الأزمة السورية وخليج الخنازير

 

 

الأزمة السورية وخليج الخنازير

 

يبدو من المفيد في زمننا هذا استحضار التاريخ لنفهم الواقع ونتوقع المستقبل وتبدو فكرة استحضار التاريخ مفيدة أحياناً فهو قد يكون صورة عن الواقع ولكن بإحداثيات مختلفة أي إن السيناريو قد يكون ذاته مع اختلاف الشخصيات وتباين في الإطارين الزماني والمكاني لحركتها ولَعلّي أرى في أحداث الأزمة الكوبية مطلع الستينيات من القرن الماضي والتي عُرفت باسم (أزمة خليج الخنازير) ما يشابه كثيراً ما يجري في سورية هذه الأيام.

شكل سقوط نظام باتيستا وانتصار الثورة الكوبية وتحول زعيمها فيدل كاسترو إلى رمز للثورة ضد القهر كابوساً للولايات المتحدة الأميركية وتحديداً أنها شعرت وكأن الاتحاد السوفييتي بات على حدودها فبدأت حملات التآمر من أجل إسقاط الثورة فقامت عام 1960بجمع فلول النظام المنهار وبعض المرتزقة وتدريبهم ودعمهم بالمال والعتاد في محاوله لاستعاده كوبا من يد الثوار ولكن طموحها أخفق بعد أن أسقط الثوار عملية الإنزال التي قامت بها هذه القوات في خليج الخنازير وقتلت وأسرت العديد منهم، لينجح الثوار في الحفاظ على انتصارهم ورد الاعتداء وإلحاق الهزيمة بهؤلاء المرتزقة الذين باعوا وطنهم بحجج واهية ومن ثم تحولت كوبا بالكامل إلى نقطة ضعف في خاصرة الولايات المتحدة الأميركية لتندلع بعدها بسنتين تقريباً ما يسمى أزمة الصواريخ السوفييتية.
بدأت الأزمة عندما قام الاتحاد السوفييتي سراً بنشر صواريخ نووية في شبه الجزيرة الكوبية موجهة نحو الولايات المتحدة الأميركية كرَدٍ على نشر الولايات المتحدة لصواريخ جوبيتير في كل من إيطاليا وتركيا، حيث قام الروس بتطوير 36 صاروخاً يحمل كل منها رأساً نووية يوازي 66 قنبلة نووية من التي ألقتها الولايات المتحدة الأميركية في هيروشيما وراح ضحيتها مئات الآلاف من الأبرياء والتي لا يزال سكانها يعانون من تشوهات خلقية نتيجة لهذه الجريمة البشعة.
اعتبر السوفييت يومها أن الأزمة ناتجة عن عدم رغبة الولايات المتحدة في الاعتراف بالاتحاد السوفييتي كلاعبٍ مساوٍ لها في الساحة الدولية فكان الرد الأميركي صريحاً أن أي صاروخ نووي سيتم توجيهه نحو أميركا سيكون الرد عليه في الاتحاد السوفييتي.
شكك البعض في أن مسرح المعركة لن يكون الأراضي السوفييتية ولا الأميركية ولا حتى الكوبية وكان الظن أن الأراضي الألمانية ستكون هي المرشحة لأن تستضيف هذه المعركة لكونها كانت صورة مصغرة عن انقسام العالم إلى جبهتين يفصل بينهما جدار يبدو هشّاً في بنيانه ولكن حجم الخلافات التي يفصلها تبدو أكبر بكثير من قدراته.
احتدمت الحرب الدبلوماسية واشتعلت التصريحات من كلا الجانبين وظن الجميع أن الأمور متجهه نحو صدامٍ نووي بين الطرفين حتى أرسل الرئيس السوفييتي خروتشوف رسالة واضحة للرئيس الأميركي كيندي مفادها (أنا وأنت نمسك بطرفي حبل معقود وقد نصل لمرحلة لا يفك هذه العقدة إلا السيف).
تم التوصل إلى حلٍّ وسط تسحب بموجبه الولايات المتحدة صواريخها من تركيا وتسحب روسيا صواريخها من كوبا واشترطت الولايات المتحدة ألا يكون الاتفاق مكتوباً حفظاً لماء الوجه ومن ثم تم نزع فتيل الأزمة وهذا ما عبرت عنه زوجه كينيدي بعد اغتياله في رسالة وجهتها لخر وتشوف قائله: (كنتما عدوين لكنكما تشاطرتما قناعة واحدة أنه لا يمكن السماح بتفجير العالم).

الصراع نفسه بفارق بسيط
ربما عاد الصراع ذاته ليتكرر اليوم مع فارق بسيط:
يومها كان العالم منقسماً إلى محورين يتنازعان السيطرة وكان الصراع محتدماً على النفوذ لدرجه اقتربا فيها من الصدام النووي، أما اليوم فالأزمة تبدو وكأنها صراع لولادة عالم متعدد الأقطاب من جديد والعودة لزمن الحرب الباردة وسيفتخر السوريون يوماً أن صمودهم أنقذ العالم من ذاك الشرطي الذي نصّبَ نفسه طوال العقود الماضية وتحديداً بعد أحداث 11 أيلول كحاكم عسكري لشعوب العالم يسرق وينهب خيراتها بحجج واهية كالدفاع عن حقوق الإنسان والحرب على الإرهاب علماً أنه قتل في العراق وحده فقط ما قتله الإرهاب أو الديكتاتورية في العالم أجمع، ولقد ساعده على ذلك أمور عديدة أهمها:
غياب المنافس في الملعب الدولي وسط تخبط روسيا في مشاكلها الداخلية وتحديداً الاقتصادية منها لكونها وريثة الاتحاد السوفييتي المنهار وكذلك بقاء الصين بمكانتها كقوة أقرب للحياد وتحديداً أن قيادتها ارتأت اللعب بصمت حتى يتسنى لها الانقضاض.
عربياً أيضاً لم يختلف الوضع كثيراً فهناك دول خارج السياق الحضاري للبشرية تقوم على مبدأ جديد يعتمد على (حكم الأمراء لشعبهم بنفسهم) وهي دول (خليج التآمر) فبالإضافة إلى سعي هذه الدول للحفاظ على عائلاتها الحاكمة التي تحكم بظلم الشيطان لا بنور اللـه كان هناك سبب آخر وهو محاولة مملكة تقطيع الرؤوس (تبييض صفحتها) بعد تورط عدد كبير من مواطنيها بأحداث 11 أيلول أما مصر فكان الأمر واضحاً أن نظام حسني مبارك كان يريد التوريث بأي مقابل.
شيئا فشيئاً بدا انغماس حكام (خليج التآمر) في المشروع الأميركي واضحاً أن كان بمحاولة تصفية القضية الفلسطينية عبر المبادرة العربية (والتي استغرب حتى الآن لماذا لم تعلن سورية الانسحاب منها) والتي قال عنها الأب الروحي لهؤلاء الحكام اريئيل شارون أنها لا تساوي الحبر الذي كتبت فيه ثم قاموا بتسهيل احتلال العراق وتقديم كل العون اللازم لذلك ومن ثم التآمر على المقاومة الوطنية في لبنان ومحاولة الالتفاف عليها عبر أذيالهم المسماة 14 آذار والمساعدة بتقسيم السودان إلى أن جاءنا ما يسمى ربيع (آل ثاني) العربي.
منذ فترة أعلن الصحفي الألماني ويليام انداهي في لقاء متلفز أن البنتاغون خطط لما يسمى الربيع العربي منذ أكثر من 10 سنوات طبعاً هنا قد يعارضنا البعض قائلاً: وهل من المعقول أن يكون البنتاغون قد طلب من البوعزيزي أن يحرق نفسه؟!
جوابنا طبعاً لا، الأمر ليس بهذه السذاجة ولكن كان هناك تخطيط لتحريك ما يُشيع الفوضى الخلاّقة التي فشلت إشاعتها بعد انتصار المقاومة في حرب 2006 وكانت البداية ربما مصر نظراً لأن الحراك الشعبي كان في أوجه وكان الظن أن أيام مبارك كانت معدودة ولكن تزامن انتحار البوعزيزي مع الدعوات في مصر لمسيرات مليونية رفضاً للتوريث جعل الأمر ينطلق على عجَل وكلنا نذكر الطريقة التي قامت بها الجزيرة بتغطية الأحداث في تونس عندما كانت تتكلم عن اندلاع تظاهرات حاشدة وينقلون لنا صوراً تحاكي ما يتم عرضه حالياً من بابا عمرو وما شابه وربما لم تكن تونس في الحسبان أبداً وكان الهدف واحداً هو مصر وسورية وإذ حصل ما حصل في مصر كان الهدف التالي هو سورية بعد أن أسقطت ديمقراطية (خليج التآمر) وربيع (آل ثاني) العربي أكثر من مئة ألف قتيل ليبي ومزقت ليبيا.
مما لا شك فيه أن هناك الكثير من الوثائق والمستندات التي تم وضعها منذ ما قبل الحرب الأميركية على الإرهاب والتي تشرح بما لا يدع مجالاً للشك ما يجري حالياً في المنطقة عموماً وفي سورية خصوصاً من أحداث وفوضى وتربطها بمشروعين اثنين يصبّان في المصلحة نفسها وهي خدمة أمن الكيان الصهيوني:
الأول هو خطة (ينون) نسبة للصهيوني عوديد ينون الذي كان مديراً لمكتب مناحيم بيغن والتي تُعتبر استمراراً للتآمر البريطاني في الشرق الأوسط، هي خطة إستراتيجية صهيونية لضمان تفوق الكيان الصهيوني في المنطقة والتي تقتضي إعادة تكوين البيئة الجغرافية السياسية للدول المحيطة بالكيان الصهيوني. هذه الخطة التي تم نشر أجزاء كبيرة منها بين عامي 2006 و2008 في مجلة القوات المسلحة الأميركية تهدف إضافة لاحتلال العراق وتقسيمه محاولة زعزعة الاستقرار في كل من مصر ولبنان وسورية وإيران وبعض مناطق شمال إفريقيا وهذا كله بدا يتحقق شيئاً فشيئاً والأهم هو ما طالب به الكيان الصهيوني من إضعاف دمشق لأن إسقاطها سيكون السبب الأول في نجاح المشروع الثاني المسمى (الملكوت) وهو عبارة عن وثيقة سياسية كتبت عام 1996 بواسطة ريتشارد بيرل الذي كان يعمل عضواً في البنتاغون في فترة رئاسة رونالد ريغان ثم أصبح لاحقاً المستشار العسكري لجورج بوش الابن، وتنص الوثيقة على أن الكيان الصهيوني يستطيع تشكيل بيئته الإستراتيجية بالتعاون مع كل من الأردن وتركيا وذلك بإضعاف ومواجهة الطموحات الإقليمية السورية وهذا الأمر لا يمكن له أن يتم إلا بإخراج سورية من لبنان.

أمران أساسيان
ولكن هذا كلّه كان بحاجة لأمرين أساسيين:
الأول وجود إعلام ذي مصداقية يُقنع المشاهد والمتابع العربي بأن الناتو بات حمامة سلام وأن النظام السوري بات خطره أكبر بكثير من الخطر الصهيوني وأن المقاومات إنما هي أذرع للكيان الصهيوني على حين وزير الخارجية الإماراتي (المحنك جداً والذي تخرّج في دبلوماسية خليج التآمر العريقة) إضافة لحمد بن جاسم وسعود الفيصل إنما هم المقاومون السّاعون لاستنهاض الأمة عبر الديمقراطية المحرّمة على شعوبهم.
ثانياً: وجود غطاء عربي لكل ما يجري ومن ثم تحوّل الجامعة العربية في ظل هذا الخوف والفوضى والتآمر إلى مظلة لكل هذا المخطط وهذا ما تحقق لهم حيث يجمع كلّ المراقبين الآن أن الأزمة السورية سببها عدم رغبة حكام (خليج التآمر) بالتراجع عما بدؤوه وهم من ثم مستعدون للذهاب بعيداً في دعم المسلحين والعصابات المجرمة حتى لو وصل عدد الضحايا في سورية إلى مئات الآلاف، فالجميع بات يدرك أن الأزمة السورية لن تنتهي إلا بتوقف التآمر الخليجي إن كان إعلامياً أو بدعم المسلحين الإرهابيين لأن دول (خليج التآمر) إنما تخوض معركة الدفاع عن نفسها وتحصينها من ردات الانتصار السوري وسورية تدفع الثمن عبر وكلاء الإجرام في (خليج التآمر) لأنها كما كوبا ربما حاولت أن تكون المحور الذي سيكون نقطة توازن بين القطبين الأقوى في العالم، ويبدو أن من حسن حظ الكوبيين أن أزمتهم جاءت من جهة خليج الخنازير وليس من جهة (خليج التآمر).

روسيا لم تعد تحتمل
من هنا يبدو أن الصراع سيستمر فهو من ثم صراع الأقطاب فروسيا لم تعد تحتمل أن تُحاصر بالدرع الصاروخية والولايات المتحدة تعتبر أن سورية يجب تأديبها لأن القيادة السورية تجاوزت الكثير من الخطوط الحمراء فهي عارضت غزو العراق ووقفت مع المقاومة في العلن وهاهي الآن تحبط كل ما فعلته أميركا بالسماح للروس بالعودة من جديد من خلال محطات مراقبة أو ما يُحكى عن نشر صواريخ اسكندر وهذا كله يعطينا الإشارة إلى أن الحرب ربما ستبدأ بعد ساعات ومن سيمتلك المبادرة ربما هو من سوف يُهزم بالنهاية وربما يكون قرار الحرب شاملاً لمحور المقاومة بالكامل من إيران حتى الضاحية الجنوبية والأهم هو التناغم التركي الصهيوني الخليجي في رفع حدة اللهجة ضد إيران وسورية والمسرحية السخيفة عن هجمات على السفارة الصهيونية في كل من الهند وجورجيا وهي تذكرنا بالذريعة التي حملت الكيان الصهيوني لاجتياح بيروت 1982 بحجة محاولة اغتيال سفيرهم في بريطانيا والأهم أن على روسيا والصين أن تدركا أن معركتهما الآن ستحفظ لهما الوجود 100 عام قادمة وعليهم أن يتذكروا تماماً ما يكرره المرشح الجمهوري السابق للرئاسة الأميركية جون ماكين أن الربيع العربي سيصل يوماً إلى بكين وموسكو فهل سيكون الزعماء في كلا البلدين سعيدين بحمد بن جاسم أو بوزير خارجية الإمارات (المحنك جداً والذي تخرج في دبلوماسية خليج التآمر العريقة) وهما يُحاضران في الديمقراطية للشعبين الروسي والصيني.. ربما الأمر يستحق المجازفة والأهم من ذلك وبما أن العالم الآن ينتظر لحظة الصفر هل سيكون هناك (كيندي وخروتشوف) آخران يمنعان أي أحد من تفجير العالم إرضاء لطموح أشباه الرجال بالبقاء في مناصبهم؟
على المستوى الشخصي لا أعتقد ذلك، فإن كنت أرى ببوتين الزعيم المستقل فإني أرى بباراك آل سعود عبارة عن شبح لرئيس وهذا ما يجعلنا نصدِّق المقولة السائدة في الغرب إن أميركا كانت بحاجة لتبييض صورتها بالمجيء برئيس أسوَد ولكن يبدو أن هذا الأسود قد سّود وجهها أكثر.
ولكي يبان الخيط الأبيض من الأسود يبدو اجتماع ما يسمى أصدقاء سورية (بات ببرنار ليفي صديقاً حريصاً على سورية…) يوم 24 الشهر الجاري حاسماً وهو الاجتماع الذي سيحدد وجهة المنطقة فإما أن يُمعن المستعربون في تآمرهم ويعلنون عن تدخل عسكري محدود وهو ما سيشعل العالم بكامله وعندها سنضطر أن نؤجل إعلان انتصارنا رسمياً أو أن ينسحبوا بقراراتٍ لاتُسمن ولا تغني من جوع وعندها نعلن رسمياً انتصارنا كسوريين لنبدأ بالتفكير جدياً بمرحلة ما بعد الانتصار.
في المطلق فإن ما حدث في كوبا من خلال سفك للدماء البريئة عبر العصابات الإجرامية المدعومة من الشيطان الأكبر الولايات المتحدة عقاباً لها، يبدو مشابهاً لما يجري اليوم في سورية وفي كلتا الحالتين فإن كلا الصمودين سيسجله التاريخ، لكن ما سيسجله التاريخ أيضاً أنه من خليج الخنازير في كوبا إلى (خليج التآمر) على سورية تعددت الوسائل واختلفت أعداد الضحايا ولكن بقي للأزمتين عنوان واحد
… خليج…

فراس عزيز ديب- فرنسا   

جريدة الوطن السورية.

 

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *