ديمقراطية المأزوم الفــوضـــى,ديمقراطية المأزوم هي ديمقراطية مأزومة!

ديمقراطية المأزوم الفــوضـــى أم ديمقــراطيـــة الأزمـــات؟

“لأن الديمقراطية بدأت في مدينة أثنيا اليونانية عندما أصبح الإله إنسانا..”(*).

 رياض متقلون

إن مجتمعاً مأزوماً يعيش في الماضي ولا يخرج عن أسره هو مجتمع مأزوم على نحو عضال، ولنقل ما نشاء عما قاله المستشرقون فالحقيقة هي أنه لا يمكن لمجتمع مأزوم أن يصبح مجتمعا ديمقراطياً بين ليلة وضحاها! وقد لا يصبح ديمقراطياً أبداً بالمعنى الغربي ما بقي مأزوما!!

من السهل جداً رفض أو تبني أفكار هؤلاء المستشرقين حول استعداد المجتمع العربي لتبني الديمقراطية منهجا في نواحي حياته على الأقل من الناحية السياسية، إذ يبقى الأمر قابلا للجدل والنقاش لأسباب تعود إلى تطور معطيات الواقع التاريخي الذي نعيشه عن الواقع الذي وصّفه المستشرقون. وتبقى جملة من المعطيات تثير القلق عند التعاطي مع موضوع الديمقراطية في مجتمع يعاني أزمات وتحديات عضالية تبدأ في استفحال الأمية الكتابية وغير الكتابية ولا تنتهي عند تشرب معطيات قرونوسطوية في عقلية الغالبية العظمى من أفراد مجتمعنا ووجود تهديدات أمنية وعسكرية مستمرة تمر من وجود كيان عسكري قام ويستمر في البقاء على العدوان مع وجود معايير دولية غير عادلة محابية لهذا الكيان. وإذا لنا جميعا الحق والواجب أن نسعى إلى إصلاحات سياسية في بلادنا فإنه لنا الحق في أن نتخوف على معطيات دولة علمانية وتعليم علماني ومؤسسات «قابلة للتطور والارتقاء» (evolution) عبر الزمن قد تصبح جميعها ضحية من ضحايا إصلاحات غير مدروسة وغير ممنهجة أو متسرعة تقذف بنا حيث بدأنا إبان نيلنا الاستقلال الوطني فنعود على بدء يفضي بنا بتكرار الأخطاء ذاتها ناسين أننا في سباق مع الزمن ذلك الزمن الذي قد لا يكون لمصلحتنا وقد لا يغفر لنا أبدا عدم قراءتنا الواعية له.

(1) أزمات الماضي تطارد وتزاحم أزمات الحاضر:


فمجتمعنا لا يعيش أزماته الراهنة فقط بل إنه يعيش حتى أزمات مؤجلة تاريخيا مصدرة من الماضي إلى الحاضر (ذات بعد زماني أو تاريخي) تماما كما يعيش أزمات مصدرة من الخارج (ذات بعد مكاني أو جغرافي). فالمجتمع العربي لا يعيش أزمة معركة الجمل التاريخية فقط وما نجم عنها من معارك (مجرد مثال ليس أكثر) بل حتى إنه يعيش أزمة أقدم وأكثر إرهاقا تعود إلى أكثر من 3000 سنة قبل الميلاد. فأزمة وجود إسرائيل في «الشرق الأوسط» مثلا هي أزمة تقوم على أحداث تاريخية أو بالأحرى أسطورية وقعت وربما لم تقع أصلا منذ آلاف السنين وإذا وقعت فعلا ربما لم تقع حيث يزعم أنها وقعت فيها (راجع مؤلفات د. كمال صليبي) ولكننا وبسبب ضعفنا التاريخي العضال حل الغرب أزمة من أعقد أزماته وهي ما تسمى القضية اليهودية في أوروبا (راجع مؤلفات د.عبد الوهاب المسيري) بأن فتش في السجلات القديمة ورأى حل مشكلته أو أزمته بأن صدرها لنا عبر خلق ربيبته الحركة الصهيونية وكأنه يرد الجميل لنا عندما صدرنا الديانات التوحيدية له فخلقنا وقتها له ودون سوء نية مبيتة أزمات من الصراع مع ما كان لديه من معتقدات وأفكار محلية من وثنية وغيرها ها هو يقتنص الفرصة لما جاءت اللحظة التاريخية فاختلق إسرائيل وزرعها بيننا رادا ربما حسب ظنه لنا الجزاء لتصدير أفكارنا التوحيدية إليه ناسيا أننا لم ننشر أفكارنا إليه بحد السيف فمثلاً عندما انطلق القديس بولص من دمشق لينشر المسيحية في ربوع أوروبا لم يكن يقود جيشا من المقاتلين وإنما كان يحمل معينا من الأفكار فانتصرت هذه الأفكار لقوتها الروحية ولم تنتصر لقوة عسكرية تفرضها بقوة البوارج وحاملات الطائرات وصواريخ كروز الإستراتيجية.
ولنعد إلى مجتمعنا المأزوم، أذكر مرة أن الكاتب والأستاذ الكبير الراحل ممدوح عدوان قال لي ساخرا ضاحكا كعادته ما معناه أننا نعيش أحداث الماضي لدرجة أنه تفور دماؤنا وتغلي وكأن قاتل الحسين عليه السلام «متخبي عند الجيران.» إن تشعب الأزمات وتراكمها فوق بعضها البعض دون القدرة على نفضها أو نفض بعضها عن كاهلنا يجعلنا ننوء بحمل ثقيل يشدنا إلى الأسفل ويجعل انطلاقنا وتحليقنا صعبا إن لم يكن مستحيلا لأنه يفاقم الأزمات ويزيد تراكمها فوق بعضها البعض.
الديمقراطية تتطلب تصالحا مع الماضي أو التاريخ وتجاوزا له والديمقراطية تتطلب كفا ليد الغرباء ( «الأسياد الفرنجة*2  حسب مركب النقص عندنا»* 3) عن أمورنا لئلا تشكل اختراقا (
infiltration ) يعبث بقضايانا ويوقظ أشباح الماضي وأغوال الفتنة والانشقاق. وإلا إذا ما انتشرت الديمقراطية بين أناس مسكونين مترعين بالماضي حتى الثمالة استيقظت الفتنة وأشباحها عبر حرب يطمح الأمريكيون والإسرائيليون إلى إشعالها بين إيران والعرب ضمن الحدود الإقليمية بل حتى إشعالها ضمن حدود الوطنية العربية كما في لبنان أو سورية. إن شعبا لا يقرأ وإذا قرأ أقبل على كتب عفا عنها الزمان (راجع الإحصاءات الصادرة عن المنظمات المختلفة، عن هزالة عدد الكتب المترجمة والمنشورة في العالم العربي نسبة إلى عدد السكان*4) ولم تعف هي عن هذه الكتب المترعة بغبار الصحراء وغبار الماضي، لا يستطيع أن يحرز ديمقراطية بمفهوم تنويري حداثوي حقيقي.
الديمقراطية الغربية جاءت نتيجة مخاض طويل جدا وكانت نتيجة وسببا لجملة من الانجازات الفكرية والثقافية والسياسية وحتى العلمية طويلة الأمد ومع ذلك ورغم طول مسيرتها على الأقل من «الماغنا كارتا» (*5) الانكليزية وحتى ما بعد الثورة الفرنسية أي مرورا بحكم الملك هنري الثامن وحتى نابليون الثالث فقد شهدت نكسات خطرة جداً كنكسة صعود النازية في ألمانيا والفاشية في ايطالية (* 6) لذلك علينا أن ندرك أن جميع مفاهيم ومعتقدات البشر، أو أية مجموعة من البشر، وحقوقهم وواجباتهم مرهونة بدرجة ما من التطور (*7) (
Cultural Evolution) والارتقاء الفكري، والإرث الثقافي والواقع الاقتصادي والسياسي.

(2) الوضع الجيوسياسي:


والعسكري يفرض حالة ما من التأزم لا يمكن تحييد قضية الأمن والتهديد العسكري للمنطقة العربية وسورية بشكل خاص عندما ندرس أو نناقش موضوع الديمقراطية في بلادنا ولنتذكر أن قادة إسرائيل كلهم كانوا من المؤسسة العسكرية كما لا يمكننا تجاهل عسكرة المجتمع الإسرائيلي الذي لا يكاد يخلو فرد فيه من أن يكون مرتبطا بالحياة العسكرية بطريقة أو بأخرى ولا يمكننا تجاهل الاختراقات الأمنية والمخابراتية الإسرائيلية المعادية لنا والتي أسفرت عن اغتيال شخصيات عربية كبيرة ثقافية أم صحفية كانت أم نضالية كغسان كنفاني وعماد مغنية وغيرهما الكثير الكثير. شئنا أم لم لا فأننا أمام مجتمع بأكمله ودولة قضها بقضيضها لخدمة جيش عسكري عالي العدائية لوجودنا مزود بأعتى صنوف الأسلحة المتطورة المحرمة علينا تحريما تاما بل يكون الحصول على بعضها تهمة تخرب بموجبها بلدان وتقتل أو تشرد جراها ملايين البشر.
فالوضع الجيوسياسي والعسكري في هذه البلاد المأزومة يحتم فرض حالة لا يمكنها أن تنسجم مع المعايير الغربية للديمقراطية تلك المعايير التي سرعان ما يمكن تخطيها بل وانتهاكها عند ظهور معطيات تهديدات أمنية ما. وكذلك لا نستطيع بمقتضى معايير «الديمقراطية» الغربية أن نساوي بين حالة إضراب تشهدها فرنسا ومالها من دخل قومي سنوي مثلا وحالة إضراب ما تشهده سورية مثلا ذات الدخل القومي السنوي المحدود المنهك ببنية اجتماعية «نامية» وبنية اقتصادية «بدائية أو متخلفة» دخل موكل به الصرف على التعليم العام والصحة والدفاع في الوقت الذي تبلغ أحسن ميزانية سنوية له حوالي 15 مليار دولار في حين أن عدو سورية إسرائيل تتلقى على نحو رسمي وشعبي دعما أميركيا فقط ، عدا ما يأتيها من دول غربية أخرى ومن يهود العالم, أكثر من ميزانية سورية لعام كامل وعدا الدعم التكنولوجي الذي لا يقدر بثمن وعدا المساعدات الطارئة التي تمنحها الولايات المتحدة لإسرائيل وعدا ناتجها المحلي الصناعي والتكنولوجي الذي يتفوق حتى على أحسن ناتج لأي من دولة من دول الخليج النفطية.
كما علينا أن نتذكر أن إحدى آليات مقاومة التغول الغربي «الفرنجي» على قضايانا وشؤوننا هي آلية «ماضوية» بطبيعتها من وجهة نظر حداثوية ما يعني أننا وربما لن نستطيع تحقيق ديمقراطية حداثوية متكاملة ما لم نقص أولا هذا التغول الغربي علينا وخير مثال على تلك الآليات المقاومة أن كل المقاومة «التقدمية» في جنوب لبنان بدت غير مقتدرة في وجه التغطرس الإسرائيلي حتى ظهرت المقاومة الإسلامية متمثلة في «حزب الله» وظهر معها ذلك المقاوم المعزز بروح قتالية عالية مسكونة بروح الشهادة والظفر (*8) بما هو ما بعد الموت ولو أن البعض يدعي أن المقاومة «التقدمية» لم تعط فرصتها كما أعطيت الفرصة للمقاومة الإسلامية فإنني أزعم أنه لا يمكن أن ينافس جزاء «الجنة للشهيد» أي جزاء آخر يمكن أن يقدم العزاء لشخص يفقد حياته أو حياة من يحب في مقاومة الأعداء ، كما أنه يجب عدم نسيان تجربة المقاومة العراقية ضد الاحتلال الأمريكي وتجربة مقاومة حركة حماس في غزة فالتجربتان تؤكدان الآلية الممكنة لرد الاحتلال العسكري. لا يمكن إنكار دور الحس الديني عند الجندي الأميركي في الروح القتالية لأفراد الجيش الأميركي، وإذا أهملت بعض الجيوش العربية دور رجل الدين في الجيش فإنه لا تزال الجيوش الأميركية توظف وعاظاً من الدين المسيحي البروتستانتي الانجيلي لخدمة جنودها معنويا أثناء الحروب بل حتى إنها وظفت وعاظا من الدين الإسلامي لخدمة الجنود المسلمين المنضوين في صفوف الجيش الأميركي. (هذا الحس الروحي كان عاملا حاسما في الروح القتالية العالية عند المقاتل الكماكازي الياباني في الحرب العالمية الثانية وهو عامل لا يمكن تجاهله).

(3) ديمقراطية المأزوم هي ديمقراطية مأزومة:


فهل هذا يعني ألا نسعى إلى تحقيق الديمقراطية في بلادنا أبداً؟ طبعاً لا ولكننا علينا أن نتبنى شكلا ما من الدولة العلمانية ذات درجة ما من الديمقراطية تتوافق مع حقيقة واقعنا ومع جميع مفاهيمنا ومعتقداتنا وإرثنا الثقافي والفكري الواقعي، (لنأخذ بالحسبان تفشي الأمية المتعددة الأشكال بما فيها الأمية الثقافية التي تنتشر حتى بين شريحة من المتعلمين من أطباء ومهندسين ممن الأغلبية العظمى منهم لا تستطيع التمييز بين العلمانية والإلحاد مثلاً ولا يعرف عنهما شيئا إلا من خلال ما يتلقونه شفويا من رجال الدين لديهم) تتبنى آلية لتداول السلطة وآلية للتجدد والإصلاح السلمي شبيهة ربما بطريقة ما بأحد النموذجين التركي أو الماليزي. وبمعنى ما إن هذه الديمقراطية هي بنية مؤسساتية تكفل آلية سلمية لتداول السلطة ولكن عليها وفي الوقت نفسه أن تكفل حتمية ألا تتحول إلى «ديمقراطية الأجداد» بما لهم من ميول دينية وطائفية وقبلية وعشائرية وعرقية في الوقت نفسه ألا تتحول إلى «ديمقراطية» أجيال منسلخة (ديمقراطية الأحفاد المنسلخة) تماماً عن ماضيها وإرثها الحضاري والثقافي. وقد يقول قائل إذاً هي، أي هذه الأجيال، اختارت وبديمقراطية هذا الانسلاخ فلمَ نعطي لأنفسنا حق الوصاية عليها؟ والجواب هو أنه بعد استبعاد العامل الخارجي الطامع في أرضنا ومقدراتنا وفي محو ثقافتنا لتحل محلها ثقافته حيث نكون له أتباعاً وخدماً، بعد أن نستبعد هذا العامل الخارجي نستطيع أن نكون ما نشاء لأننا نستطيع وقتها أن نكون أحراراً في اختياراتنا دون إملاء ممن يسعى لأن يسود العالم إما عبر أساطيله وجيوشه أو عبر غزوه الثقافي .
إن إيجاد حالة ما من الديمقراطية التي لا تنصاع إلى ما سميتها «ديمقراطية الأجداد» ولا إلى ديمقراطية «الأحفاد المنسلخة» هي حالة من الديمقراطية المقيدة (لنتذكر أن الديمقراطية الأميركية هي ديمقراطية مقيدة بين التصويت الشعبي وتصويت ما يمكن تسميته التصويت النخبوي أو فيما يعرف بالهيئة الانتخابية (9*).
إذاً هذه الديمقراطية عليها – ما دام المجتمع العربي مجتمعاً مأزوماً – أن تكون ديمقراطية مقيدة تشرف عليها مؤسسة مؤلفة من أعضاء لهم تاريخ مقبول من خدمة المجتمع لا تسمح بعودتها إلى ما سميته «ديمقراطية الأجداد» ولا إلى ديمقراطية الأحفاد المنسلخة ومن ثم تضمن ألا يقوم أحد بتأسيس حزب على أسس دينية أو طائفية أو قبلية في الوقت نفسه لا يسمح بتأسيس حزب منسلخ عن إستراتيجيات الأمة بحيث لا يقوم حزب حاكم بتوقيع اتفاقية منفردة مع الأعداء متناقضة مع نسيج الأمة على غرار اتفاقية «كامب ديفيد» وفي الوقت ذاته يضمن سيرورة آلية تداول سلمي للسلطة ويضمن رفد الحياة السياسية بدماء متجددة قادرة على قيادة المجتمع نحو غاياته الآنية والإستراتيجية.
علينا ونحتاج إلى أن نضبط ديمقراطيتنا ونقوننها بالطريقة نفسها التي تحتاج فيها أميركا إلى قوننة اقتناء السلاح الفردي (رغم أن امتلاك السلاح وارد قانوناً في نص الدستور الأمريكي) في المجتمع الأميركي فكم من مراهق أمريكي وصل السلاح إلى يديه وفي لحظة انفلت السلاح من يديه إلى صدور رفاقه ومدرسيه والمارة من الأبرياء وكم قضى من سنين خلف القضبان يعض أصابع الندم وكم أكلت روحه من روحه بل كم أكل الحزن من روح كل من عرف ضحايا هذا المراهق بل من عرف المراهق نفسه؟ في بلادنا قد تكون الكلمة غير المنضبطة في مجتمع مأزوم تباينت بنيته الموزاييكية ليس الطائفي والعرقي والديني فحسب بل حتى الاجتماعي بين دمشق وريفها أو حلب وريفها، قد تكون هذه الكلمة غير المنضبطة أو المقيدة في مجتمع مأزوم كهذا أخطر وأشد فتكاً من السلاح في يدي المراهق الأميركي.

في نهاية الأمر الديمقراطية هي حصيلة قوى متعددة في مجتمع مدني ناضج (أي ليس بدائي بدوي أو ريفي) ناتجة عن عملية طويلة من التفاوض والجدل والاحتكاك بين قوى ناتجة عن جملة من الشروط الموضوعية لمجتمع ما وفق ظروف معينة تاريخية.

رياض متقلون:

مدرس في جامعة دمشق كلية الآداب والعلوم الإنسانية – قسم آداب اللغة الانكليزية – فكر ومسرح عصر النهضة الأوربية (مسرح شكسبير). مدرس مادتي الاتجاهات الثقافية في التاريخ العربي المعاصر ومادة تاريخ العصور الوسطى في العالمين العربي والأوربي في برنامج التعليم المفتوح قسم الترجمة في جامعة دمشق. مدرس في قسم الدراسات القانونية في الجامعة الافتراضية السورية. خريج ومدرس سابق في قسم الدراسات والنقد المسرحي في المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق.عضو سابق في الجمعية الكونية السورية. وعضو سابق في تجمع طلاب كليتي الهندسة الميكانيكية والكهربائية. (*10)

ملاحظات إضافية:

( *) علينا أن نلاحظ أولا أن الديمقراطية هي نتاج لمفهوم “المدينة” أولا، ثانيا ناجمة عن جعل الإله إنسانا أو بخصائص و صفات الإنسان. ثالثا يجب الإشارة الى إن التعددية العرقية والطائفية في بلادنا العربية وفي سورية بشكل خاص تعود ربما إلى أسباب تاريخية وجغرافية وإلى «ديمقراطية» «”زائدة” إذا قبلنا بفكرة أن قبول الأخر بلا تحفظ ومشاركته ذات الأرض و ذات مصادر الحياة كالماء والتربة الخصبة هو شكل من أشكال ممارسة الديمقراطية أو ناجمة عن عقدة نقص اتجاه الأخر أو ناجمة عن نمط الحياة البدوية القائمة على الترحال التي وفقها لا تشكل الأرض مصدر “شبكة الأمان” ولا مصدر رأسمال» بالمقارنة ببقية الشعوب و تنبع من عدة أسباب منها الدين الإسلامي الذي وإن جاء ليقول إنه يتوج الديانات السماوية السابقة له إلا أنه لم ينكرها وإنما اعترف بها وأقر بحقها في الوجود والبقاء والاستمرار ضمن نسيجه الخاص. في حين أن القضية اليهودية في أوروبا نشأت عن عدم تحمل وتقبل الأوروبيين المسيحيين (لا لبنية داخلية ضمن الدين المسيحي ولكن ضمن المنظومة الثقافية السائدة في الغرب الذي قضى أزمانا طويلة جداً يضطهد المسيحيين الأوروبيين الأوائل وكذلك شهدت أوروبا حروباً طاحنة كحرب المئة عام بين فرنسا وانكلترا وحرب الثلاثين عاماً الطائفية في ألمانيا بين الكاثوليك والبروتستانت والحروب الإنكليزية مع كل من السكوتلنديين والايرلنديين ذات الطابع القومي والديني والمستمرة إلى يومنا هذا وغيرها من حروب أوروبا الطاحنة) لوجود اليهود «قتلة المسيح» بينهم وحملوهم ما فعلوه اليهود بالمسيح وانتهجوا سياسة تمييزية ضدهم في الوقت الذي قدم العالم العربي لليهود، باعترافهم هم، ملاذا آمنا عبر التاريخ وأشهر مثال على ذلك هو احتضان العرب لهم إبان أيام محاكم التفتيش الإسبانية. لقد تعصبت أوروبا تعصباً شديداً للمسيحية وبأشكالها التاريخية وقامت على إنكار الآخر إنكاراً تاماً حتى ضد بعضها البعض ضمن النسيج الأوروبي ذاته وحتى ما قبل الإصلاح الديني البروتستانتي وانشقاق الكنيسة الغربية. على حين تمظهر هذا التقبل للآخر (Tolerance) في البلاد العربية حتى في البعد غير الديني كما في البعد العرقي مثل تقبل هجرة الآريين من آسيا (الأكراد) والشركس والأرمن وغيرهم وتقبلوهم ضمن نسيجهم حتى أصبح صلاح الدين الأيوبي أشهر قائد تاريخي لهم ودخلوا ضمن نسيجهم الثقافي والاجتماعي والعرقي. إن هذا التقبل قد يكون صادراً عن نزعة إنسانية متأصلة ناجمة عن الموقع الجغرافي للعرب الذي دائماً هو موقع يتوسط العالم القديم وبالتالي الالتقاء الحضاري والثقافي ومعبر الطرق التجارية وطرق التواصل الإنساني في العالم.

 2*) استخدمت مصطلح «الفرنجة» لأنني أعتقد أن أجدادنا العرب أحسنوا في ابتكار هذا المصطلح الذي يشير إلى غربتهم وربما غربيتهم دون استخدام المصطلح الغربي القرونوسطوي (Medieval) الذي يحمل دلالة دينية قرونوسطوية وهو مصطلح الصليبيين (Crusaders) وللمفارقة فإن الجماعات القرونوسطوية العربية والإسلامية المعاصرة لا تستخدم المصطلح العربي بل الغربي ما يدل على قرونوسطويتهم.
3*) عقدة النقص هذه تتجلى في أكثر من شكل في حياتنا وأضرب أمثلة تتراوح من قاعدة الهرم إلى ذروته: ما يزال الكثير من المفكرين والفنانين السوريين بل حتى المهندسين والأطباء يصرخون ألما عن سبب عدم اعتراف أهلهم في سورية بمكانتهم ضمن اختصاصهم حتى يأتي طرف ما من خارج حدود الوطن، يفضل الغربي بالتأكيد، لكي يتم الاعتراف بتميزهم. كم مرة قدم الفنان غسان مسعود مسرحية متميزة في دمشق وانهالت عليه الانتقادات في الصحف السورية وحاولت تكسير العمل ورميه في المكب وفي غضون أقل من شهرين أخذ جهابذة النقد في كيل المديح له ولعمله بعد أن تلقى جائزة أو اعترافاً بتميزه من جهة غير سورية حيث قال لي مرة «إلى متى أحتاج أن أقدم لهم حسن سلوك وفن من برا؟» عقدة النقص هذه تتمظهر فيما تتمظهر في وجود زعماء عرب وسياسيين عرب قابلين للانخراط في مشاريع فرنجية تضر في مصالح العرب وفي معاداة العرب لبعضهم البعض. تظهر في غياب استقلالية القرار العربي وتبعيته لسياسات خارجية. تظهر عقدة النقص هذه في شن حروب على العرب من أعداء العرب الذين يفرضون دفع تكاليف هذه الحروب من جيوب العرب لنتذكر آخر مثال على ذلك وهو دفع بعض الدول العربية لتكاليف العمليات العسكرية للحلف الأطلسي في ليبيا مؤخراً وتصديق جامعة الدول العربية على العمليات الحربية في ليبيا وغيرها كثير.
4*) الأرقام تشير إلى أن ما ترجمه العرب منذ عهد المأمون حتى أيامنا هذه لا يكاد يوازي ما تترجمه إسبانيا مثلاً (وهي الدولة التي تكاد تصنف من الدول النامية بالنسبة إلى أوروبا) وأن حصة الفرد العربي من الكتب المنشورة والمترجمة في العالم العربي يعادل نصف صفحة سنويا. ولا بد أن أشير هنا إلى أن دخول قارئي البخت والمشعوذين هي من أعلى الدخول في الوطن العربي.


(*5)
 Magna Carta 1215.
(6 *) والستالينية في روسيا إذا أخذنا أوروبا بشكل عام وليس أوروبا الغربية بشكل خاص، علما أن ثمة فرقاً يجب الاعتراف به.
( *7)
Cultural Darwinism.
(8 *) ممزوجة بالتخطيط العلمي الممنهج.

(*9) Electoral College

 

(*10) في المجتمعات الغربية “الديمقراطية” عند استعراض شخص ما لكثرة أشغاله ونشاطاته تفقع نكتة تنطوي على شيء من التهكم من قبيل “طبعا وفي اليوم السابع أنت تأخذ راحة” من باب الطرفة المستندة الى الحديث عن الإله في كتاب العهد القديم الذي أخذ الراحة في اليوم السابع!! لقد تقصّدت طرح شيء من مسيرتي العلمية لأقدم هذه النكتة التي تساعدني على توضيح فكرة مفادها أن مجتمعا لا يقبل بمثل هذه النكتة على صعيد إنساني بمعنى أنسنة (humanize) الإله أو العكس لا يمكن أن تنشأ فيه ديمقراطية على النمط الغربي لأن الديمقراطية بدأت في أثنيا اليونانية عندما أصبح الإله إنسانا وصارت درجات المعابد تبنى بحجم خطوة وقدم الإنسان في حين أن معابد الشرق الفرعوني والبابلي والآرامي السوري (أي ما قبل ظهور المسيحية السورية) كانت بحجم كبير جدا تتناسب مع الاعتقاد أن الإله هو فوق الإنسان وكل شيء يقاس به وليس بالإنسان وعندئذ يصبح كل شيء قدريا و تستبعد الإرادة الإنسانية في الفعل.

 

ديمقراطية المأزوم الفــوضـــى,ديمقراطية المأزوم هي ديمقراطية مأزومة!” comment for

  1. Dear Dr. Riad Matqualoon,
    How nice to read some of your writings in Arabic!

    You have taught me Arabic when I came to Damascus University in 1997!and I still read your writings in English in America but now I am ready to read as much as you write .
    I liked your joke about the seventh dday, very true such a joke can’t be in any publication in Syria though I hear something similar from Alshabab in Syria.
    Looking forward seeing you very soon!
    Yours Alex.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *