة أي نشاط سياسي أو قيام أحزاب أو تجمعات سياسية على أساس ديني أو طائفي أو قبلي أو مناطقي أو فئوي أو مهني، أو بناءً على التفرقة بسبب الجنس أو الأصل أو العرق أو اللون. 5- لا يجوز تسخير الوظيفة العامة أو المال العام لمصلحة سياسية أو حزبية أو انتخابية. ((
واستبشر السوريات والسوريين خيراً من إلغاء احتكار حزب البعث للسلطة في سورية في مشروع الدستور الجديد ، وتكريس مبدأ التعددية السياسية، إلا أنه سرعان ما خاب أملهم بعد أن اكتشفوا أن النص الجديد للمادة الثامنة في مشروع الدستور بقي نصاً غامضاً، ولا يعني بأي حال من الأحوال أن النظام السياسي في سورية سيقوم فعلاً على التعددية السياسية، لأن المواد التي جاءت بعدها ، ولاسيما المواد المتعلقة بصلاحيات رئيس الجمهورية قد أفرغت تماماً المادة الثامنة من مضمونها .
ويسأل الكثير من السوريين عن أي تعددية سياسية يتحدث عنها النص الجديد للمادة الثامنة من مشروع الدستور، إذا لم يكن بإمكان الأحزاب السياسية التي قد تحصل على أغلبية المقاعد في مجلس الشعب من تشكيل حكومة أو حتى من تسمية رئيس الحكومة والوزراء ..!!؟
وعن أي معنى للتعددية السياسية إذا لم يكن بمقدور أعضاء مجلس الشعب من محاسبة الحكومة أو حتى أقالتها..؟ إذا كان رئيس الجمهورية هو الذي يرسم السياسة العامة للدولة وهو الذي يسمي رئيس الوزراء ونوابه والوزراء ونوابهم ويقيلهم ويحيلهم للمحاكمة،وهو الذي يعين الموظفين المدنيين والعسكريين وينهي خدماتهم، وهو القائد الأعلى للجيش والقوات المسلحة، وهو الذي يعتمد رؤساء البعثات الدبلوماسية، وهو الذي يقوم بعملية التشريع خارج إطار مجلس الشعب، وهو الذي يرأس السلطة القضائية ويضمن استقلالها، وهو الذي يعين رئيس وأعضاء المحكمة الدستورية، وهو الذي يحل مجلس الشعب، وهو الذي يعلن الحرب والتعبئة العامة وحالة الطوارئ..الخ .!؟
يبدو أن مشروع الدستور الجديد الذي يجري الاستفتاء عليه اليوم ليس إلا وسيلة لنقل البلاد من مرحلة الحزب القائد في الدولة والمجتمع إلى مرحلة الرئيس القائد للدولة والمجتمع…