في الثورة نخبة تقود أما في الانتفاضة فهناك مجموعات لم يُحضّر لها
اختير طيب تيزيني واحداً من مئة فيلسوف في العالم للقرن العشرين عام 1998 من قبل مؤسـسة Concordia الفلسفية الألمانية الفرنسية. صدر أول كتاب له باللغة الألمانية عام 1972 بعنوان” تمهيد في الفلسفة العربية الوسيطة”, ثم تتالت أعماله ومن أهمها باللغة العربية: مشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط – روجيه غارودي بعد الصمت – من التراث إلى الثورة – حول نظرية مقترحة في قضية التراث العربي – الفكر العربي في بواكيره وآفاقه الأولى – من يهوه إلى الله – مقدمات أولية في الإسلام المحمدي الباكر – النص القرآني أمام إشكالية البنية والقراءة – من اللاهوت إلى الفلسـفة العربية الوسيطة- في السجال الفكري الراهن – فصول في الفكر السياسي العربي – من الاستشراق الغربي إلى الاستغراب المغربي – بحث في القراءة الجابرية للفكر العربي- من ثلاثية الفساد إلى قضايا المجتمع المدني – بيان في النهضة والتنوير العربي- حول مشـكلات الثورة والثقافة في العالم الثالث….. كما نشر مئات البحوث والدراسات حول قضايا الفكر العربي والعالمي, وهو ناشــط في مجال حقوق الإنســان، وسـاهم منذ العام 2004 في تأسـيس المنظمة السـورية لحقوق الإنسـان “سواسية ” وشــغل منصب عضو مجلس إدارتها.
على خلفية كل ما يجري في سورية وما حولها كان الحوار التالي:
¶ لنبدأ من التفجيرات الأخيرة التي شهدتها دمشق, بشكل عام. ما هو موقفك من مثل هذه الأعمال العنفية وتسليح الانتفاضة- إن صحت التسمية-؟
– حين دعيت إلى ما سمي المؤتمر الوطني للحوار في صحارى, قدمت مداخلتي بثلاثة شروط وأعلنتها: أن أبدأ مداخلتي في الوقت الذي يتوقف فيه العنف، وكان ذلك محتملاً مما سيأتي لاحقاً, ثانياً، أن تكون أسراب المعتقلين من الفئات الثلاث قد خرجت من السجن (وأعني: معتقلي الرأي, المعتقلين السياسيين, ومعتقلي الضمير من المتعاطفين مع ما يجري) ويتجلى الشرط الثالث، في تفكيك الدولة الأمنية, وبالتالي العنف وإيقافه أولاً انطلاقاً من حقيقة أن الدم السوري محرم, إضافة إلى كل ذلك, اشترطت بث كل ما أقدمه بوضوح عبر أجهزة الإعلام بمختلف أشكالها, لقد قدموا فقرات فقط..
النتيجة أنني خرجت من هذا المؤتمر، بأنه لم يكن ذا صدقية! كنت التقيت نائب الرئيس الأستاذ فاروق الشرع, ومما قلته له: سارعوا قبل أن تتدخل دولة أجنبية, وأنتم الآن بتأجيل الإصلاح تؤسسون لهذا التدخل.
بالمناسبة خلال المداخلة ذكرت واقعة حدثت بعد سقوط بغداد 2003, حين تكلم كولن باول وزير خارجية أمريكا حينها، وقال: على دمشق أن تقرأ الدرس البغدادي وتتقنه. يومها كتبت بياناً بخط اليد ووزعته باليد أيضاً بعنوان: “سارعوا وافتحوا أنتم الدائرة قبل أن يفتحها الأغيار”.. ولم يحدث شيء! بل على العكس زادت العملية اضطراباً، ولهذا حذرت من وجود آلية أصبحت سيدة الموقف في سورية, وهذه الآلية تستمد صدقيتها من قانون أسميته قانون الاستبداد الرباعي (وهذا ما قلته للرئيس الراحل حافظ الأسد) والذي تابعت البحث فيه بشكل أعمق ويقوم على أربعة: الاستئثار بالسلطة, والاستئثار بالثروة, والاستئثار بالإعلام, والاستئثار بالمرجعية- وأعني المادة 8 من الدستور التي تجعل من حزب البعث قائداً للدولة والمجتمع- هذا هو القانون الذي يحكم سورية.¶ في الحالة السورية, لابد من الاعتراف بأن هناك عنفاً وعنفاً مضاداً!!
– ذاك الكلام ما عاد مجدياً, كان ذلك تاريخياً وقلت لهم، إن إلغاء المادة (8) هو لمصلحتكم وحزب البعث الذي تحول إلى شكل من أشكال الموت السريري، قد تستطيعون بعثه من جديد إذا خضع- كما الأحزاب الأخرى- للديمقراطية والصراع والتداول السلمي للسلطة أما هكذا!! إذاً لابد من فتح الدائرة منكم- أي من النظام- أزيلوا هذا الركام. أثناء المناقشات قلت لهم: ثمة شعار ينادي بإسقاط النظام، ولكن هناك شعار أخف وطأة ولكنه أعمق: تفكيك الدولة الأمنية. أما تفكيك هذا النظام، فهو أمر غامض، لأنه قد يخلط بين الدولة والنظام, ما هو النظام؟ الأمن أولاً، لابد من المحافظة على الدولة بكل معنى الكلمة.
¶ ثمة من يدعو إلى التدخل الأجنبي؟! هل أنت معه؟
– لا تدخل أجنبياً عسكرياً، بل حماية للمدنيين ومساعدات…
¶ لكن التدخل الأجنبي لا يتجزأ!
– هذا هو خطر التدخل الأجنبي؛ بمعنى إذا بدأت بمساعدة غذائية أو غيرها قد تتحول إلى مساعدة (بالرصاص).
¶ قل لي بصراحة: ما الذي يجري على أرض سورية, أهي ثورة؟ أهي انتفاضة؟ وكيف نميز بينهما؟
– الثورة ليست في المعارضة, بل على الأرض وتتمثل بالشباب. إنه الحراك الشعبي، مع أنني أتحفظ حتى الآن على تعريف ما يجري؛ هل هو ثورة أم انتفاضة! الثورة تحدث قطيعة مع ما قبلها هذا أولاً, وثانياً هي تعمل على إعادة بناء أهم الحلقات في المجتمع: الاقتصاد والسياسة والحقوق والقضاء والبنية المادية العامة. الثورة تأخذ الكل في الاعتبار ببعد طبقي اجتماعي. أما الانتفاضة، فقد تأتي بوصفها ظاهرة تلتقي فيها كل الطبقات والفئات, وهذا يعني حراكاً عمومياً. أما الثورة، فهي حراك عمومي مع خصوصية. في الثورة هناك نخبة تقود. أما في الانتفاضة، فهناك مجموعات لم يُحضَّر لها, أتت كما هي, فلا حل آخر يقوم به الشباب سوى الانتفاضة. الثورة تحتاج إلى تخطيط مطول وتأسيس سياسي وثقافي وأخلاقي قيمي.. الفرق واضح.
¶ والآن هل باتت دعوتك السابقة لحوار يضم كل الأطياف من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار غير مجدية؟ هل من حوار، رغم كل ما تحفل به الساحة من تطرف.. ورغم العنف المتبادل؟!
– لا.. بل هي المجدية.. ولكن اعتقدتُ سابقاً- والآن أعتقد أكثر تدقيقاً- بأن الحوار لن يجدي أبداً, لأن أسس الحوار مغيّبَة, فالشرط الأهم فيه هو الندية وهذا مغيّب! في مداخلتي في صحارى قلت: الاتفاق على الحوار يعني الإقرار غير المشروط بتأسيس لجنة هي من تشتغل عليه وفيها أعضاء من كل الأطياف وتضع برنامج عمل للجنة. البداية نفسها تؤسس لهذا العمل وهو غائب حتى الآن. ظهر الحل كما يراه فريق السلطة، والذي يكمن في إرغام الناس على القبول بكل شروطه وهذا لن يحدث! النظام أسس ويؤسس استراتيجيته على أساس أن الاستراتيجية لا تخرج من الصفر, علماً بأن السياسة تبدأ بما قبل الصفر، وتنتهي بما بعد المئة. هذه هي فكرة أرسطو العظيمة الذي وضع يده عليها في المجتمع اليوناني القديم, وقدم للسلطة حالة هائلة الدلالة: الاحتمالات مفتوحة.. هذه هي.. المساومة والتنازل .. احتمالات متعددة كلها غُيّبت تماماً منذ أن غيبوا السياسة.
¶ متى وكيف غابت السياسة من التداول في سورية؟
– بُدئ بسحب السياسة من المجتمع مع قيام الوحدة بين سورية ومصر، حيث ظهر الشرط الوحيد والحاسم لإنجاز هذه الوحدة: إلغاء المجتمع السياسي والحراك السياسي والأحزاب السياسية. كان هذا شرط عبد الناصر تحت رغبة مجموعة من الضباط البعثيين الذين تحدثوا معه, فتمت الوحدة وكان ذلك بمثابة سحب لما كان عليه أن يحمي الوحدة لاحقاً.
¶ هذا إذاً سبب فشل الوحدة؟
– بل السبب الحاسم.. لقد سحبوا من التداول ما كان عليه البدء بالحضور الكثيف ليفرض نفسه ويكون حامياً للوحدة, لذا كان من البديهي أن يوفر غياب السياسة الفرصة ليحل محلها ما سمي حينها بالمباحث.
¶ هل تعتبر عبد الناصر مؤسساً للدكتاتورية إذاً؟
– نعم هو الذي أسس للدكتاتورية في مصر, مع أن المفكرين والسياسيين الوطنيين في حينه كانوا لايؤكدون على هذا الجانب, بينما يؤكدون على ما اعتبروه الأساس, أي التحرر الوطني, كان ذلك في حينه صحيحاً، لكنهم أوغلوا في الخضوع لهذه الفكرة, أعني باستثناء الحزب الشيوعي الذي رفض التوقيع كبقية الأحزاب, وقال: أوقّع بعد الأخذ في الاعتبار مجموعة من القرارات, ولم يؤخذ بها؛ لذا سُحب من العملية ومنذ ذلك الحين (1958) كان ماحدث على صعيد قضايا السياسة والفكر والنشاط السياسي، أنه بدّد المجتمع الديمقراطي المحتمل, ونشأ مجتمع قائم على بعد واحد هو البعد الوطني, ومعروف أن هذه الفكرة كانت مهيمنة وشبه عالمية على أساس حزب من طراز جديد بمقولة لينين “الحزب هو المطلوب وهو عليه أن يحكم وحده” حدث ذلك بعد أن جرى تغييب فكرة التعددية الديمقراطية البرلمانية التي تحدث عنها لينين, لذا جاء في الدستور السوفييتي المادة رقم (6) التي تقابل المادة (8) في الدستور السوري, وتقول: إن الحزب الشيوعي السوفييتي يقود الدولة والمجتمع وحده- لاحظي المرجعية, مرجعية ما حدث لاحقاً- وتم ذلك وتوضّح شيئاً فشيئاً أن هذه المادة أفضت إلى ابتلاع المجتمع السوفييتي، الابتلاع الذي حدث بصيغة طريفة حادة, هي أن المجتمع السوفييتي بكل أشكاله اختُزل إلى الحزب الشيوعي, وهذا الحزب اختُزل إلى اللجنة المركزية التي اختُزلت بدورها إلى المكتب السياسي.
¶ ألهذا لم تجد الشيوعية وبعد تجربة دامت 70 عاماً من يدافع عنها ويمنع سقوط تجربة هائلة كتلك؟
– نعم بعد سبعين سنة… لكن كان هناك اضطرابات.. ومن يراجع هذه الحقبة المهمة والخطرة، يجد أن الوضع تبلور في حينه في الاتحاد السوفييتي, وما كان له أن يسير إلا كما سار! فالسياسة سُحبت, وأصبح الحزب هو سيد الموقف بكل المعاني ولهذا وقعوا.
¶ وكأن سورية اقتبست التجربة السوفييتية؟
– ليس كأنها! بل أخذت التجربة حرفياً.. أنا راجعت المادة رقم (8) عندنا, إنها المادة رقم (6) عندهم! لقد اكتُشف لاحقاً أنه كان لدى لينين مشروع في تعميم الديمقراطية البرلمانية, كما ذكرتُ توّاً, وقد شاع بعد ذلك تحت اسم الديمقراطية الشعبية التي تقوم على وجود تنظيم واحد هو التنظيم الثوري, لقد اكتشفوا أن المسألة تحتاج إلى أكثر مما حدث, لأن التاريخ مفتوح, ولم يكن هناك احتمالات ميكانيكية. جاء ستالين وأطاح فكرة لينين عن الديمقراطية البرلمانية, أو بالأحرى أطاح التعددية في فهم الديمقراطية الشعبية والبرلمانية، ومن ثم ظهر وهم خطر في الفكر السياسي يقول: الديمقراطية البرلمانية هي الديمقراطية البرجوازية الليبرالية. منذ البدء، أُعلن الأمر على هذا النحو, الديمقراطية البرجوازية هي التي أسست للديمقراطية البرلمانية, بينما الديمقراطية الشعبية هي من خصوصيات الأحزاب الشيوعية أو أحزاب التحرر الوطني.
¶ في كل أحاديثك تؤكد على مقولة الدولة الأمنية التي تحكم المجتمع العربي بشكل عام, وعلى وجوب تفكيكها وصولاً إلى دولة قانونية دستورية, كيف نفكك مثل هذه الدولة الأمنية؟
– أن نحوّل الدولة الأمنية إلى أمن الدولة, وهذا هو الأساس فيها, لكل دولة أمنها وليس المطلوب من تفكيك الدولة الأمنية إقصاء الأمن, بل على العكس, أن يبدأ العمل من شعار هذه الدولة.. ما هو شعارها الاستراتيجي الذي أتى بعد تحولات واسعة في المجتمع السوري, والذي وقع في قبضة قانون الاستبداد الرباعي: الاستئثار بالسلطة والثروة والإعلام والمرجعية.. الدولة الأمنية يقوم شعارها الاستراتيجي على ضرورة أن يُفسَد من لم يُفسَد بعد, بحيث يصبح الجميع ملوثين ومدانين وتحت الطلب! بهذا يكونون قد ملكوا التاريخ كله, فتعميم قانون الاستبداد الرباعي قاد إلى سحب المحاسبة والمساءلة, بل إلى إدانتهما لمصلحة ثنائية الفساد والإفساد, وأصبح من يطرح أسئلة نقدية حول ذلك, معرّضاً لما يطيح به ؟!
¶ بهذا يصبح الصمت طوق نجاة؟!
– مع تسيّد قانون الفساد والإفساد للموقف, أصبحت طمأنينة البشر تكمن في الصمت على ما يمارس عليهم, إن سؤال من أين لك هذا؟ غيّب تماماً وكذلك المحاسبة القادمة من خُلاصات هذا السؤال, وبالتالي استطاع النظام فعلاً أن يكتشف ما هو جدير بإغلاق التاريخ! تصوري، وعلى سبيل الطرافة التاريخية المدوية، أن فوكوياما جاء بفكرة نهاية التاريخ, وكان هؤلاء يفكرون بذلك في المعنى النظري والفكري. هكذا يتضح لنا أن مرحلة هائلة من التقدم العلمي التقني قد التقت مع مرحلة هي أقصى درجات الخروج من التاريخ! أعني هنا العالم العربي وسورية منه. فوكوياما الذي نادى بنهاية التاريخ، يقول إن التاريخ أصبح ذا بعد واحد هو البعد الأمريكي العولمي, ويسوّقون لمقولة أن التاريخ هو الذي نعيش فيه ولا شيء سواه!
¶ أهذا ما كنت تعنيه بقولك، إن التاريخ قابل للبناء مقابل التاريخ الآفل؟
– التاريخ مفتوح, ولا يمكن أن يغلق.. يمكن أن يُغلق فقط من قبل من لا يملك المفاتيح, وهو الذي لايريد أن يملكها. التاريخ مفتوح بعجره وبجره! وقد اشتُغل على هذه الاستراتيجية وأعيد بناء البلد برمته انطلاقاً منها. المشروع الثقافي السياسي الوطني في سورية بعد الاستقلال تصدّع, وكان قد حقق بعض حلقاته, حين أسس للبرلمان الوطني والثقافة الوطنية, صُدّع مع الوحدة التي بدأت, بين نظامين أمنيين, تلتهم الجميع. خطورة الوحدة, كما حدثت, تكمن في أنها حاصرت التطورات اللاحقة, فتحولت دولة المباحث أثناء الوحدة, والتي قادها المقدم عبد الحميد السراج, إلى دولة أمنية.
¶ سبق أن قلتَ إن مشكلات النظام العولمي وصلت إلى سقفها, وها نحن نرى تصدعاً في هذا النظام كما قدمته أمريكا, فما هو شكل النظام الجديد؛ هل هي الدول الصاعدة؟ هل يتوجب علينا تبني محور ما والالتحاق به بالضرورة؟
– سؤالك يطرح عدة محاور: العولمة والنظام الجديد وبدائله، ومن ثم المحاور المطروحة في العالم العربي. من المناسب أن نبدأ بموضوع العولمة والتي أتت بعد تصدع المشروع الاشتراكي عموماً المشروط تاريخياً, وهنا لا نستطيع تحميل أحد بعينه مسؤولية الخطأ الفاحش الذي حصل في الاتحاد السوفييتي السابق, لأن لغة العصر كانت هكذا.. بعيداً عن النقد والحرية في النقد المفتوح. كان السوفييت يتحدثون عن ضرورة التأسيس لديمقراطية شعبية قائمة على التعددية الشكلية ضمن الحزب الواحد, أو بين حزب وجبهة وطنية تقدمية, بل تعددية حقيقية نابعة من واقع الحال الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والأيديولوجي, لكن ذلك لم يسر كما كان عليه أن يفعل.
أما النظام العولمي، فجاء على أنقاض هذا العالم الذي أصبح قديماً وتأسس على ما اعتبره تعريفاً للعولمة؛ إنها النظام الذي يعمل على ابتلاع الطبيعة والبشر, أي ابتلاع الكون, في سبيل تحويل هذا كله إلى سوق كونية تبتلع الجميع. هذا يذكر بفكرة قدمها ماركس في القرن التاسع عشر، حينما كتب “ملخص حول الرأسمال” إذ قال: البشرية في العالم الرأسمالي تسير على أساس أن الناس يصبحون أمام طريق وحيد, قيمة البشر تهبط وقيمة السلعة تعلو. هذا هو قانون العولمة القاطع. جاءت العولمة (وكان لها ذيول سابقة) ووضعت الأمر في نصابه النهائي.. يجب أن يُفسَد إذاً من لم يُفسَد بعد.. فآلية النظام الرأسمالي تضع الناس خارج التاريخ, وتضع السلعة سيدة للتاريخ, بهذا المعنى فالنظام العولمي يراد له أن يكون سيد الموقف, وبُشّر به تحت مسمى القرية الكونية الصغيرة, هنا نضع يدنا على ما أسماه هيغل “خطورة التاريخ” أو “ملعنة” التاريخ إن شئنا الدقة, ويقول إن التاريخ مخبأ بذاته ويظهر حين يريد أن يفعل شيئاً, وهذا النظام الذي أريد له أن يتأسس للأبد, بدأ التصدع يزحف إليه. ولأول مرة بعد عقود من النظام الرأسمالي العالمي يخرج الناس في عقر دار الرأسمالية- الولايات المتحدة- ويرفعون شعاراً غاب ربما قرناً من الزمن هو: لتسقط الرأسمالية.. قبل ذلك كانوا يطالبون بزيادة الدخل أو بتحسين ظروف العمل. أما الآن، فيطالبون بسقوط النظام الرأسمالي في عقر داره في وول ستريت.. وهذا تحول هائل في العالم, فكيف لهذا التحول ألا يطال البلدان العربية!!
¶ هل سيكون النظام الاشتراكي بشكل أو بآخر البديل القادم؟
– أنا لا آخذ بقطعيات مطلقة لا تاريخية, لأنها تحيلنا إلى مطلقات لاهوتية ميتافيزيقية. هناك تاريخ يبحث عن الأجدى للبشر, وحتى الآن لم يظهر. ماهو أكثر جدوى من نظام يقوم على العدالة في توزيع الثروة والسلطة, وقد أخذ هذا النظام اسماً معيناً هو الاشتراكية, قد يتبدل هذا المصطلح لكن هذا هو الهدف المطلوب.
¶ أي مجتمع أساسه العدالة الاجتماعية والحرية الفردية؟
– الحرية الفردية، بل وأيضاً حرية
– نعم بالضبط, وبالتالي من الأقصى إلى الأقصى.. هذا الذي أزعم أنني ابتدعته هنا في سورية. بالنسبة إلى النظام هوذا المطلوب إنجازه اليوم, هذا الشعار الذي أشتغل عليه الآن, من أقصى اليمين- لاحظي الأيديولوجيا هنا- إلى أقصى اليسار الوطني والقومي الديمقراطي.. الجميع يحتملهم المجتمع, لكنهم يحتاجون إلى آليات هذا الاحتمال الاجتماعي.
¶ أي نظام سياسي يوفر هذه الآليات في رأيك؟
– إنه النظام المدني. الفضل الكبير فيه لجان جاك روسو الذي ابتكر فكرة المجتمع المدني. تصوري الغباء الذي ساد في سورية منذ سنوات, حين نوقش موضوع المجتمع المدني.. إنهم لا يعرفون ما هو, فاستنكروا وقالوا: ولكن نحن مجتمع مدني منذ قرون طويلة! لقد ربطوا وجود المجتمع المدني بوجود المدينة!
¶ لقد استبدلوا مصطلح المجتمع المدني بمصطلح المجتمع الأهلي!
– هل تعلمين ما هو المجتمع الأهلي؟ إنه ما قبل المجتمع الوطني, يعني الطائفي وقيسي على ذلك. هذا غباء قاتل, ولكن يمكن تصويبه.
¶ أنت متفائل إذاً؟
– نعم.. نعقد جلسات يومية من أجمل ما تكون, مجموعة شباب وصبايا.. إن التاريخ يُبتَدع الآن, هذه حالة جديدة.. لذلك أظن أن العالم العربي اليوم في مرحلة انتقال وأظنها الأخيرة. لماذا؟! لأن النظام الذي كان يدعم هذا الوجود العربي في تصدع, بل إن النظام العربي نفسه تصدع أيضاً. لم يعد هناك أحد في منأى عن هذا الأمر .
¶ هل تكون هذه المرحلة بكل مخاطرها ولادة للجديد القادم؟
– نعيش الآن مرحلة بقدر ما هي خطرة جداً, هي في ذات الوقت بداية لولادة جديدة. أقول لك هذا الأمر كتعبير شخصي: كان ثمة شابان يقتادان امرأة في السبعين من عمرها ومعها حفيدتها الطفلة. كانت الطفلة تبحث عن مكان ما في يد جدتها ولا تجده.. كان ذلك مشهداً مرعباً.. بينما كان رجال ونساء يهتفون في ساحة وزارة الداخلية في آذار من العام الماضي.. أحسست أنني ولدت من جديد بالمعنى الدقيق البيولوجي والنفسي, لذلك فإن التاريخ فُتح الآن, ومااعتُقد أنه انتهى إلى الأبد- أي إغلاق التاريخ- يعود الآن وبالصيغة المثلى.
¶ أيعقل أن يكون (البوعزيزي) شرارة كل هذا الذي حدث ويحدث؟ أيعقل أن تتمكن حادثة فردية من إشعال الأرض العربية؟!
-إنه الفردي الذي يفتح الجماعي. بالطبع الجماعي مهيأ وهو كتلة من لهب.. أنا أعرف تونس جيداً، فقد وضعت يدي بعد زيارات مديدة لها على أن تونس أيضاً كانت تؤسس لدولة أمنية.
¶ تونس التي كانت بالنسبة إلينا بلداً علمانياً وباريس العرب ؟!
– كان هذا صحيحاً نسبياً أيام الحبيب بورقيبة, لكن التصدع بدأ منذ أيامه أيضاً. جاء (زين العابدين بن علي) إلى السلطة وهو الذي كان ضابط ارتباط أثناء النزول السوفييتي في براغ 1986 ويعمل مع الأمريكان, ثم جاء رئيساً لتونس وبدأت عملية التأسيس للدولة الأمنية. أما مصر، فقد بدأته نسبياً حين وصف (السادات) خروج الباحثين عن كرامتهم ولقمتهم بانتفاضة الحرامية. كان العالم العربي يعيش هذه اللحظات وكانت تونس هي الشرارة والبوعزيزي عبر عن أهم قانونية اجتماعية سياسية بدأت تفرض نفسها. بالتالي لن ينفد أحد من هذه العملية. أي إن ما روهن عليه هنا في سورية عندما قالوا “خلصت.. خلصت” أظن أن العكس هو الصحيح وقد “بدأت.. بدأت”!
¶ تابعنا المشهد في مصر وتونس وليبيا واليمن … ورأينا أن الإسلاميين يفرضون أنفسهم بقوة على الشارع العربي. ما هذا الحل الذي يحيلنا من دولة أمنية, كما قلتَ, إلى دولة دينية, وكلتاهما تصادران حريات الناس؟!
– هذا الأمر بدأ في مصر منذ القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين بخاصة, حين جاء من أسس حركة الإخوان المسلمين- حسن البنا- لم يأت تأسيس هذا التيار الجديد نتيجة اجتهاد نظري, وإن كان الاجتهاد قائماً, التأسيس كان قد خرج من قلب الحدث المصري الذي تمثل في تصدع الطبقة الوسطى والقاع.
الدين- أساساً- ذو بعد اجتماعي وليس فقط الأصولية اللاحقة التي نتجت ضمن إشكاليات اجتماعية واقتصادية, الدين نفسه كان في رهان على حل مشكلات البشر خارج المشخّص, فالناس بهذا المعنى صنعوا آلهتهم كما يقول أحد الفلاسفة, إذا استطاع أن يرسم الفرس, فإنه يستطيع أن يرسم إلهه, وكذلك الحيوان الصغير. فالبشر استطاعوا رسم آلهتهم ولذلك التعددية والتغيير في الآلهة فعل تاريخي, من هنا أصبح البشر يعيشون على هذا الحلم الذي وضعوه, وهو حلم لن يتحقق, إذاً سيتحقق في عالم آخر. الفكرة الدينية أساساً مرجعيتها خارج العالم.
¶ كيف للدولة الدينية ذات المرجعية المتوضعة خارج الواقع أن تتعامل مع مشكلاتنا الواقعية؟
– الآن هذه الدولة الدينية حين يتأزم الوضع الاجتماعي والسياسي وتغيب الديمقراطية، ماذا يعمل الناس؟ إنهم يعملون تحت القبضة.. ولن يستسلم البشر، وسيجدون طرائقهم وأدواتهم.
¶ إذاً ستستمر الثورات العربية؟
– نعم.. إذ نشأت هنا الأصولية التي تقول عودوا إلى الوراء
¶ عودوا بعكس التاريخ تماماً!
– بالضبط هذه هي الأصولية. هنا ينبغي لنا أن نميز بين الأصولية المستمدة من الأصول والأصولوية وهي التي تقول: “السابق يجبُّ اللاحق” وأن الحقيقة وجدت مرة واحدة, فعليكم دوماً العودة إلى الماضي بكل الاعتبارات: طرح الأسئلة والإجابة عنها! هذه الأصولية تنتعش في حالة غياب الاحتمالات الاجتماعية المعيشة, فهي إذاً ظاهرة شرعية؟
¶ هل تشاطر غالبية السوريين مخاوفهم من تسلط التيار الديني على الثورات ومصادرتها؟
– نعم.. نعم.. ولكن لنعرف أولاً ما هي الأصولية, قلنا إنها تؤكد أن الحلول كلها تأتي من الوراء, الآن هناك حالة جديدة غير تلك التي كانت عام 1982- أثناء حوادث حماة- الإخوان المسلمين، بلا شك كانوا معنيين بالحدث.. إيديولوجيتهم كذلك, رُفضوا وكان الوضع يحتمل هذا الرفض. أرادوا تأسيس دولة دينية مع أن (البنا) لم يقل بدولة دينية حين أسس تلك الحركة. الدولة الدينية تنشأ حين تنشأ ضروراتها من المجتمع.. متى؟! حين تتفسخ الدولة المدنية, ناهيك عن دولة أمنية. إذاً دولة أمنية في مواجهة دولة دينية كلتاهما تأخذان من مصدر واحد. الآن هذه الدولة الدينية بدأت تغيب حين تعلّم البشر وتغيرت علاقاتهم الاجتماعية كثيراً، بخاصة بعد تفكك الاتحاد السوفييتي. كنت قد دعيت لإلقاء محاضرة في واحدة من البلدات السورية المعروفة بشدة تدينها, فذكرت للحاضرين ما رواه الطبري وابن الأثير وغيرهما من المرجعيات الإسلامية حول حدث هائل الدلالة قدمه (محمد) حين هاجر من مكة إلى المدينة. لقد خرج معه المسلم والمسيحي والصابئي واليهودي والزرادشتي والزيدي و… كل هؤلاء هاجروا مع (محمد) وقال لهم في المدينة: أنتم أبناء هذه المدينة لكل منكم ما للآخرين. كلكم راعٍ وكل راعٍ مسؤول عن رعيته.. أي لا فرق بينكم أنتم أصحاب هذه المدينة. أما مرجعياتكم، فلكل مرجعيته, ألا يلتقي هذا القول مع العلمانية التي تقول: الدين لله والوطن للجميع! ثمة تحولات كبيرة في أوساط المسلمين الأصوليين, إذ بدؤوا القراءة وتثقيف أنفسهم.
لي كتاب سيصدر قريباً بعنوان: “الأصولية بين الظلامية والتنوير” أشرح فيه أن ثمة رؤى جديدة الآن أمام الإسلاميين؛ فقسم كبير منهم هاجر إلى أوروبا, وقد التقيت عدداً منهم. الإنسان ليس غبياً بالطبيعة, لاإنسان فوق التاريخ حسب ما يسوّقه المستشرقون، وأن لاعقل في العالم العربي, بل سوّق لذلك محمد عابد الجابري بأن العقل العربي غائب, وإنما يوجد الخطاب وميّز بين ثلاثة أنماط منه: العقلي والديني والبياني اللغوي.
الآن بدأ الفكر الديني يعيد النظر في شخصيته, أنا الآن أراهن على نشوء شيء جديد من هذا التحول العميق وعليه أقول وللمرة الأولى علناً: أنا بصدد التأسيس لعمل سياسي فكري ما.
¶ تعني مشروعاً في الكتابة أم مشروعاً على أرض الواقع؟
– بل على الأرض. لا أقول حزباً بالمعنى الدقيق, قد يكون عنوانه” التجمع الوطني الديمقراطي من أجل النهضة والتنوير”, لقد توصلت إلى هذا بعد أن اكتشفت التعامل مع – من الأقصى إلى الأقصى- من أقصى رجعية إلى أقصى اليسار, لكن الظلامية خارج ذلك، لأنها تعلن عن نفسها بعدم قبول الآخر.
¶ ألا تفكر هي الأخرى- الظلامية أعني- في إعادة النظر بنفسها؟
– يمكن.. مع تعاظم هذا التيار الجديد، فالظلامية نفسها تزول. لم تأت الظلامية بالولادة مع أفرادها, بل جاءت من الداخل المدمر والمحطم الذي يفتقد الكرامة والحرية والديمقراطية, ثم جاء الغرب ليضع يده على العملية وبالتالي المؤامرة هي مؤامرة الداخل أولاً.
¶ نحن أمام بديل ديني كما تفترض!!
– أعتقد أننا أمام بديل جديد من الفكر الديني التنويري وهذا مهم جداً, إضافة إلى نقطة حاسمة اشتغلت عليها طويلاً في كتابي عن نشأة الفلسفة العربية “من اللاهوت إلى الفلسفة العربية الوسيطة” واكتشفت أن القول الإسلامي بأن الإسلام يرعى العقل شيء جيد, لكنه لا يخرج عن العقل الديني, لكن هذا العقل الديني لايتجاوز كل شيء, ويقف حين يصل إلى الكليات اللاهوتية, واكتشفت أن هذا العقل والتأكيد عليه إسلامياً فتح الأبواب ضمن الإسلام نفسه, وبالتالي من أين جاء المعتزلة مثلاً؟ لقد توصلوا إلى العقل العقلي, وبعدها جاء الفلاسفة ابن رشد وابن باجة وابن طفيل.. والمناظرات بين بعضهم (كما بين ابن رشد والغزالي) هذه صفحات غائبة ونحتاج إلى قراءتها قراءة نقدية تاريخية جديدة في ضوء العقل والحداثة والديمقراطية. فالبديل موجود وإنما الفعل السياسي الآن هو المدخل, والمدخل العملي هو التأسيس لعملية التأسيس.
¶ كم ستستغرق من الوقت؟
– هناك التأسيس النظري السياسي والنظري الفلسفي. من هنا أنا أعمل على الصعيد السياسي والنظري فكلاهما يفضي إلى الآخر، وهذا ما نشتغل عليه. مشروع النهضة والتنوير العربي، هذا الأمر الذي أحلته إلى عنوان سياسي.
¶ التنوير والنهضة فعلٌ تراكم ويحتاجان إلى الوقت للعمل على تغيير مفاهيم وأفكار وقناعات؟
– لذلك يسبقه ويرافقه, أو يسبقه محاثياً .. يسبق العمل النظري ويمشي معه.. فالسياسة أولاً: أي الديمقراطية.
¶ سُحبتْ السياسة من التداول منذ زمن الوحدة.. وبدأ التأسيس للدولة الأمنية
¶ تفكيك الدولة الأمنية أولاً.. أما تفكيك النظام، فأمر غامض قد يخلط بين الدولة والنظام
¶ الأصولوية تؤكد أن السابق يجبُّ اللاحق وأن الحقيقة وجدت مرة وحيدة فقط!
¶ لأول مرة وبعد عقود يخرج الناس ليطالبوا بإسقاط النظام الرأسمالي وفي عقر داره
اجرت المقابلة سوزان ابراهيم ,بلدنا