يتميز الوضع العالمي الحالي شرقا وغربا بسيطرة نوع من المركزية , ففي الغرب يسيطر المال وعلى السلام الاجتماعي يشرف نوع من الديموقراطية , الذي يؤمن للفرد قدرا من الاحترام والحرية والاستقلالية , بحيث لايجد هذا الفرد سببا لكي يصبح أنارشيا متطرفا , وانما اصلاحيا معتدلا , أما في بلادنا فلا توجد أسبالب تمنع الفرد من أن يصبح انارشيا متطرفا , في بلادنا لاتوجد رائحة أقوى من رائحة الرصاص ورائحة الجثث المتفسخة , بلادنا أصبحت مقبرة , وفي المقبرة تولد الأنارشية .
في بلادنا فشلت القومية وفشلت الشيوعية والرأسمالية والاشتراكية والدينية ..بلادنا فشل من أولها الى آخرها , ولهذا السبب تتطرف الأنارشية , وتتخذ صورا جلية نتراها في بلدان حركات الربيع العربي الرافضة لكل قيادة ولكل مركزية ..بلادنا بلاد التأزم من الحاكم , الذي اصبح متسلط , والذي لايريد تقليص تسلطه زمنيا ..الى الأبد ..شك مفتوح , ومن لايعجبه ذلك فله حساب مع الأمن ..
لا أظن على ان المتظاهر في ساحات التحرير يعرف على أنه بالواقع “أنارشي ” , انه يتصرف بدون منهج أو برنامج ..شبه غريزي , يريد الآن فقط ازاحة حجر الماضي والحاضر عن صدره ليستطيع أولا التنفس ,لقد أصبح الانسان بطبيعته أنارشي , ولم يختار الأنارشية “عقلانيا” وبعد دراسة ودراية , كما يختار الانسان الشيوعية أو القومية أو غير ذلك , وانما الوضع جعل منه أنارشيا من حيث لايدري وقد لايريد.
زوال أي ايجابية عند وضع معين , يجعل من ازالة كلية لهذا الوضع أمرا ضروريا , والأنارشي يهدف الى ذلك , ويثوم بذلك , ويرى طريق النجاة في في بتر التسلط والمركزية بترا كاملا , كما أنه يرى على ان صناعة القرار يجب أن تكون بيده وليس بيد غيره كفرع الحزب أوالقيادة القطرية أو رئيس الجمهورية , الذي لايرى الأنارشي به حاكما , وانما موظفا برتبة أعلى , الأنارشي لايرضى بفكرة “الحاكم” التقليدية , وانما يريد هو أن يكون حاكما على نفسه , ولما كان الأنارشي اجتماعي أيضا , لذا يمكن القول انه يرفض المركزية لصاح لامركزية تعتمد في صنع قرارها على المجموع ..الأنارشية كما أفهمها ليست تعبيرا عن الانفلات الفردي , وانما تعبيرا عن الالتزام الاجتماعي الجماعي الهادف الى تحقيق عدة مطالب منها المساواة ورفض العنف الهرمي الهيكلي الذي يتمثل بالديكتاتورية , الأنارشي هو العضو العامل والمتعاون في النقابة والانتفاضة والتعاونية ومجالس الادارة المحلية , وليس ذلك التخريبي , الذي يريد تدمير كل شيئ دون أي اعتبار , الأنارشي يريد ازالة الخراب وليس التخريب , وهل يمثل وضع بلادنا الحالي أقل من الخراب المطلق , وهل في ازالة الخراب تخريب ؟, الا أن الديكتاورية وأتباعها والمستفيدون منها لهم نظرة أخرى , لايرون الخراب لطالما يؤمن الخراب لهم امتيازات وفوائد , الديكتاتورية وأتباعها هم الأعداء الأصوليين للأنارشية .
الأنارشية تتهم السلطة بأنها المسبب الوحيد لوجودها , أي أن السلطة هي المبررالوحيد لوجود السلطة , وان لم يكن ذلك صحيحا بشكل مطلق , فهو صحيح نسبيا , والواقع يظهر لنا في الكثير من الحالات دجلا سلطويا يخترع اكاذيب ليبرر من خلال هذه الأكاذيب ضرورة تواجده التسلطي القسري , وتاريخنا الحاضر يعج بأمثلة عن هذه الظاهرة , وكل ماحدث في عشرات السنين الأخيرة هو اختراع لأسباب تبرر شكل السلطة القمعي , فقانون الطوارئ ضروري لأن الدولة في حالة حرب , افقار المواطن ضروري للممانعة والمقاومة , حجب الحرية ضروري من أجل التصدي للامبريالية العالمية , لا وقت للديموقراطية بسبب الانشغال بالحريري , ولا وقت للاصلاح الاداري بسببر غزو العراق ..وكل هذه المنهجيات هي منهجيات منقولة عن الحضارة الدينية , التي تعتبر نفسها السبب الوحيد لوجودها , فالدين موجود لسبب واحد هو الدين بحد ذاته .
تتشابك الأنارشية مع المسيحية كفلسفة ومع الشيوعية ومع العديد من الفلسفات , الا انها تتميز عن الشيوعية ببعض النقاط , ومن أهم هذه النقاط بما يخص الثورة هي ميل الشيوعية الى التعامل مع الوضع الثوري تحليليا , بينما تتعامل الأنارشية مع الوضع الثوري أخلاقيا , ثم ان فعالية التحليلات الشيوعية طويلة الفاعلية نسبيا , اما أخلاقية أو بالأحرى مزاجية الأنارشية فهي ذات فاعلية أقصر , وقد يكون هناك بعض التكامل بين الشيوعية التحليلية وبين الأنارشية التطبيقية , خاصة عندما تتطابق أخلاقية الأنارشية مع تحليلات الشيوعية , التحليل للشيوعية والتطبيق للأنارشية .
من الفروق بين الشيوعية والأنارشية يمكن ذكر وحدانية الايديولوجية الشيوعية , في حين لاتوجد ايديولوجية واحدة في الأنارشية , في الأنارشية يوجد كل شيئ جنبا الى جنب , الأنارشية متسامحة ايديولوجيا , وهذا التسامح الايديولوجي ثم المواقف المبنية على نظرة اخلاقية عابرة أو غير عابرة هو الذي لايتلائم مع ايجاد بديل ذو استمرارية معقولة للمؤسسات التقليدية كالقضاء والتشريع والدفاع والاقتصاد وغير ذلك من المجالات التي تعتمد تقليديا على وجود سلطة , بينما تنفر الأنارشية من السلطوية وتريد الابتعاد عنها.
بعد أن فكرت في الأنارشية أريد القول , آملة ان يكون بقولي بعض الصحة , على أن الأنارشية ضرورية لكل مجالات الحياة , وذلك بشكل ثانوي وليس أولي ..أي أنه يمكنها أن تكون “ملحق” لكل حركة أو اتجاه , ووجودها “كملحق ” في أي حركة يعطي الحركة الكثير من الديناميكية والأخلاقية , التي تفتقر اليها بلادنا بشكل مرعب , فلا ديناميكية ولا أخلاقية , انما خربة , لذلك يلزمنا الكثيرمن” ملحق” الأنارشية
العكس هو الصحيح يا عزيزتي: كل بلائنا من الاناركية أو الأنارشية وأنها هي من يتحكم بنا ويسيطر على عقولنا فنحن في الحالات العادية نتصرف بأناركية بل و عدمية شبه مطلقة وفي كل شيء من تربيتنا لأطفالنا حتى التعامل مع المؤسسات العامة وصولا الى نظرتنا و تخطيطنا للمستقبل! مشكلتنا أننا نتعامل مع قضايا الوطن على طريقة أم أن تمضي الأمور كما نريد لها أو نواجهها بالاناركية والعدمية!!